السبت، 26 يوليو 2025

        التَصوّفُ العَليمُ:

الحبيبُ عليٌّ الجفريُّ، والأستاذ حسن البنّا!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد: استمعتُ إلى السيّد علي الجفريّ الباعلويّ الحسينيّ الحضرميّ الصوفيّ، ينتقد مؤسس جماعةِ الإخوانِ المسلمين الأستاذ «حسن بن أحمد بن عبدالرحمن البنّا الساعاتي» رحمه الله تعالى.

كلمة (الحَبيب) في اليمن الجنوبيّ وحضرموتَ؛ تعني (السيّد العلويَّ من ذريّة الحسن والحسين عليهما السلام) فإذا كرّرتُ هذه الكلمةَ؛ فلا تفهم أنّني أحبّه وأواليه وأوافقه على مسلكه الصوفيِّ الذي هو عليه.

أوّلاً: أتباعُ المذاهبِ الأربعةِ من أهلِ السنّة - بالمجمَل - لا يجوّزون الخروجَ على الحاكم الظالمِ والسلطان الجائر، لا نصرةً لهذا الظالم الجائر، ور رضاً منهم منه!

إنما خوفُهم على المسلمينَ الذين تسلّط عليهم هذا الحاكم، من أن يزيدَ في ظلم المسلمين وقتلهم وسجنهم وأذاه إيّاهم.

وجميعهم - جميعهم جميعهم - يقولون: إنّ هذا الحاكمَ آثمٌ في تغلّبه وفي ظلمه وفي طغيانِه على المسلمين.

[هذه نقطة مهمّةٌ، يجب أن تكون واضحةً أمام الذين ينقمون على أهل السنّة موقفَهم هذا «وأنا مِن المنتقدين بالتأكيد»].

فشطْرُ موقفِ الجفريّ الأوّل مفهومٌ ومنسجم مع معتقداتِ الأشعريّة التي ينتمي إليهم.

أمّا الشطرُ الثاني، وهو الدفاعُ عن الحكام الظالمين، وموالاتُهم، ومنحُه لهم الأمان؛ فهذا الذي يحقّ لنا أن نناقشَه فيه.

ثانياً:الأصلُ في مناهجِ  الصوفيّةِ من أهلِ السنّةِ؛ هو الإعراضُ عن الدنيا، وعدم مزاحمةِ أهلها عليها؛ يحتجّون بقولٍ منسوبٍ إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لفظه (ازهد فِي الدُّنْيا؛ يُحبَّك اللهُ، وازهَدْ بِما فِي أَيدي النَّاس؛ يُحبّوكَ).

أخرجه ابن ماجه في سننه (4102) وضعّفه البوصيريّ في مصباحه (4: 209).

فالصوفيّةُ يسابقون بقيّةَ المسلمينَ في الأعمالِ الصالحةِ: العلمِ، والعبادةِ، وذكر الله تعالى، والسلوكِ القويمِ، والأخلاقِ الفاضلة.

اهتمامُ الصوفيّ الملتزمِ؛ مختلفٌ عن اهتماماتِ غيره، حتى لو كان من العلماء!

انْظُر إلى أناقةِ العالمِ السنّيِ في تصفيف شعره، وأناقة مظهره، وجمالِ عمامته، وغلاءِ قيمة مُسَبّحته.

وانظر إلى عالمٍ أو طالبِ علم صوفيٍّ مثلي - على سبيلِ التقريب: يلبَسَ ما تيسّر، ويظهر أمامَ الناس من دون كلفة، ولا يعنيه أبداً أن تكون عمامته مكوّرةً عاليةً، ولا أن يكون جلبابه مكويّاً، ولا أن يكون عطره فوّاحاً، ما دام لا يصدر عنه رائحةً كريهةً، وكانت ثيابه نظيفةً طاهرةً!

تَأمّل على سبيلِ المثالِ  شيخنا «محمد بن عبدالكريم الكسنزان» رحمهما الله تعالى!

كان يسعه أن يلبس العمامةَ الغاليةَ، والجبّةَ العراقية الفخمة، والشالَ الحريريَّ الثمين!

لكنه كان يلبس ثيابَه الكُرديّةَ التي نشأَ وشبَّ، يرتديها في محيط إقامته.

وتأمّل عشراتِ العلماءِ والشيوخِ الذين يجلسون في حضرته مؤدّبين صامتين، لا يتكلّم أحدهم بحرفٍ، حتى يستأذن حضرةَ الشيخ «الكسنزان» بالكلام!

زادُ الصوفيِّ في رحلته إلى الله: الكِفايةُ الماليّة حتى لا يحتاج، ثمّ المحافظة على الفرائضِ، والمداومة على الرواتب والمندوباتِ، وتلاوة القرآن، وقيام الليلِ، وصيام النهار، والالتزام التامّ بالأوراد الوظيفيّة، وحفظ لسانِه ويده وجوارحه كلّها عن أذى المسلمين.

لا يتدخّل بالسياسةِ؟ نعم لا يتدخّل بهذه السياسة القذرةِ، التي ما كانت ساميةً قطُّ، إلّا في زمان الأنبياء «الأنبياء فحسب!».

ثالثاً: الحبيب عليّ الجفريّ لا يُعَدُّ من العلماء، إنما هو من الشيوخِ التقليديين، الذين حضروا الدروس المؤهِّلَةَ للمشيخة، وسلك الطريقَ الصوفيَّ على بعضِ أهلهِ، فصار شيخاً منظوراً إليه، فهو وأمثالُه من شيوخ حضرموت «قرّاءُ متون المذهب» و«وُعّاظ».

وهذا وصفٌ صحيحٌ، والأمّة بحاجةٍ إليه أكثرَ من حاجتها إلى مثلي؛ لأنّ هؤلاء الشيوخ؛ هم الذين يجيدون التعاملَ مع الجهّالِ والعوامّ.

رابعاً: يعلم جميعُ قرّائي - فيما أظنّ - أنني لست من أهل العلمِ الذين يفخّمون بشيوخهم، ويضخّمون مهاراتهم، ويشيعون من كراماتهم!

بل إنني لا أرى في هذه الأمّة كلّها رجلاً أهلاً لتقليده والاقتداء به، سوى رجلٍ واحدٍ فحسب، هو رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!

وما من رجلٍ سواه في أمّة الإسلامِ، إلّا لديه صفاتٌ، وصَدرت عنه مواقفُ، تحتاجُ إلى تفسيرها وتسويغها والاعتذار عنها.

هكذا هي شخصيّتي منذ كنت طفلاً صغيراً في المدرسةِ الابتدائيّةِ، لم أشعُرْ بعظمة أحدٍ في حياتي، حتى أبي وجدّي!

التقيت سيّدي محمد الحافظ التجّاني في أواخر سنة (1976م) ولا أتذكّر اليومَ والشهرَ بالضبطِ، لكنّ الذي أتذكّره يقينا؛ أنّ القاهرةَ كانت باردةً جدّاً، وأنّ زخّات المطر الخفيفة ظلّت ترافقني وصديقي «أسامة عبدالعظيم» الذي أصبح فيما بعد «دكتوراً» أزهريّاً أصوليّاً، إلى الزاوية التجانيّة في حيّ «المغربلين» و«عطفة الدالي حسين» رحمه الله تعالى.

توطّدت العلاقةُ بيني وبين سيّدي الشيخ التجّاني، ربما أكثرَ مما بينه وبين ولديه السيّد «أحمد» رحمه الله تعالى؛ لأنّه لم يكن يراه إلّا في عطلةِ نهاية الأسبوع، بينما كنت ملازماً للزاوية ستّةَ أيّام في الأسبوع، ولي مع حضرة الشيخ لقاءان يوميّاً: أحدهم صباحيّ، والآخر بعد العصر.

كان الإخوان المسلمون يعظّمون الأستاذ حسن البنّا تعظيماً، لا يمنحونه لأحدٍ غيره، مع أنّ في جماعة الإخوانِ عدداً كبيراً أعلمَ منه، وأوسع دائرة ثقافيّة!

بل إنني سمعتُ أحدَ شيوخي الحمويّين، الذين صحبوا الشيخَ البنّا وتلمذوا له يقول: «الشيخ حسن البنّا ليس مجدد القرن الرابع عشر فحسب، إنّما هو مجدّد قرون سابقة عديدة»!

قرأتُ جميع ما نُسبَ تأليفُه إلى الشيخ «حسن البنّا» وقرأتُه وأقرأته لطلابٍ آخرين، بيد أني ما توصّلتُ إلى تلك القناعةِ العاليةِ، التي يضفيها الإخوان المسلمون عليه.

فسألتُ سيّدي الشيخ الحافظ التّجاني أسئلةً كثيرةً تخصّ الشيخ «حسن البنّا» منها:

قلت له: سيّدي، كم سنةً عاصرتم الشيخ حسن البنّا؟ قال: أكثر من عشرين سنةً!

قلت له: وكيف كانت لقاءاتكم به؟

[انتبهوا إخواني].

قال: هو الشيخ حسن رحمه الله تعالى؛ جعلني في اللجنة التأسيسيّة لجماعة الإخوان المسلمين، وكنت أحضر جميع اجتماعات اللجنة، ما لم أكن مريضاً، أو منشغلاً!

وكان الشيخ حسن يأتينا في الزاويةِ، يسألني ويشاورني في أمور الجماعةِ، فالصلة بيننا قريبةٌ جدّاً، وبيننا تواصل عائليّ، حتى والده الشيخ أحمد كان يزورني أكثرَ من الشيخ حسن، ويسألني عندما كان يرتّب «مسند الإمام أحمد» رحمه الله تعالى.

[ذكر لي سيدي الحافظ موقع الزاويةِ، السابقة على زاوية المغربلين، لكني نسيت موقعها].

قلت له: هل وجدتم الشيخ حسن البنا صالحاً، أو كان من أهل الدنيا؟

فتح عينيه بأقصى طاقتهما، وتبسّم قائلاً: كان رجلاً ربّانيّاً صالحاً من أهل الطريقِ!

لكنّه كان طيّبَ القلبَ كثيراً، مثلكَ تماماً، لا يظنّ السوءَ بأحدٍ، ويحبّ الخير لجميع المسلمين!

لا لا بل يحبّ الخير لكلّ الناس، وكان يحزن على العصاة والفساق وغير المسلمين كثيراً، ويقول: هؤلاء مساكين، كيف سيحتملون عذاب الله تعالى يوم القيامة.

تابع قائلاً: «على فكرة» كان معنا في اللجنة التأسيسيّة لجماعة الإخوان المسلمين عضو من الأقباط!

رحمه الله تعالى ما أرقّه وما أطيب قلبه، كان يحبّ أن يهتدي الناسُ كلّهم، فيكونوا من أهل الجنة!

«دمعت عيناي غضبّاً عني وتابعت»: سيّدي هل كان الشيخ حسن البنّا عالماً؟

رفع حاجبيه الطاهرين عالياً بشدّةٍ وقال: عالم؟ نعم عالم وأكثر من عالمٍ، وأبوه أعلمُ منه» انتهى المقصود من حواري مع شيخي في هذا المنشور.

خامساً: هل كان الشيخ حسن البنّا صوفيّاً؟

لا يخفى على أحدٍ أنّ الإخوانَ المسلمين يهتمّون بقياداتهم، ويبرزون خصائصهم وفضائلهم، وربما بالغوا في ذلك أحياناً، من وجهة نظري!

وعندما عرّفونا بفكر الشيخ حسن البنّا؛ قالوا لنا: يتلخّص فكر الإمام حسن البنّا بكلمات بليغة عميقة (نحن دعوة سلفيّة، وطريقةٌ سُنيّةٌ، وحقيقةٌ صوفيّة).

وكان من واجباتنا اللازمة يوميّاً «المأثورات الصغرى» ومن واجباتنا الأسبوعيّة «المأثورات الكبرى» وهي ضعفُ المأثورات الصغرى أو أكثر!

وحدّثونا أنّ إمامنا «حسن البنّا» كان رجلاً عالماً ربانيّاً.

وجميع موجّهينا في جماعة الإخوان حدّثونا أنّهم يحافظون على «المأثورات الصغرى» في الحدّ الأدنى، وكانوا يوصوننا بتلاوة جزءٍ من القرآن الكريم، والمحافظة على الرواتب والنوافل، وصيام يومي الإثنين والخميس، وصيام الأيّام البيض!

ثمّ إنّ سلوكَ طريقةٍ صوفيّة بعينها، على شيخٍ بعينه؛ ليس واجباً شرعيّاً، ويَسَع كلّ مسلمٍ أن يكون ربّانياً، من دون أن ينتسب إلى أيّ طريقةٍ صوفيّة، إذا قام بما يتطلّبه قلبه من الطهارةٍ وجوارحه ومشاعره من الأذى والأنا، وطبّق ما في القرآن الكريم من أحكامٍ وسلوك وآدابٍ وأخلاق.

بشرطٍ واحدٍ هو أنْ لا يُعادي السادةَ الصوفيّة؛ لأنّ عداءهم مؤشّرٌ على نفاقٍ في القلب، وزَغَلٍ في الفكر، ونرجسيّة جاهلة، إذْ هم أكبر طبقات المجتمع المسلم تحقُّقاً بعبادةِ الله تعالى!

ختاماً: سأوجّه إلى ابن عمّي السيّد علي الجفريّ وأمثالِه نصيحةً قلتها للرئيس صدّام حسين رحمه الله تعالى، في الشهر الخامس، من عام (1992م).

قلت له: «يا سيادةَ الرئيس: إنني أحملُ إليك تحيّات إخواني السوريين، الذين ينعمون بالأمن والأمان في بلدكم العراق العظيم.

يا سيادةَ الرئيس: إنّ جماعةَ الإخوانَ المسلمين؛ أشرف حركةٍ إسلاميّة وغير إسلاميّة، في عصرنا الحاضر!

نحن - يا سيادةَ الرئيس - لا نَغْدرُ ولا نَخونُ ولا نتفُل في الإناء الذي أكلنا أو شربنا منه.

وكلّي رجاء يا سيادةَ الرئيس أن يكون تعامُلك مع الإخوان المسلمين العراقيين؛ ينطلق من الحوارِ الجادّ والنصح الصادق.

نحن نريد للإسلام أن يحكمنا، وليس المهمّ أن نحكم نحن بالإسلام».

أخي علي الجفريّ: حتى تكون مؤهّلاً لأنْ تنتسبَ إلى جماعةِ الإخوان المسلمين، منتسباً فحسب؛ تحتاجُ أن تكون رجلاً أوّلاً، وصادقاً ثانياً، وشجاعاً ثالثاً، وبعيداً عن الظالمين رابعاً؛ لأنّ قربَ الظالمين يُسوّد الوجهَ، ويعزّز النفاقَ، ويجعلُك تحتهم صغيراً.

قال الله تعالى:

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ، وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ؛ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113).

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ؛ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق