مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ:
هل يُجزِئُ الإيماءُ مع القُدرةِ على السجودِ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمدُ للهِ، وسَلامٌ على عبادِه الذين اصْطَفى).
أمّا بعد: كلّنا نشاهِدُ بعضَ المصلّين يقعُد على
كُرسيّ، فإذا رَكَع الإمامُ؛ انحنى قليلاً وركع معه وهو جالس على كرسيّه، فإذا
سجدَ الإمامُ؛ انحنى أكثرَ من حالتِه عندما ركع، وأومأَ برأسه إيماءاً، فهل صلاةُ
هذا المصلّي صحيحةٌ؟
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: مَناطُ هذه المسألةِ ومدارُها؛ على قول
الله تبارك وتعالى:
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا).
(يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).
وقولِ الرسولِ صلّى اللهُ عليه
وآله وسلّم:
(إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ
يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا)
أخرجه البخاري (39).
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ «كيفية أداء» الصَّلَاةِ؟
فَقَالَ: صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ؛ فَعَلَى جَنْبٍ) أخرجه
البخاريّ (1117).
والقاعدةُ الفقهيّة (المشقّةُ تجلِب التيسير).
ثانياً: تصوير المسألة:
القراءةُ والقيامُ والركوعُ والرفعُ منه والسجودُ؛
أركانٌ في الصلاةِ، فمن تركَ أيَّ ركنٍ منها ـ وهو قادرٌ على أدائِه ـ بطلت
صلاتُه.
فمن استطاعَ القيامَ؛ وجب عليه القيامُ من أوّل
القراءةِ إلى آخرها.
ومن استطاعَ القيامَ حتى نهايةِ الفاتحة، ثمّ
تَعِبَ، أو عَجِزَ؛ قَعدَ بالوضع الذي يجعله يؤدّي الصلاةَ مرتاحاً، يمكن أن يخشع
فيها.
ومن استطاع الركوعَ قَدْرَ تسبيحةٍ واحدةٍ تامّة
(سبحان ربي العظيم) أجزأه ذلك الركوع.
ومَن لم يستطع الركوعَ التامّ؛ انحنى بالقدر الذي
يقوى عليه من دون مشقّة.
ومَن استطاعَ السُجودَ؛ سجدَ قَدْرَ تسبيحةٍ واحدةٍ
تامّة (سبحان ربي الأعلى) أجزأه ذلك السجود.
فلم كان لا يستطيعُ السجود لمرضٍ أو وجَعٍ في
ركبتيه، ماذا يصنع؟
ثالثاً: للعلماءِ في هذه المسألةِ قولان:
القولُ الأوّل: أنّه ينحني في موضع سجودِه أكثرَ
مما ينحني في موضعِ ركوعِه، ويومئ إيماءاً، ولا يرفع إلى جهةِ وجهه شيءٌ يسجد
عليه، وهذا تكليفُه، وهو مرويّ عن بعضِ الصحابةِ: عَبداللهِ
بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنِ صَلَاةِ
الْمَرِيضِ فَقَالَ: يَسْجُدُ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئاً
يَسجُد عليه.
والقول الثاني: إذا وُضِعَتْ على الأرضِ بين يديه
مَخدّةٌ أو وِسادةٌ أو مِرفقةٌ؛ أو شيءٌ يُرفَع بين يديه، بحيث يستطيع وَضْعَ
جبهتِه عليه؛ أجزأه ذلك.
قال أبو بكر ابن المنذر في الأوسط (4: 382)
«إِنْ وَضَعَ وِسَادَةً عَلَى الْأَرْضِ، فَسَجَدَ عَلَيْها؛
أَجْزَأَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَسْجُدُ
عَلَى مِرْفَقَةٍ مِنْ رَمَدٍ كَانَ بِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي السُّجُودِ عَلَى
الْمِرْفَقَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَكَى؛ سَجَدَ
عَلَى مِرْفَقَةٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ ابن حنبلٍ فِي الْمَرِيضِ يَسْجُدُ عَلَى شَيْءٍ؛
رَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ؟ أَحَبُّ إِلَى أَنْ لَا يَرْفَعَهُ، فَإِنْ فَعَلَ؛
فَلَا بَأْسَ.
وَيَسْجُدُ عَلَى الْمِرْفَقَةِ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَوْمِئَ
بِرَأْسِهِ، على حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ
إِسْحَاقُ بن راهويه.
وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ السُّجُودُ عَلَى
الْوِسَادَةِ أَوِ الْمِرْفَقَةِ إِذَا وُضِعَتْ بِالْأَرْضِ» [المِرفَقةُ:
وِسادةٌ مُرتفعةٌ تُحشَى من الليفِ].
ختاماً: مسألةُ «الإيماء» لم يثبت فيها شيءٌ عن الرسولِ صلّى الله
عليه وآله وسلّم، إنما اجتهد هؤلاء الصحابةِ بتقدير التيسير.
ومُقتضَى قولهم (عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى قَدْرِ
طَاقَتِهِ، لا يُجزيه غيرُ ذلك) أنّ الذي يستطيع أن يضع أمامه وِسادةً قاسيّةً،
بحيثُ يُمكّنُ جبهته عليها؛ لا يجزيه أن يومئ إيماءاً.
إذْ من المعلومِ أنّ الضرورةَ تُقدَّر بقدَرها،
وأنّ غايةَ التيسيرِ الذي تجلبه المشقّة؛ هو القُدرةُ على أداء المطلوب!
فكيف نجوّزُ لمن يستطيع السجودَ على لوحِ خشبٍ صغير
مرتفعٍ؛ أن يومئ برأسه إيماءً، وليس في سجودِه على ذلك اللوح أيُّ مشقّةٍ أو حرج؟
أمّا استغرابُ الناسِ في المسجد؛ فسيزولُ مع تكرارِ
المريضِ هذا الفعلَ، وتوضيحِ مذهبه الفقهيّ في ذلك.
وإن حصل بذلك إنكار من بعض العوامِّ؛ فيمكنه أن
ينتظر انقضاءَ الجماعةِ، ثم يصلّي في المسجدِ منفرداً، أو يصلّي في بيته، وقد نصّ
عليه الشافعيُّ في حالاتٍ عديدة.
انظر الأم (1: 151) والبيان في مذهب الإمام
الشافعيّ للعُمرانيّ (2: 444).
واللهُ تعالى أعلمُ.
والحمد لله على كلِّ حال.