الأربعاء، 30 يوليو 2025

  مَسائلُ فِكريّةٌ:

قيمَةٌ الحَياةِ الدنيا !؟

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ علَى عِبَادِهِ الذينَ اصْطفَى).

أمّا بعد: في الفِكْرِ الإسلاميِّ؛ خَلقَ الله تعالى الإنسانَ الأوّلَ «آدم» عليه السلام، مؤمناً بربّه تعالى، مُطيعاً له، محقّقاً المنهاجَ الذي اختاره له ولبنيه من بعده، منيباً إليه تائباً من ذنبِه، إذا أخطّا.

قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116).

فَقُلْنَا يَاآدَمُ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117).

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119).

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ يَاآدَمُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121).

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ، فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122).

قَالَ: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ!

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ؛ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123).

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي؛ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا، فَنَسِيتَهَا، وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) [سورةُ طَه].

فمنذ اليومِ الذي خلقَ الله تعالى فيه آدم، علّمه أسماءَ موجودات عالمه، وعلّمه الإيمانَ والهدى، وحذّره من العصيانِ والهوى، وإنْ ضَعُفَ أو غَفَلَ؛ علّمه التوبة والإنابة!

الحياةُ الدنيا في الفكر الإسلاميّ؛ تقابلُها الحياةُ العليا، ويُعّبر القرآن الكريم عنها بكلمة (الآخرة) غالباً.

قال الله تعالى:

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران].

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20).

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) [الحديد].

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) [البقرة].

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) [آل عمران].

(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) [الأنعام].

والعنوان الأشهرُ للحياةِ العليا في القرآن الكريم؛ هو الآخرة، كما تقدّم.

قال الله تعالى:

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) [البقرة].

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) [البقرة].

(فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) [آل عمران].

والحياةُ الدنيا بالنسبة للآخرةِ؛ مَتاعُ قليلٌ، لا يجوز لعاقلٍ أن يُضيع الآخرةَ العظيمةَ الكبيرةَ الممتدّةَ، من أجل أيّام قليلة فانية!

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) [التوبة].

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) [الرعد].

لا بل إنّ الحياةَ الدنيا بجميع ملذّاتها وجماليّاتها؛ لا تساوي يوماً واحداً من أيّام الآخرة، وإنّ أيّامَ الآخرة ذاتها تتفاوتُ ما بين ألف سنةٍ، إلى خمسين ألفَ سنة!

قال الله تعالى:

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) [الحجّ].

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج].

لو افترضنا متوسّط عُمُر الإنسان مائة سنة، عاشها كلّها في نعيم وعافية ورفاهية، بيد أنّه لم يكن من المؤمنين الصالحين، وجاء أدنى يومٍ من أيّام الآخرة (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) فيكون قد سَعِدَ يوماً، وشقيّ وخسر تسعةَ أيّام، وذلك خسرانٌ فظيع!

فإذا جاء يومُ الحسابِ، الذي (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فيكون قد سَعِد يوماً، وشقي وخسر (4990) يوماً، ثمّ ماذا؟ ثم يكون الخلود إمّا أو !

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة].

(إِنَّ الله َلَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) [الأحزاب].

وقد بيّن القرآن الكريمُ أنّ الله تعالى جعل هذه الحياةَ الدنيا محطّةَ تأهيلِ البشر للحياة الآخرةِ الخالدة.

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) [الإسراء].

وقد أرشدنا اللهُ تعالى إلى ذلك بوضوحٍ تامّ، ورغّبنا بأنْ نجعل لأنفسنا في هذه الدنيا زاداً ندّخره إلى الحياة الآخرة.

قال الله تعالى:

(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) [القصص].

ويحسن أنْ أنبّه إلى أنّ القول المشهور (اِعْملْ لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعْملْ لآخرتك كأنّك تموت غدا) ليس إسناده بصحيح!

وشطرُه الثاني صحيح المعنى تماماً.

قال الله تعالى:

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا، وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) [الأنبياء].  

وأمّا شطرُه الأوّلُ؛ فله محملان، أحدهما صحيح، وهو مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمْ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسيلَةٌ؛ فَلْيَغْرِسْهَا) أخرجه أحمد (12902) وإسناده صحيح.

فإذا غدا واضحاً لديك - أخي القارئ الكريم - وظيفةُ الحياةِ الدنيا وقيمتُها في الفكر الإسلاميّ؛ فعليك أن تبحث في القرآن الكريم عن قيمة الحياةِ الدنيا لدى غير المسلمين، وغير المسلمين جميعهم كفّار بالله العلي العظيم!

قال الله تعالى:

(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) [الأنعام].

وقال تبارك وتعالى على لسان الكافرين:

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) [المؤمنون].

وقال جلَّ وعزّ:

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) [الجاثية].

هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرةِ، ولا يؤمنون بالثواب والعقاب؛ ينحصر تفكيرُهم في هذه الحياة الدنيا وزينتها، ويتنافسون فيها على العلوّ والمتاع.

(وَعْدَ اللهُ، لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) [الروم].

مِن هنا كان الاختلاف بين المؤمنين والكافرين عميقاً بعيداً، فالحياة الدنيا بالنسبة للمؤمن خُطوةٌ واحدةٌ من خطواتِ الحياةِ الخالدةِ، بينما هي الحياة كلّها بالنسبة للكافرين!

ومن ههنا أيضاً ترى الكافرَ يَقتل ويغدر ويفجر ويفتري، من دون أدنى وارزع أخلاقيّ، إذ إنّه اتخذَ إلهه هواه.

ومن ههنا أيضاً تبرز صعوبةُ حياةُ المسلم بجوار حياةِ الكافر، إذ المنطلقاتُ مختلفةٌ، والأهداف مختلفةٌ، والوسائل لدى المسلم منضبطة، وهي لدى غيره مرسلة لا يقيّدها سوى مصلحته ومنفعته الدنيوية.

ولهذا أدعو دائماً إلى عزلِ العلمانيين مع غير المسلمين في محافظة واحدةٍ، بعيدين عن أهل الإسلام، حتى لا يؤثّروا على أخلاقِ العوامِّ فيفسدوهم، وحتى يُبعد المسلمون عن أنفسهم ظُلمةَ الكفر والضلالِ وغضبَ المقتدر القهّار.

والله تعالى أعلم.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 29 يوليو 2025

  إلى سوريّا مِن جَديدٍ:

الوَلاءُ والبراءُ ضرورةٌ عَقديّة!؟

بسم الله الرحمنِ الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

أمّا بعد: عنوانُ هذا المنشورِ؛ محلّه «مسائل عقدية» أو «مسائل فكريّة» وآثرت نشرَه تحت عنوان «إلى سوريّا مِن جَديدٍ» لأنّني أوجّهه إلى السوريين خاصّةً، إذ هم الذين يعيشون المحنة الجديدة الحاضرة!

ناظرتُ عدداً من حملةِ «الدكتوراه» في فروع الشريعةِ الإسلامية، وعدداً أكبر منهم، ممّن يُطلق عليهم علماء، وهم أعضاء في «اتّحادات العلماء» المتنوّعة، فوجدت كثيرين منهم يصرّحون بغايةِ الوضوح؛ بأنّ العصرَ الذي نعيش فيه لا يَحتملُ «الإسلام السياسيّ» ولا «تطبيق الشريعة الإسلاميّة» وأكثرهم يذهبون إلى مقولةِ «علمانية الدولة وإسلاميّة الأفراد».

وأكثرُ هؤلاء، وربما جميعهم؛ لم يمارسوا في حياتهم رياضة «فنون الدفاع عن النفس» فضلاً عن «الفنون العسكريّة» فهم في دواخل أنفسهم جبناءُ، يُرعبون من صوتِ الرصاصِ، ويخافون من الموت، وإن رفعوا أصواتهم وزعموا غير ذلك!

الوَطنُ في المفهومِ العلمانيّ: هو إقليمٌ من الأرضِ، جمعَ مجموعاتٍ من الناسِ، ترجع إلى أصل قوميٍّ واحدٍ، أو قوميّاتٍ متعدّدة، له حدودٌ رسمتها الدول الكبرى، وألزمت هذه المجموعاتِ بالانتماء إليه والدفاع عنه والاعتزاز بمنجزاته الإنسانية والحضاريّة!

وهدفُ الدولِ الكبرى؛ جعلُ الانتماءِ إلى هذا الوطنِ، بديلاً عن الانتماء الدينيّ والمذهبيّ!

إذْ إنّ اختلافَ الناسِ في تأمينِ سبلِ المعاشِ والاستقرارِ؛ يقودُهم إلى التنافسِ والإعمار، بينما تقودهم اختلافاتُهم الدينيّةُ إلى الاقتتالِ والتغالبِ والدمار!

وفي تاريخنا الإسلاميِّ قامت دولٌ كبرى وصغرى، متعاصرةٌ ومتناحرةٌ ومتصارعةٌ في الشرق والغرب والأندلس وبلاد فارس، بلادٌ سنيّة، وبلادٌ زيديّةٌ، وبلاد إسماعيليّة، وبلادٌ إماميّة! بيد أنّ الإنسان المسلم كان يستطيع أن يقيم في هذه الدولِ حيث يشاء، وكان يستطيع أن يجد له مكانةً عاليةً في المجتمع الذي اختار «المواطنةَ» فيه.

فالإمام محمود بن عمر الزمخشريّ؛ عالم مسلمٌ من قريةٍ صغيرةٍ من قرى مدينةِ «خُوارزم» في إقليم خراسان الإسلاميّ، سافرَ حاجّاً إلى مكّة المكرّمة، ثمّ طاب له المقام بها، فأقام، وكان عالم أهل مكّة وإمام الحرم، وغدا لقبُه «جار الله» الزمخشريّ.

والإمام عبدالملك بن عبدالله الجوينيّ، من بلدةٍ صغيرةٍ في غرب إيران؛ أقام في مكّة المكرّمة، وبرز فيها، حتى لُقّب بـ«إمام الحرمين» الجوينيّ، رحمهم الله تعالى.

لما سبق وغيره؛ فنحن - المسلمينَ - ننتمي إلى دينِ الإسلام عقيدةً، وإلى شريعته التزاماً، وإلى الوطن الإسلامي الكبير، من المغرب العربيّ إلى أندونيسياً معاشاً.

فولاؤنا ليس لقطعةٍ من الأرضِ؛ ألجأتنا الظروف إلى المواطنةِ والإقامة فيها، إنما انتماؤنا إلى عقيدة ذاك الوطن الإسلاميّ الكبير الفسيح!

قال الله تبارك وتعالى:

(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ  نَفْسَهُ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28) [آل عمران].

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51).

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يُسَارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ  أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) [المائدة].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا؛ مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا.

وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ؛ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَاللهُ  بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72).

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74).

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) [الأنفال].

وقال تعالى:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ  إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).

وَعَدَ اللهُ  الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة].

وقال الله تعالى:

(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67).

وَعَدَ اللهُ  الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ  وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) [التوبة].

هذه الآيات الكريماتُ توضح أنّ في المجتمعِ المسلمِ [مؤمنين، وكفّاراً ومنافقين].

وأنّ الولايةَ - بأيّ معنىٍ من معانيها: النصرة، الحبّ، التآخي - إنما تكون بين المؤمنين فحسب!

وأنّ للكافرين أديانَهم الخاصّةَ بهم، وولايتهم فيما بينهم.

وأنّ المنافقين بعضهم من بعض.

وفي الآخرة: الجنّة للمؤمنين وحدهم، والمنافقون والكفّار مصيرهم جهنّم!

هكذا يقول الله تعالى في القرآن الكريم، وإنْ رغمت أنوف جميع أولئك الذين يظنّون أنفسهم علماءَ، وإنما هم - في أحسن أحوالهم - جبناء، إنْ لم يكونوا من المنافقين!

والسؤال الحاضر دائماً: وماذا عن «غير المسلمين في المجتمع الإسلامي»؟

والجواب يسسير جدّاً جدّاً، قال الله تبارك وتعالى:

(لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ؛ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ.

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) [الممتحنة].

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ، وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَلَا تُطِعْهُمَا.

وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.

ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

حتى الوالدان الكافران ليس بينك وبينهما ولايَةٌ، إنّما عليك بِرّهما والعدلُ معهما.

أمّا الولاء؛ فهو لعقيدة التوحيد، وأمّا البراء؛ فهو من عقيدة الشرك!

قال الله تعالى:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (29) [29]. 

وقال الله تعالى:

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ.

كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ (4) [الممتحنة].

وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء إذن!

فالذي يقول: «الأصل في تعاملنا مع الكفّار الرحمة» يخالفَ الله تعالى جهاراً، فهو إذن حمار يحمل أسفاراً، وإنْ ظَنَّ، أو ظُنَّ أنّه من أهل العلم.

والله تعالى أعلم.

 والحمدُ لله على كلّ حال.

الأحد، 27 يوليو 2025

       التَصوّفُ العَليمُ:

 الكَراماتُ الماديّةُ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد: طلبَ أحدُ الإخوة الأصدقاء أن أعطي رأيي بكراماتِ الصوفيّةِ الماديّة، من مثل ضربِ الشيش والرمح، وأكل الزجاج، وتمكين الثعبانِ من مصّ لسان المريد وإمساك «الكابل» الكهربائيّ الرعيب!

أقول وبالله التوفيق:

حدّثني جدّي السيّد إبراهيم بن محمّد الحمش (1868 - 1968م).

وحدّثني والدي السيد محمود (1918 - 2012م).

وحدّثني عمي السيد محمد حمشو (1913 - 1970م).

كلٌّ منهم حدّثني على حِدته قالوا ما معناه: جدّك السيّد محمد الحمش (1813 - 1936م) كان آخر شيخٍ للطريقة القادريّة الخلوتية المتوارثة في «آل كنعان» حيث انتقل من الطريقةِ الخلوتيّة إلى الطريقةِ النقشبندية، وسلك على يدي العالم الصوفيّ الشيخ أحمد بن سليم المراد الزوركي الحمويّ (1876 - 1960) على الرغم أنّه من جيلِ أولاده، لما كان عليه الشيخ أحمدُ من العلم والتقوى، رحمهم الله تعالى.

ثمّ حدَثت جفوةٌ بين جدّي السيّد إبراهيم وبين شيوخِ الصوفيّة عامّة لأسبابٍ اجتماعية، فصحب جدي إبراهيم ووالدي وعمّي السيّدُ خالدٌ الشيخَ محمد سعيد الجابي (1879 - 1948م) وكانوا من أنصاره، حتى وفاته، رحمهم الله تعالى أجمعين.

لم أشهَدْ في حياتي جدّي ووالدي وأعمامي يحضرون مجلساً عامّاً من مجالس التصوّف!

بيد أنّ جدّي كان مواظباً على أورادٍ طويلةٍ قبل صلاةِ الفجر وبعدها، وبين الظهر والعصر، وقبيل المغرب وبعدها، وبعد صلاة العشاء.

ومع أنني عاصرته ووعيت تصرفاته بعد التسعين من عمره المبارك، إلّا أنّه كان يصوم شهر رمضان تامّاً، وكان كثيرَ صلاةِ النافلة.

وأوّل حدثٍ صوفيّ شهدته في حياتي، كان في عام (1959م) عندما زوّج ابن عمّة والدي السيّد مصطفى أحمد دروش الإعزازيّ ابنته الآنسة مريم إلى أحد أبناء عمومتها في إعزاز، وكانوا أهلَ «نوبةٍ» صوفيّة.

في مزرعتنا خلفَ المشتل الزراعيّ بحماة؛ أقيمت حفلةُ الزفاف، واستعرض أهلُ الزوج «العروس» كراماتهم، فكان منها غرس أشياش الحديد في أفواههم، وضرب بطونهم بأشياش أضخم منها، ويومها خفتُ كثيراً وبكيت!

في أثناء تعاطيهم ضربَ الشيش هذا؛ كان ابن عمي «حمدو» يشعل كميّة كبيرةً من الفحم في «صاج» ضخم، كانت نساؤنا يخبزن عليه «خبز الرقاق» في الولائم.

عندما انتهى القوم من ضرب الشيش؛ كوّنوا حلقةً كبيرةً جدّاً، وبدأوا يذكرون الله تعالى.

في هذه الأثناء ذهب والدي رحمه الله تعالى إلى جهة «الصاج» وهو أحمر من داخله وخارجه، ورفعه بكلتا يديه، ووضعه على رأسه، وصار يدور به داخل حلقة الذِكر.

صرخت صوتاً عالياً جدّاً، وهربت إلى جهة جدي وخبّأت رأسي خلفه، وكنت أظنّ أنّ والدي سيموت!

ظل والدي حاملاً «الصاج» على رأسه، وممسكاً به بيديه حتى انتهى مجلس الذكر!

كنت صغيراً، وكنت أخاف من والدي كثيراً، فلم أجرؤ أن أكلّمه بشيءٍ!

لكنني كنت جريئاً على والدتي رحمة الله عليها، فقصصت عليها ما فعله والدي، وقلت لها: نظرت إلى رأس والدي وكفّيه، لماذا لم يحترقا؟

تبسّمت الوالدة وقالت: هذه كرامة يا ابني، أنتم أولاد جَدّ!

قلت لها: ماذا تعني الكرامة؟ قالت: كما رأيتَ الشيش لا يضرّ، وجمر الفحم لا يضرّ!

قلت لها: وما معنى أولاد جدّ؟ قالت: يعني أنتم أصلاء جدّك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجدّتكم فاطمة الزهراء بروحي أفتديها.

في عام (1960) وفي منزل السيّد أحمد فارس السالم في منطقة الحاضر؛ أخذتُ الطريق على الشيخ عبدالقادر عيسى، رحمه الله تعالى، بعدما استأذن الشيخ جدّي!

ووكّل بي الشيخ فارس بن أحمد السالم، رحمهم الله تعالى أجمعين.

انتقلتُ من الطريقة الشاذليّة إلى الطريقة النقشبندية عام (1964) إذ سلكت الطريق على يد سيّدي الشيخ محمّد الحامد، في جامع السلطان قبل هدمه.

عندما كبرتُ واغتربتُ؛ تعرّفت إلى الطريقةِ القادرية والطريقة الرفاعيّة، وكلتا الطريقتان تمارسان «الفعاليّات» الماديّة هذه.

سلكتُ الطريق الرفاعيّ على يدي الشيخ «علي أبو زيد» الفلسطينيّ، رحمه الله تعالى.

ثم على يد الشيخ حاتم كاظم الدليميّ، ثم على يد الشيخ فَهد الشمّري «الجربا» حفظهما المولى، وأجازني بكلّ الفعاليّات!

طلبت من الشيخ حاتم أن يأذن لي بممارسة الفعاليّات؛ فلم يأذن لي، ودخلتُ إلى ساحة الضرب، وبيدي الشيش، فمنعني.

وأذن لي الشيخ فهد بالشيش والأفعى والنار وكلّ شيءٍ، لكنّه قال لي: إذا لم تُضطَرَّ إلى شيءٍ، فلا تمارس بنفسك، ويمكنك أن تمارس ببعض مريديك، ولا تخف!

في عام (1996) سلكت الطريقة القادرية الكسنزانية على يد سيّدي الشيخ محمد بن عبدالكريم الكسنزان، وكانوا يمارسون عدداً كبيراً من «الفعاليّات».

استأذنت حضرةَ الشيخ بممارسةِ بعض هذه الفعاليّات، فلم يأذن لي، وقال: نحن نكفيك هذا الأمر، أنت عالم كبير، أنت فوق هذه الممارسات، لكن قم الآن اضرب مَن شئتَ من الدراويش، فلم أفعل.

في أحد هذه المجالس المباركة؛ صحبني ولدي الدكتور محمّد بن عداب، وكان يومها صغيراً، ربما كان ابن ثلاث عشرة سنة.

شاهد الدراويش يأكلون الزجاج، ويضربون أنفسهم بالشيش، ونحو ذلك، فلم يقل شيئاً.

عندما خرجنا من التكية إلى البيت سألني قال: أبي هؤلاء الجماعة مأذونون بممارسة هذه الكراماتِ، نحن غير مأذونين؟

قلت له: بلى نحن في الأصل مأذونون وراثةً، لكنْ لم يتيسّر لأبيك ممارسةَ ذلك، فما لم يأذن لي أحد المشايخ بذلك؛ فأنا لا أجرؤ أن أمارس!

لم يردّ عليّ بشيءٍ، لكنّه لمّا دخل منزلهم؛ وجد والدته وإخوانه على مائدة العشاء.

قال لهم: إنّه تعشى في التكية، لكنّه يشرب معهم الشاي!

شربَ كوبَ الشاي، ثم مضع كأس الشاي وأكلها.

كنت ليلتها في بيتي الثاني، فاتّصلت بي والدته باكية تصرخ: تعال خذ ابنك المجنون إلى المشفى!

قلت لها: ما به؟ قالت: أكل كأس الشاي وابتلعها، أكيد تمزّقت معدته وأمعاؤه.

قلت لها: لا تخافي عليه، لن يصيبه شيءٌ بإذن الله تعالى، إذا شعرت بتغّيرٍ عليه، فاتّصلي.

هي لم تقتنع بكلامي، لكن لم يكن لديها خيار، وأغلقتُ الهاتف!

بعد هذه الرحلة التاريخيّة مع الفعاليّات، هل هذه الفعاليّات كرامات، أو هي سحر، أو هي تعامل مع الجنّ؟ والأهمّ من هذا كلّه؛ أنّ هذه الكرامات يقوم بها أناس صالحون، وقد يقوم بها أناس ليس لديهم استقامةٌ وصلاح؟!

لديّ عدد من التلاميذِ مارسوا هذه الفعاليّات، سألتهم عمّا يقومون به، وهل هم يتألّمون؟ وهل يستطيع الواحد منهم أن يضرب نفسه بالشيش متى شاء؟

فبعضهم قال: نعم، وبعضهم قال: لا بدّ من تلاوةِ أورادٍ، وصلاة ركعتين، ثم إذن الشيخ.

ولمسألةِ الضرب بالشيش قصّة طريفةٌ، يحسن سوقها.

كان درسُ شيخنا محمّد الحامد علميّاً، وكان مشوقاً، وكان يستطرد أحياناً استطراداتٍ تبعد عنّا الاسترخاء والسكون الذي يصحب درس العلم عادة.

ففي إحدى هذه الاستطرادات قال: يُروَى أنّ سيّدي أحمد ابن الرفاعيّ، كان يشرح لتلامذته قول الله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) فذكر أنّ لها معنيين، أحدهما معنويّ بمعنى الراحة والسكينة وانشراح النفس.

والآخر حسّيٌ ماديٌّ، جاء في الحديث الصحيح أنّ الملك شقّ صدر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وشقّ قلبه، واستخرج منه حظّ الشيطان!

فاستغرب أحدُ تلامذة الشيخ الرفاعيّ هذا التفسير، وقال له: كيف يُشقّ صدر إنسانٍ ويشق قلبُه ثم يبقى حيّاً؟ قال الرفاعيُّ: غداً أجيبك إن شاء الله تعالى!

في الدرس التالي قام الرفاعي وشقّ صدره بخنجرٍ واستخرج قلبه فشقّه، واستخرج منه سواده، وقال لذاك المنكر: هكذا فُعل بجدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال شيخنا الحامد رحمه الله تعالى: يقال: إنّ هذه الحادثةُ هي أصلُ كرامة الضرب بالشيش، وهي من خصوصيات الطريقةِ الرفاعية، فيما يقال، والله أعلم.    

ختاماً: أنا الفقيرُ لن أذكر شيئاً مما أكرمني الله تعالى به، لكنّه بعيدٌ عن ضرب الشيش!  

وأنا شاهدتُ بعينيّ والدي يحمل «صاج» النار بيديه، ويضعه على رأسه، ووالدي من تلامذة الشيخ سعيد الجابي، وليس صوفيّاً.

وولدي الدكتور محمّد أكل كأس الشاي وما يزال حيّاً.

وعددٌ من تلامذتي الثقات يمارسون هذه الفعاليّات، وأقطع وأجزم أنهم لا يعرفون السحر ولا التعامل مع الجنّ!

وليس لهذه الفعاليّات عندي من تفسيرٍ، سوى أنها من إكرام الله تعالى، لمن شاء من عباده.

أمّا ظهور بعض هذه الكرامات على أيدي أناسٍ ليسوا بمستقيمين؛ فأنا لا أعرف مثلَ هذا، وعلى افتراض وجوده؛ فلا أظنّ واحداً من هؤلاء يجرؤ على ضرب نفسه بحديدة قبل أن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه من أعماق قلبه؛ لأنّ وراء هذا الضرب حياةٌ أو موت!

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 26 يوليو 2025

        التَصوّفُ العَليمُ:

الحبيبُ عليٌّ الجفريُّ، والأستاذ حسن البنّا!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد: استمعتُ إلى السيّد علي الجفريّ الباعلويّ الحسينيّ الحضرميّ الصوفيّ، ينتقد مؤسس جماعةِ الإخوانِ المسلمين الأستاذ «حسن بن أحمد بن عبدالرحمن البنّا الساعاتي» رحمه الله تعالى.

كلمة (الحَبيب) في اليمن الجنوبيّ وحضرموتَ؛ تعني (السيّد العلويَّ من ذريّة الحسن والحسين عليهما السلام) فإذا كرّرتُ هذه الكلمةَ؛ فلا تفهم أنّني أحبّه وأواليه وأوافقه على مسلكه الصوفيِّ الذي هو عليه.

أوّلاً: أتباعُ المذاهبِ الأربعةِ من أهلِ السنّة - بالمجمَل - لا يجوّزون الخروجَ على الحاكم الظالمِ والسلطان الجائر، لا نصرةً لهذا الظالم الجائر، ور رضاً منهم منه!

إنما خوفُهم على المسلمينَ الذين تسلّط عليهم هذا الحاكم، من أن يزيدَ في ظلم المسلمين وقتلهم وسجنهم وأذاه إيّاهم.

وجميعهم - جميعهم جميعهم - يقولون: إنّ هذا الحاكمَ آثمٌ في تغلّبه وفي ظلمه وفي طغيانِه على المسلمين.

[هذه نقطة مهمّةٌ، يجب أن تكون واضحةً أمام الذين ينقمون على أهل السنّة موقفَهم هذا «وأنا مِن المنتقدين بالتأكيد»].

فشطْرُ موقفِ الجفريّ الأوّل مفهومٌ ومنسجم مع معتقداتِ الأشعريّة التي ينتمي إليهم.

أمّا الشطرُ الثاني، وهو الدفاعُ عن الحكام الظالمين، وموالاتُهم، ومنحُه لهم الأمان؛ فهذا الذي يحقّ لنا أن نناقشَه فيه.

ثانياً:الأصلُ في مناهجِ  الصوفيّةِ من أهلِ السنّةِ؛ هو الإعراضُ عن الدنيا، وعدم مزاحمةِ أهلها عليها؛ يحتجّون بقولٍ منسوبٍ إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لفظه (ازهد فِي الدُّنْيا؛ يُحبَّك اللهُ، وازهَدْ بِما فِي أَيدي النَّاس؛ يُحبّوكَ).

أخرجه ابن ماجه في سننه (4102) وضعّفه البوصيريّ في مصباحه (4: 209).

فالصوفيّةُ يسابقون بقيّةَ المسلمينَ في الأعمالِ الصالحةِ: العلمِ، والعبادةِ، وذكر الله تعالى، والسلوكِ القويمِ، والأخلاقِ الفاضلة.

اهتمامُ الصوفيّ الملتزمِ؛ مختلفٌ عن اهتماماتِ غيره، حتى لو كان من العلماء!

انْظُر إلى أناقةِ العالمِ السنّيِ في تصفيف شعره، وأناقة مظهره، وجمالِ عمامته، وغلاءِ قيمة مُسَبّحته.

وانظر إلى عالمٍ أو طالبِ علم صوفيٍّ مثلي - على سبيلِ التقريب: يلبَسَ ما تيسّر، ويظهر أمامَ الناس من دون كلفة، ولا يعنيه أبداً أن تكون عمامته مكوّرةً عاليةً، ولا أن يكون جلبابه مكويّاً، ولا أن يكون عطره فوّاحاً، ما دام لا يصدر عنه رائحةً كريهةً، وكانت ثيابه نظيفةً طاهرةً!

تَأمّل على سبيلِ المثالِ  شيخنا «محمد بن عبدالكريم الكسنزان» رحمهما الله تعالى!

كان يسعه أن يلبس العمامةَ الغاليةَ، والجبّةَ العراقية الفخمة، والشالَ الحريريَّ الثمين!

لكنه كان يلبس ثيابَه الكُرديّةَ التي نشأَ وشبَّ، يرتديها في محيط إقامته.

وتأمّل عشراتِ العلماءِ والشيوخِ الذين يجلسون في حضرته مؤدّبين صامتين، لا يتكلّم أحدهم بحرفٍ، حتى يستأذن حضرةَ الشيخ «الكسنزان» بالكلام!

زادُ الصوفيِّ في رحلته إلى الله: الكِفايةُ الماليّة حتى لا يحتاج، ثمّ المحافظة على الفرائضِ، والمداومة على الرواتب والمندوباتِ، وتلاوة القرآن، وقيام الليلِ، وصيام النهار، والالتزام التامّ بالأوراد الوظيفيّة، وحفظ لسانِه ويده وجوارحه كلّها عن أذى المسلمين.

لا يتدخّل بالسياسةِ؟ نعم لا يتدخّل بهذه السياسة القذرةِ، التي ما كانت ساميةً قطُّ، إلّا في زمان الأنبياء «الأنبياء فحسب!».

ثالثاً: الحبيب عليّ الجفريّ لا يُعَدُّ من العلماء، إنما هو من الشيوخِ التقليديين، الذين حضروا الدروس المؤهِّلَةَ للمشيخة، وسلك الطريقَ الصوفيَّ على بعضِ أهلهِ، فصار شيخاً منظوراً إليه، فهو وأمثالُه من شيوخ حضرموت «قرّاءُ متون المذهب» و«وُعّاظ».

وهذا وصفٌ صحيحٌ، والأمّة بحاجةٍ إليه أكثرَ من حاجتها إلى مثلي؛ لأنّ هؤلاء الشيوخ؛ هم الذين يجيدون التعاملَ مع الجهّالِ والعوامّ.

رابعاً: يعلم جميعُ قرّائي - فيما أظنّ - أنني لست من أهل العلمِ الذين يفخّمون بشيوخهم، ويضخّمون مهاراتهم، ويشيعون من كراماتهم!

بل إنني لا أرى في هذه الأمّة كلّها رجلاً أهلاً لتقليده والاقتداء به، سوى رجلٍ واحدٍ فحسب، هو رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!

وما من رجلٍ سواه في أمّة الإسلامِ، إلّا لديه صفاتٌ، وصَدرت عنه مواقفُ، تحتاجُ إلى تفسيرها وتسويغها والاعتذار عنها.

هكذا هي شخصيّتي منذ كنت طفلاً صغيراً في المدرسةِ الابتدائيّةِ، لم أشعُرْ بعظمة أحدٍ في حياتي، حتى أبي وجدّي!

التقيت سيّدي محمد الحافظ التجّاني في أواخر سنة (1976م) ولا أتذكّر اليومَ والشهرَ بالضبطِ، لكنّ الذي أتذكّره يقينا؛ أنّ القاهرةَ كانت باردةً جدّاً، وأنّ زخّات المطر الخفيفة ظلّت ترافقني وصديقي «أسامة عبدالعظيم» الذي أصبح فيما بعد «دكتوراً» أزهريّاً أصوليّاً، إلى الزاوية التجانيّة في حيّ «المغربلين» و«عطفة الدالي حسين» رحمه الله تعالى.

توطّدت العلاقةُ بيني وبين سيّدي الشيخ التجّاني، ربما أكثرَ مما بينه وبين ولديه السيّد «أحمد» رحمه الله تعالى؛ لأنّه لم يكن يراه إلّا في عطلةِ نهاية الأسبوع، بينما كنت ملازماً للزاوية ستّةَ أيّام في الأسبوع، ولي مع حضرة الشيخ لقاءان يوميّاً: أحدهم صباحيّ، والآخر بعد العصر.

كان الإخوان المسلمون يعظّمون الأستاذ حسن البنّا تعظيماً، لا يمنحونه لأحدٍ غيره، مع أنّ في جماعة الإخوانِ عدداً كبيراً أعلمَ منه، وأوسع دائرة ثقافيّة!

بل إنني سمعتُ أحدَ شيوخي الحمويّين، الذين صحبوا الشيخَ البنّا وتلمذوا له يقول: «الشيخ حسن البنّا ليس مجدد القرن الرابع عشر فحسب، إنّما هو مجدّد قرون سابقة عديدة»!

قرأتُ جميع ما نُسبَ تأليفُه إلى الشيخ «حسن البنّا» وقرأتُه وأقرأته لطلابٍ آخرين، بيد أني ما توصّلتُ إلى تلك القناعةِ العاليةِ، التي يضفيها الإخوان المسلمون عليه.

فسألتُ سيّدي الشيخ الحافظ التّجاني أسئلةً كثيرةً تخصّ الشيخ «حسن البنّا» منها:

قلت له: سيّدي، كم سنةً عاصرتم الشيخ حسن البنّا؟ قال: أكثر من عشرين سنةً!

قلت له: وكيف كانت لقاءاتكم به؟

[انتبهوا إخواني].

قال: هو الشيخ حسن رحمه الله تعالى؛ جعلني في اللجنة التأسيسيّة لجماعة الإخوان المسلمين، وكنت أحضر جميع اجتماعات اللجنة، ما لم أكن مريضاً، أو منشغلاً!

وكان الشيخ حسن يأتينا في الزاويةِ، يسألني ويشاورني في أمور الجماعةِ، فالصلة بيننا قريبةٌ جدّاً، وبيننا تواصل عائليّ، حتى والده الشيخ أحمد كان يزورني أكثرَ من الشيخ حسن، ويسألني عندما كان يرتّب «مسند الإمام أحمد» رحمه الله تعالى.

[ذكر لي سيدي الحافظ موقع الزاويةِ، السابقة على زاوية المغربلين، لكني نسيت موقعها].

قلت له: هل وجدتم الشيخ حسن البنا صالحاً، أو كان من أهل الدنيا؟

فتح عينيه بأقصى طاقتهما، وتبسّم قائلاً: كان رجلاً ربّانيّاً صالحاً من أهل الطريقِ!

لكنّه كان طيّبَ القلبَ كثيراً، مثلكَ تماماً، لا يظنّ السوءَ بأحدٍ، ويحبّ الخير لجميع المسلمين!

لا لا بل يحبّ الخير لكلّ الناس، وكان يحزن على العصاة والفساق وغير المسلمين كثيراً، ويقول: هؤلاء مساكين، كيف سيحتملون عذاب الله تعالى يوم القيامة.

تابع قائلاً: «على فكرة» كان معنا في اللجنة التأسيسيّة لجماعة الإخوان المسلمين عضو من الأقباط!

رحمه الله تعالى ما أرقّه وما أطيب قلبه، كان يحبّ أن يهتدي الناسُ كلّهم، فيكونوا من أهل الجنة!

«دمعت عيناي غضبّاً عني وتابعت»: سيّدي هل كان الشيخ حسن البنّا عالماً؟

رفع حاجبيه الطاهرين عالياً بشدّةٍ وقال: عالم؟ نعم عالم وأكثر من عالمٍ، وأبوه أعلمُ منه» انتهى المقصود من حواري مع شيخي في هذا المنشور.

خامساً: هل كان الشيخ حسن البنّا صوفيّاً؟

لا يخفى على أحدٍ أنّ الإخوانَ المسلمين يهتمّون بقياداتهم، ويبرزون خصائصهم وفضائلهم، وربما بالغوا في ذلك أحياناً، من وجهة نظري!

وعندما عرّفونا بفكر الشيخ حسن البنّا؛ قالوا لنا: يتلخّص فكر الإمام حسن البنّا بكلمات بليغة عميقة (نحن دعوة سلفيّة، وطريقةٌ سُنيّةٌ، وحقيقةٌ صوفيّة).

وكان من واجباتنا اللازمة يوميّاً «المأثورات الصغرى» ومن واجباتنا الأسبوعيّة «المأثورات الكبرى» وهي ضعفُ المأثورات الصغرى أو أكثر!

وحدّثونا أنّ إمامنا «حسن البنّا» كان رجلاً عالماً ربانيّاً.

وجميع موجّهينا في جماعة الإخوان حدّثونا أنّهم يحافظون على «المأثورات الصغرى» في الحدّ الأدنى، وكانوا يوصوننا بتلاوة جزءٍ من القرآن الكريم، والمحافظة على الرواتب والنوافل، وصيام يومي الإثنين والخميس، وصيام الأيّام البيض!

ثمّ إنّ سلوكَ طريقةٍ صوفيّة بعينها، على شيخٍ بعينه؛ ليس واجباً شرعيّاً، ويَسَع كلّ مسلمٍ أن يكون ربّانياً، من دون أن ينتسب إلى أيّ طريقةٍ صوفيّة، إذا قام بما يتطلّبه قلبه من الطهارةٍ وجوارحه ومشاعره من الأذى والأنا، وطبّق ما في القرآن الكريم من أحكامٍ وسلوك وآدابٍ وأخلاق.

بشرطٍ واحدٍ هو أنْ لا يُعادي السادةَ الصوفيّة؛ لأنّ عداءهم مؤشّرٌ على نفاقٍ في القلب، وزَغَلٍ في الفكر، ونرجسيّة جاهلة، إذْ هم أكبر طبقات المجتمع المسلم تحقُّقاً بعبادةِ الله تعالى!

ختاماً: سأوجّه إلى ابن عمّي السيّد علي الجفريّ وأمثالِه نصيحةً قلتها للرئيس صدّام حسين رحمه الله تعالى، في الشهر الخامس، من عام (1992م).

قلت له: «يا سيادةَ الرئيس: إنني أحملُ إليك تحيّات إخواني السوريين، الذين ينعمون بالأمن والأمان في بلدكم العراق العظيم.

يا سيادةَ الرئيس: إنّ جماعةَ الإخوانَ المسلمين؛ أشرف حركةٍ إسلاميّة وغير إسلاميّة، في عصرنا الحاضر!

نحن - يا سيادةَ الرئيس - لا نَغْدرُ ولا نَخونُ ولا نتفُل في الإناء الذي أكلنا أو شربنا منه.

وكلّي رجاء يا سيادةَ الرئيس أن يكون تعامُلك مع الإخوان المسلمين العراقيين؛ ينطلق من الحوارِ الجادّ والنصح الصادق.

نحن نريد للإسلام أن يحكمنا، وليس المهمّ أن نحكم نحن بالإسلام».

أخي علي الجفريّ: حتى تكون مؤهّلاً لأنْ تنتسبَ إلى جماعةِ الإخوان المسلمين، منتسباً فحسب؛ تحتاجُ أن تكون رجلاً أوّلاً، وصادقاً ثانياً، وشجاعاً ثالثاً، وبعيداً عن الظالمين رابعاً؛ لأنّ قربَ الظالمين يُسوّد الوجهَ، ويعزّز النفاقَ، ويجعلُك تحتهم صغيراً.

قال الله تعالى:

(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ، وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ؛ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113).

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ؛ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 23 يوليو 2025

  قطوف من الآلام!؟

هِياجُ الذكرياتِ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

وَضْع العجوزِ الصحيّ؛ لا يحتاجُ إلى توضيحٍ، وسُهادُه غنيّ عن التفسير!

فإذا انضافَ إلى آلام كلِّ سُلامَى من سَلامِياتِه؛ أشجانٌ تَهرفُ بإيقاعٍ يُرهقُ أعصابَ السمعِ المنهكةِ، كأنّه رُعودٌ؛ كيف بك والحالةُ هذه أن تَسْكُنَ، فضلاً عن أنْ تنام؟

أُصبتُ في المدينةِ المنوّرة، عام (1402 هـ) بإنزلاقٍ غضروفيّ في فقرات ظهري السفلى، ظللتُ أعاني منه سنين!

أمّا الآن.. الآن لديّ سبعُ فقراتٍ مصابةٍ، ما بين عنقي وعَجُزي!

ناهيكَ عن الأمراضِ والأدواءِ والأحزان!

أجلْ لعلَّ للأحزانِ النصيبَ الأوفى في غزوِ الأسقام جسميَ القويَّ المتين! 

ظِلالٌ ذُكاءٌ، والحسينُ، وأحمدٌ

عَليٌّ، وزيدٌ، خالدٌ، أيُّ غارِم

«اللهمَّ لا شَكوى»!

رُحتُ أقلّب صفحاتِ «النت» باحثاً تحت عنوان (سوريّا الآن) فظهرَتْ أمامي مُقابلةٌ لاثنينِ من أشهرِ «المُنشدينَ السوريين» أحدهما دمشقيّ، والآخر حمويّ!

سألَ الحمويُّ الدمشقيَّ أنْ يُنشدَ له الأبياتِ التي أنشدها يوم توفيت ابنتُه بوباء (الكورونا) فانبرى المنشدُ الدمشقيّ يبكي على ابنته الصغيرة، ثم تمالكَ نفسَه وأنشدَ واستعبرَ في أثناء النشيد!

بيد أنّ عداباً بَكى وبَكى، وما يزال يَبكي، وهو يكتبُ هذه الكلمات!

يُواسونَ مَن ماتَت لديه بُنَيّةٌ

ويَبكي المُعَزّى بالدموع السواجمِ

فما حالُ من ماتت لديه بُنيّةٌ

وخمسةُ أولادٍ، نُجومُ العوالِم

دفَنْتُهُم، والصبرُ يَذبحُ ضامري

وأُبدي جِلادي، كاظِماً، غيرَ آثمِ

سئمتُ حياتي يا لطيفُ مِن الضَنَى

وعَيْنِيَ لا تَسهُو، بِصورَةِ ساهِم

وأينَ التي تُسْلي فؤاداً مُفجّعاً

بأرواحِ أبناءِ العَدابِ البَراعِمِ

بدورُ صغارٌ، غافلون عن الأسى

غدَوا مِثلَ حَبّاتِ الرمالِ النَواعِمِ

ظلالٌ ذُكاءٌ، والحسينُ وأحمدٌ

عليٌّ، وزيدٌ، خالدٌ؛ أيُّ غارمِ  

عليٌّ قَضى في السجنِ قَتلاً، ظُلامةً

فتىً ألمعيّاً مِنْ قبيلٍ أكارمِ  

إلهي، فهَبْ لي من لدُنك عزيمةً

فقَدْ بِتُّ مَعدومَ الفؤادِ المسالِم

إلهي، وصبّرني، فَجُرْحي نازفُ

على مَرِّ أيّامي؛ كَحزّ الغلاصمِ

وما عُدتُ أرجو في الحياةِ بقيّةً

عَجَزتُ عن العُتبَى كأهلِ العزائمِ

وَحَوليَ ناسٌ، مُترعون من الهوى

يَزيدون من حُزني بسُمّ الأراقمِ

يظنّون أنّي لا يُغيّرني الأذى

ولا أرتجي رِفقاً بقلبي المُراغِمِ

يظنّونني طَوداً من الصَخْرِ ثَوبُه

وما أنا إلا شاعرٌ غيرُ جاهِمِ

تعاوَرني حُزنٌ وسُقمٌ ووحشةٌ

وأرّقني ذَنبي كأصدقِ نادمِ

فإنْ يَغفرِ الرحمنُ ذنبي وحِدَّتي

وإلّا فإني في عِقابٍ ملازم.

وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه.

والحمدُ لله على كلّ حال.

الجمعة، 11 يوليو 2025

        إلى سوريا من جديد:

الطليعة المقاتلة بعد الشهيد مروان.

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطفَى).

أمّا بعد: تقدّم في الباب الثالث من هذا الكتاب القولُ بأنّ عنوان «الطليعة المقاتلة» علماً على شباب الشهيد مروان؛ لم يكن معروفاً، حتى استشهاده رحمه الله تعالى.

نعم! كان يكرر أمامنا كثيراً قولَه: «لا بدّ من طليعةٍ مؤمنة، تقود الأمة، كما قادتها كتائب المهاجرين والأنصار!».

وقوله: «لا بدّ من طليعة مقاتلة، تثبت وجودها بجدارة، فيتبعها الناس؛ لأنّ الناس يتبعون القويّ عادةً!».

وقوله: «لا تتوقّعوا أن يتبعكم الناس، أو ينصرونكم، أو يتستّرون عليكم، إذا لم يجدوا منكم قوّةً وإحكاماً في تنفيذ مهماتكم».

وقوله: «كل مذهبٍ، أو فكرة، أو دين؛ لا بد أن تكون له طليعة تؤمن به إيماناً حقيقياً ثم تُكوّن هذه الطليعة دعاةً إلى تلك الفكرة، حتى تنتشر وتسود».

وقد ربّى الشهيد مروان عدداً من رجال هذه الطليعة المؤمنة، فمنهم مَن كان داعيةً إلى الفكر الجهاديّ، ومنهم مَن كان مدرّباً على استعمال الأسلحة الفردية ومنهم من كان يقف بجانب الشباب بالمال والمأوى، ومنهم من شكّل خلايا في البلاد والقرى السورية، عقب استشهاد مروان.

لكنّ أركان العمل العسكريّ، بعد استشهاد مروان رحمه الله تعالى؛ الإخوة الشهداء الآتية أسماؤهم:

في مدينة حماة: الشهداء: عبدالستارالزعيم، وبسّام أرناؤوط، وهشام الجنباز، وفيصل غنامة، وأمين الأصفر، وبدر الذكرى.

وفي مدينة دمشق: الشهيد أيمن شربجي ومجموعته.

وفي حلب: الشهيد حسني عابو، والشهيد عدنان عقلة ومجموعتهما.

وهؤلاء كانوا أركان العمل العسكري في سوريا، ومعهم مجموعاتٌ مقاتلة في كلّ مدينة من مدن سوريا، لا أعرف عنهم كثيراً.

ويبدو لي أن اسم «الطليعة المقاتلة» قد اختاره هؤلاء؛ لما كانوا يسمعون من الشهيد جملةَ «الطليعة المقاتلة» و«الطليعة المؤمنة».

وبعد اعتقال الشهيد مروان في دمشق؛ صارت جميعُ بيوت الحمويين محلّ أنظار أجهزة الأمن، وكنت أنا مطلوباً بشدّة، كما كنت أنام كلّ ليلةٍ في بيت أحد الإخوة غير المعروفين في دمشق.

كان ذلك ليلةَ الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة.

كانت قدمي التي أُصيبت قرب منْزل الشهيد مروان تؤلمني، وتُعيق حركتي، وكنت أرى في وجوه بعضِ الشباب كراهيةَ أن أبيت عندهم!

فأدّيت صلاةَ الجمعة في «جامع زيد بن ثابت» وإذا بأحد تلامذتي الحمويين واسمه «ميّاد برزنجي» فقلت له: إني أريد السفر إلى حماة، فهل تسافر معي؟

قال: الله أكبر! كيف تسافرُ إلى حماة، والدنيا قائمة وقاعدة لاعتقالك؟

قلت: أحياناً تكون الشجاعة الجنونية مفيدةً!

الشباب في حماة الآن؛ لا يعرفون كيف يتصرفون، أفنتركهم حيارى، أم نتركهم يتصرفون تصرفاتٍ غير محسوبةٍ، فيقودوا أنفسهم إلى القتل الرخيص!؟

قال: أسافر معك، وروحي ليست أغلى من روحك!

طلبتُ منه أن يحضر معه شنطة سفر، وأن يضع فيها سكيناً كبيراً جديداً للاحتياط، واتّفقنا على أن نصلي العشاءَ في مسجد زيد بن ثابت، وننطلق!

صلينا العشاء في مسجد زيد، ثم ذهبنا إلى مطعمٍ قريبٍ في منطقة المسجد فأكلنا، ثم ركبنا سيارةَ أجرة إلى مجمع سفريّات المدن السورية.

قلت لصاحبي في رحلة السفر: أنت لا تتكلم بشيءٍ أبداً!

واستقبلنا واحدٌ من رجال الأمن، وقال: الشباب لوين؟

قلت له: «لحلب يوب»!

فقال: تفضلوا!

نزلنا من السيارة، وأكّدت على صاحبي ألا يتنفس بالحموي!

وصلنا إلى السيارة التي ستسافر إلى حلب، فكان ينقصها ثلاثةُ ركّاب، فقلت للسائق: أنا تعبان، وأشرت إلى قدمي الملفوفة.

أحتاج إلى الراحة، وسفرنا طويل، فنحن نأخذ الكرسيّ الخلفيّ فمدّ يده فأعطيته أجور ثلاثة ركّاب، وفي غضون دقيقتين تحرّك باتّجاه باب المجمّع الثاني.

سأله أحد رجال الأمن: «لوين الشباب؟» فقال له: لحلب يوب!

انطلقت السيارة، وإلى جانب السائق رجلان، فكلّمت صاحبي ليسمع الجميع إنني تعبان جدّاً، وقدمي تؤلمني، وسأحاول النوم!

سألني السائق: خير سلامتكم، ما لرجلك، أنت ماذا تعمل؟

قلت له بهدوءٍ، وعلى البديهة: «والله يا خاي كنت قبل الضربة أشتغل نجار باطون، لكني وقعت على الحصيرة، ودخل السيخ في رجلي، ويمكن إن صحّيت؛ ما حشتغل بها الشغلة الوسخة بعد»!

كنت لا أستبعد أن يكون السائق من المخابرات، أو المخبرين، فلما سألني: «أنتم من أين في حلب؟».

قلت له: «من عزاز أخوي، بارك الله فيك!».

قال: معناها ستسافر في هذا الليل إلى عزاز؟

قلت له: إن شاء الله أبيت عند أحد أقاربي في حلب، لعلي أعرض رجلي على طبيب ماهر، وغداً أسافر إلى عزاز!

تكوّن عند السائق فكرةُ أنني عاملٌ فلاح يسير الحال، تركت أهلي في «عزاز» بحثاً لهم عن رزق!

بعد أن انطلق السائق؛ أشرت إلى «ميّاد» أن اقترب مني، فقرّب رأسه مني، فقلت له: إذا سألك الأمن، فأعطه بطاقتك، فأنت لا شيء عليك، لكن إذا سألك إلى أين ذاهب؛ فقل له: إلى حلب!

فإذا قال لك: هويتك حموية؟

قل له: كان والدي يعمل موظفاً في حماة، فولدت في حماة، وعدنا الآن إلى حلب.

ورتّبت مع «ميّاد» مكان سكنهم، على عنوان أحفظه جيّداً هو عنوان زميلي الشيخ سحبان طرّاب الرفاعي، رحمه الله تعالى.

أوقفتنا ثلاثُ دورياتٍ ما بين دمشق وحماة، هي بالتأكيد تبحث عني؛ لأنهم بالسلاح الكامل.

فكانوا يسألون السائق: من معك، ثمّ ينظرون من النوافذ!

كان السائق يبرز لهم هويةً معه، فيقولون له: امشِ!

فلما سألوه عني في المرة الأولى: من هذا النائم؟

قال لهم: شاب مسكين من «عزاز» يشتغل نجار باطون، وقع على حصيرة البناية فدخل في رجله سيخ حديد، فيريد أن يذهب إلى أهله يرتاح عندهم!

أخذ حبّتين، ونام.

وهكذا في المرّتين الأخريين.

عندما وصلنا إلى أوّل شارع العلمين؛ ناديته: وَقّف يا أخي أريد أن أتقيّأ!

وكنت على يمين السيارة، فوقف الرجل، ونزلت، ثمّ نزل «ميّاد» ومعه «شنطته» وقال للسائق: الأخ حمّاد يريد أن يزور عمّته هنا في حماة، وأنا مضطر أن أصحبه لأنه مريض، الله معكم.

التفت السائق إليّ، وأنا أحاول أن أتقيّأ، فصدّق كلامي، ثم صدق كلام «ميّاد» أو لم يصدّق، لا أدري، لكننا تأكّدنا أنه «عوايني» وتأكّد هو أننا ضحكنا عليه!

نزلنا عند كلية «الطبّ البيطريّ» وقلت لميّاد: انطلق إلى بيت أهلك، فليس عليك شيءٌ، جزاك الله خيراً، أما أنا؛ فسأنتظر هنا؛ لأرصد «الحارة» قبلَ أن أدخل!

وفيما أنا أكلمه؛ خرجت من الحيّ ناقلةُ جنودٍ واحدةٌ، تبعتها مصفّحة واحدة أيضاً!

فجلسنا في الأرض، ريثما انسحبت الآليتان، ثم افترقنا على أمل أن أتّصل بصاحبي، إذا لزم الأمر، لكنّ عليه ألا يخبر أحداً بقصتنا، وقلت له: شاهدتَ بعينك، فانتبه!

ذهبتُ إلى بيت والدي، فرأيت على باب منْزل الشيخ محمد الحامد عدداً كبيراً من الجنود، ولم أر سوى سيارة واحدة؛ لأن البقية ربما كُنّ في ساتر.

رجعتُ مباشرةً، وقرعت باب الرجل الفاضل الشجاع سليمان الجندليّ، وهم أخوالنا آل الحمش، فسمعَتْ والدتُه قرعَ الباب، فقالت بصوتٍ عالٍ «من» قلت: يا حاجة لا ترفعي صوتك، أنا عداب!

فنادت أولادها بأعلى صوتها: سليمان، محمود: عداب بالبابِ، قوموا بسرعة، عداب ما مات!

قبلَ أن يفتح سليمان الباب؛ كان أبو كسار سويد وأولاده أسرعَ، فتحوا أبواب بيوتهم بسرعةٍ، واعتنقوني، ودموعهم تجري، قائلين: سمعنا أنك قُتلت، الحمد لله على سلامتك!

فتح سليمان ومحمود الباب، ودخلنا جميعاً إلى منْزله العامر، واستغربوا كيف تجرّأتُ وقدمت من دمشق إلى حماة، والطرقات ممتلئة بالجيش والأمن!

قلت: باختصار..كان سفري جنوناً، ولكنّ الله سلّم!

وحدّثتهم بما رأيت في الحيّ عند منْزل الشيخ الحامد، فقال سليمان: هناك ثلاث مصفحات وعشرون جنديّاً لا يتحركون، يرصدون قدومك، وقدوم الشيخ محمود الحامد!

قلت لهم: هل من المناسب بقائي عندكم؟

قال: ساعتين فقط!

كان منْزل عمي «حمشو» مطلاً على منْزل والدي، فقلت لابن سليمان: اذهب وادع لي: ابن عمي أبا حميد!

فذهب، ودعاه، فجاء، وقال لسليمان: خير إن شاء الله، خوفتموني بهذا الوقت!

ثمّ التفتَ، فرآني، فقال: الشيخ عداب، واعتنقني وبكى!

قلت له: رتّب لي مسألة الانتقال إلى بيت عمك «حمشو»!

قال: جاهز! لكن إذا كنت هناك، فالأمر يحتاج إلى هدوء، وعدم حركة؛ لأنهم فتشوا منزل عمك أكثر من خمس مرات، ونحن نقول لهم: البيت فارغ، وأهله في المزرعة، فاقتنعوا فمجيئك إليه مناسب، لكن يجب أن تأتي إليه من ساحة «المرابط» وتدخل دار الشيخ «بشير سلامة» ثم دار «الشيخ عارف» ثم دار «خالد هبابه» ثم تنْزل من هناك إلى بيت عمّك!

قلت له: رتّب الأمر!

وانتقلتُ إلى بيت عمي، وبقيت فيه ثلاثةَ أيام!

في واحدٍ من هذه الأيام الثلاثة؛ جاء إليّ الشهيد هشام الجنباز، بصحبة الأخ الدكتور محمد عبدالقادر الشوّاف، الذي أبلغني برغبة الشيخ محمود الحامد أن ألتحق بشباب الطليعة الذين يحتاجونني كثيراً في هذه المرحلة.

فتنكّرت، وخرجنا من المنزل، وركبنا ثلاثتنا على دراجة نارية كانت معه، ووصلنا إلى حيث كان الشباب مختبئين!

حدثني الدكتور محمد أنّ أكثر الشباب صغار، وأنهم لا يطيعون، وأنهم لا يعرفون شيئاً  ا عن السلاح، ولا عن الانضباط، فلعلك تستطيع توجيههم، فهم بالتأكيد يعرفون قدرك ويهابونك!

كان بين الشباب، الشهداء: فيصل غنامة، وبدر ذكرى، وبسام أرناؤوط، ومأمون كاخي، وهشام الجنباز، وطلال شكري، وهؤلاء في غاية الانضباط والأدب!

وكان هناك عدد كبير من الشباب الصغار، الذين تقلّ أعمارهم عن خمسةَ عشرَ عاماً!

استغربت مثلَ هذا الجمع، وسألت كلّ واحدٍ منهم عن اسمه، وسنّه، وعن السنة الدراسية التي هو فيها!

ثم طلبت من كلّ من هو غير مطلوبٍ للأمن أن يعود إلى بيته فوراً، حتى لا يُعرّض نفسه للمساءلة مستقبلاً!

فقال أحدهم: نحن نريد أن نجاهد، وما تركنا بيوتنا إلا من أجل أن ننال الشهادة في سبيل الله تعالى!

فشكرته على حماسه ورغبته، لكنني أخبرته أننا الآن لسنا في صددِ الصدام مع الدولةِ؛ لأنّ الوقت غير مناسب!

وقلت له: هل أنتم من سيقارع الدولة؟ قال: نعم! نظلّ نقاتلهم حتى نُقتل جميعاً!

كان المنزل الذي يختبؤون فيه، قد فرّغه أهله ليرمّموه ويدهنوه، وقد اختبؤوا فيه بإذن واحدٍ من أولاد صاحبه، وهو لا يعلم!

وكان المنْزل مكشوفاً تماماً، وقريباً جدّاً من مركزٍ بعثيّ ومركزٍ أمنيٍّ كبيرين في حيّ العليليّات!

قُرع جرس المنْزلِ فجأةً، فإذا بعدد من هؤلاء الصغار يلقّم سلاحه!

استغربتُ من ذلك، والتفتّ إلى أخي فيصل، فإذا به يضحكُ ضَحِكَ الألم والأسى!

وقال لي: تصرف يا شيخي، فنحن سنُقتل من دون أن نفعل شيئاً، وأظنّ أن بعضنا سيقتل بعضاً!

في هذه اللحظات؛ جاء إليّ الدكتور محمد الشوّاف، وقال: شيخي، ستكون أنت المسؤول عنا بالتأكيد، لكنّ هؤلاء الآن تحت إمرتي، فأرجو أن تلاحظَ هذا!

فقلت له: حاضر! والتفتّ إلى الشباب ونصحتهم أن يرجع كلّ واحدٍ منهم إلى منْزله؛ لأنّ الدولة كلها مستنفرة، ونحن ليس لدينا شيء نقارع به الدولة، وقلت لهم: أظنكم ستُداهمون في هذه الليلة، فكونوا على حذر!

وفعلا، فقد دوهموا في تلك الليلة، ولكنّ الله سلّم، فلم يُقتل منهم أحدٌ، ولم يُعتقل أحد!

استأذنت أميرهم الدكتور محمد الشواف بالانصراف، وقلت للأخ محمد: ايذن لي بهشامٍ جنبازٍ يكون معي، فأذن!

أراد عددٌ من الإخوة أن يغادروا معي، لكنني أشرت عليهم بالالتزام بأوامر الشيخ

محمود، وأنا سأتدبّر الأمر معه!  

رجعت إلى منزل عمي حمشو، بالطريقة ذاتها التي دخلته بها أول مرة، ودخل معي هشام!

جاء إلى سليمان الجندلي خبرٌ أمنيّ مفاده أن الشيخ «عداب» موجودٌ في «الحارة» وسيفتشونها بيتاً بيتاً!

فهُرع سليمان الجندلي إلى ابن عمي «أبو حميد» وأخبره أنه يجب أن أخرج فوراً لأنّ الحيّ كلّه سيفتّش في غضون ساعة!

تنكّرت، وخرجت من بيت عمي، وذهب هشامٌ إلى منْزله؛ لأجد في انتظاري رجلاً ليس من العائلة، واسمه «عوض الخراز» وكان يتاجر بالسلاح، وبأشياءَ محظورةٍ أخرى، لكنه كان مستعداً أن يبذلَ روحه، في سبيل أن لا أُخدش أنا!

مررنا من بين رجال الجيش الذين يزيدون على خمسين، وحين وصلنا إلى ساحة الطيّار ليلاً، كان هناك حفرة عميقة، لم ينتبه إليها، فوقع فيها، فانكسرت رجله!

خرج من الحفرة متحاملاً على نفسه، حتى أوصلني إلى المكان المحدّد، ثم حملوه في سيارة سليمان الجندلي إلى المشفى، حيث كان في ساقه كَسران؛ لأنه كان ضعيف البنية، رحمه الله تعالى، وغفر له!

أرسلتُ رسالةً إلى أخي الشهيد «عمر مرقة» صباحاً، فجاء إليّ في الليل، وأخبرني أن الحيّ يغلي كالمرجل، وأن عناصر الجيش تراقب أنفاس الناس، من أجل الشيخ محمود الحامد ومن أجلي! 

قال: لكنهم بالنسبة لك؛ فقد أُذن لهم بإطلاق النار عليك؛ لأنك خطر!

ونصحني أن أُغادر إلى لبنان، وأخبرني أنّ الشيخ محموداً؛ سيغادر إلى لبنان أيضاً!

وقال لي: أنا لا أستطيع أن أرجع إليك، لكن الأخ محمد عبدالقادر هو صلة الوصل بيننا!

أصدر الشيخ محمود الحامد أمراً للشباب بمقاومة السلطةِ، وأن يفعلوا شيئاً يُشعر السلطة بوجودهم؛ لكي تبقى خائفة!

جاء إليّ الأخ محمد عبدالقادر، ولقبه الحركيّ آنئذٍ «أبو أيمن» بهذا الأمر العسكريّ، وأن ألتحق بالشباب، وأتسلّم مسؤوليتهم، وطلب أن أعطي رأيي فيه، قبل المباشرة بتنفيذه!

التفتّ إليه وقلت له: ما رأيك أنت؟

قال: أنا ليس لي رأي مع الشيخ محمود!

فتناولتُ ورقةً وكتبتُ فيها:

«بسم الله الرحمن الرحيم.. شيخنا الفاضل، وابنَ شيخنا الجليل محمود محمد الحامد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...تحيةً طيبةً من عند الله مباركة...

أما بعد: فقد أبلغني الأخ أبو أيمن بأوامركم الملزمةِ الواجبة التنفيذ، وأنا رهنُ إشارتكم سيدي!

بيد أننا تعلّمنا في الدورات الفدائية: أن اضرِب عدوّك في اللحظة التي لا يَتوقّع أن تضربه بها.

وعدوّنا اليوم على أُهبة الاستعداد القصوى لإبادتنا عن بكرة أبينا، بل ربما هو جاهز لإبادة بلدنا حماة أيضاً.

ونحن ليس تحت أيدنا سوى الأسلحة الفردية، التي لا تقاوم الدروع والطيران!

فانظر ماذا ترى، ونحن جاهزون لتنفيذ أوامركم .. سيدي!».

عاد إليّ الأخ «أبو أيمن» برسالة من الشيخ محمود، فيها:

«بسم الله الرحمن الرحيم.. الأخ المفدّى أبا دجانة .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: قرأت مضمون رسالتكم الكريمة، وفهمت مراميها، وإني أشكركم على ما جاء فيها من نبل مشاعركم، وجاهزيتكم للتضحية والبذل والتنفيذ.

وقرأت وجهة نظركم بشأن مبادهة العدوّ في الوقت الذي لا يكون مستعدّاً ويقظاً، ورأيت ما تفضلتم به هو الصواب، وقد أبلغت المجموعات المجاهدة العملَ بمضمونه.

بارك الله لنا فيكم، وسدد خطاكم، ونصر بكم دينه، وعباده المؤمنين»([1]).

في هذا اللقاء حدثني الأخ «أبو أيمن» أنه سيغادر سوريا إلى الأردن، ومنها إلى إحدى دول الخليج!

وقال لي: وأنا أنصح لكم أخي أبا محمود أن تغادروا أنتم أيضاً؛ لأنّ الشباب في فوضى عارمة، والشيخ محمود قرّر تعليق المواجهة مع النظام؛ لأنّ الوقت غير مناسب، وسيغادر في غضون أيام!

نعم شيخي.. الشباب في فوضى عارمة، وخصامٍ نكد؛ إذ ليس فيهم كبيرٌ، يسمعون له جميعاً.

بعضهم يريد الشيخَ عداباً، وبعضهم لا يريدك، يقولون: عنيفٌ، شديدٌ، قاسٍ لا يُحتمل، فأرى أن تتركهم وشأنهم، حتى تأتي الفرصة المناسبة! 

ذهب الأخ أبو أيمن، فجاء الأخ «عمر مرقة» ونصحني بالسفر إلى لبنان، لكنه لم يوضح لي سبب اختياره لبنان!

كان الرجل الفاضل الذي أقيم في بيته، يعيش على أعصابه، وقد ترك عمله ليقيم معي ويراقب حركاتِ الأمن في الحيّ، وكان قد سمع ما قاله لي الأخوان محمد وعمر، وكان هذا يوافق هوىً في نفسه؛ خوفاً عليّ من جهة، وخوفاً على بيتِه وأهلِه من جهة أخرى.  

في هذه الأثناء؛ زارني أخي الحبيب وصديقي العزيز الشيخُ عبدالودود المراد، وكانت علاقتي معه؛ هي الأقوى بين جميع مشايخ آل المراد، وحين ارتاح قليلاً قال: جاء الخبر إلى المخفر بأنّ عداباً ضاربٌ ومضروبٌ، وهو في حالةٍ خطرة، لكن لا يُدرى أين هو!

قال: لكني أراك مثل السبع، ليس بك شيءٌ، فكيف جاء خبرٌ رسميٌّ كهذا، وهو مخالفٌ للواقع!

قلت له: أما كوني ضارباً؛ فأنا لم يكن معي سوى سكين «كندرجية» صغيرة، حين صممت على الهروب من بين أيديهم؛ أخرجتها من جيبي، وأومأتُ بها عليهم يميناً ويساراً فإن كنتُ أصبتُ أحداً من غير شعورٍ مني؛ فربما!

وأما كوني مضروباً؛ فعناصر الأمن أطلقوا عليّ من الرصاص؛ ما لا يُتصور معه إلا أنني غدوت مصفاةً!

لكنّ وقوعي في حفرة «حصيرة» العمارة، فيما يبدو؛ جعلهم يظنون أني قُتِلت!

وحين انتهوا من قتلِ الشيخ مروان، أو اعتقاله ومَن في البيت؛ رجعوا إليّ، فوجدوا مساحة كبيرةً من الدم، فظنوا أنها من رصاصهم، وأني تحاملت على نفسي، أو أنقذني بعض الجيران.

أقول: ربما كان هذا هو تفسيرَ كلامهم، والله تعالى أعلم.

فقال لي: الحمد لله على سلامتك! لكن يجب أن تغادر المدينة فوراً، فوالله إنّ الحيّ يغلي كالمرجل، ولا يجرؤ أحدٌ على التحرك بحرية، ولا تجرؤ امرأة على الخروج من بيتها بسببك!

قلت: لماذا بسببي، وليس بسبب ابن عمّتك الشيخ محمود؟

قال: هو بسببكما معاً، لكن الشيخ محمود لم يكن في منْزل الشيخ مروان، ولم تعتقل زوجته مع الشيخ مروان، ولم يضرب عدداً من رجال الأمن، ولم يهرب من بين أيديهم!

فإذا كانوا يريدون الشيخَ محموداً مرةً؛ فهم يريدونك ألف مرة!

ثم تلا عليّ قولَ الله تعالى: ]وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ[ [القصص : 20].

قلت له: كلام الله تعالى على الرأس والعين، لكن أنا عندي شبابٌ كلّ واحدٍ منهم يساوي الدنيا بما فيها، فلمن أتركهم، إذا كان الشيخ محمود سيغادر؟

قال: ليس واحدٌ من الشباب مطلوباً الآن، وهم ساكنون لم يتحركوا، لكن أنت المطلوب حيّاً، أو ميتاً!

طال الجدال بيني وبينه، فأقسمت يميناً بالله أنني لا أترك حماة، إلا شهيداً!

فخرج رحمه الله مغضباً، فقال لي صاحب البيت بهدوئه الرائع: الشيخ عبدالودود يحبك كثيراً، وهو ونحن جميعناً حريصون عليك كثيراً، وهم يكلمك بلسان المشايخ أجمعين!

فهمتُ أنّ صاحب البيت خائفٌ، ولكني قلت: يجب أن يتعلموا الصبر والثبات، فتظاهرت بأني لم أفهم شيئاً، وقلت له: المشايخ كلهم على رأسي، لكن المهمّ هو أنت!

أنت كيف صبرُك واحتمالك؟

قال: وهل أحضرتك إلى بيتي إلا لأفتديك بنفسي وأولادي؟ لكن كلام الشيخ عبدالودود وكلام أخويك محمد  وعمر؛ صواب!

قلت له: كلامك على الرأس والعين، متى أذن العشاء؛ خرجت من بيتك؛ شاكراً فضلك والله، ومن دون زعل!

قال: والله لا تخرج من بيتي إلا على جثتي! أو تطيع المشايخ، وتغادر البلاد!

قلت: حتى يأتي المساء؛ يحصل خيرٌ إن شاء الله!

بعد صلاة العصر من ذلك اليوم نفسه؛ فوجئت بشيخيّ الجليلين: محمد علي المراد وأحمد المراد يزورانني في البيت الذي أختبئ به!

ولما استقرّ بهما المقام؛ قال لي الشيخ محمد علي: ابني عداب! كيف ترفض كلام الشيخ عبدالودود؟ أما علمتَ أننا نحن أرسلناه إليك؟ مِن مَتى يردّ طالب العلم كلامَ شيوخه؟

قلت له: يا شيخي أنا مرتبطٌ بجماعة، ولا أستطيع أن أتصرّف بعيداً عن أوامرها، مع احترامي العظيم لكلامكم!

قال: جماعتك الآن اتخذت قراراً بعدم المواجهة مع الدولة، والليلة سيغادر الشيخ محمود إلى لبنان، وأنت ستغادر الليلة أيضاً!

يا عداب: الدولة اتخذت قراراً بتدمير المدينة، ونحن لا نريد أن تكون أنتَ سبب تدميرها!

يا عداب! آباؤنا وأجدادنا كانوا يقولون: سيأتي يومٌ يدمّر النصيريون حماة وحمص!

فالله الله في نفسك وأهلك أن تكون أنت سبب دمارها، فتبقى عليك لعنةُ أهلها إلى يوم الدين!

قال: اختر الوجهةَ التي تريد، إما العراق، أو الأردن، أو لبنان، وجهّز نفسك للسفر الليلة!

ودار حوارٌ طويل، حتى ملّ الشيخُ، ثم قال: ألست أنا والدك الروحيَّ، ألست أنا شيخك أليس لي حقّ عليك، أسألك بالله الجليل، وبجدك رسول الله، وبحق مشايخك عليك، وبرحمة جدك الحمش؛ أن تصغي إلى كلامنا، فنحن لسنا مستعدين لمواجهة خمسة جنود، فكيف بمواجهة جيشٍ، جهز الخطة لتدمير البلد؟

قم! احلق لحيتك، واغتسل، وجهّز نفسك للسفر!

فقلت له: شيخي الكريم! والله لا أحلق لحيتي، إلا إذا قطعت رقبتي، لكنني أخففها فقط من أجل كرامتك عندي!

وتمّ الاتّفاق على أن أسافر إلى الأردن، بطريقة مأمونة، هم يهيئونها!

غادر الشيخان الجليلان، وقمت بتجهيز نفسي للسفر، وما هي إلا ساعةٌ من الزمن، حتى جاء الأخ «أبو أيمن» يحمل ظرفاً فيه (3000) ليرة سورية، وقال: هذا هدية يسيرةٌ من إخوانك، وعُدّها قرضاً، متى تيسّر لك ردُّها؛ فافعل؛ لأنك ستحتاجها في سفرك!

قلت له: الشيخ محمود سيسافر، وأنت ستسافر، وأنا سأسافر، فمن يقوم على أمر الشباب؟

قال: لهم الله تعالى، ثم إنهم الآن تحت إشراف الأخ «عمر مرقة» فتوكل على اللهِ، وألتقيك في الأردن، إن شاء الله تعالى، وانصرف!

السفر العجيب:

حين قررنا السفر، وحددنا موعده؛ أرسلتُ امرأةً في طلب والدتي لأراها قبل سفري وتراني بعدما سَمَعَتْ أني قتلتُ!

جاءت الوالدة، وجلست عندي دقائق معدودة، ودعت لي، وانصرفت بعد أن اطمأنّت على جرح رجلي العميق، الذي كان لا يزال ملتهباً، على الرغم من مرور أسبوعين على الإصابة!

بعد مغرب يوم من أيام تموز؛ دخل عليّ عددٌ من الرجال الذين لا يبدو عليهم التديّن أو العلم!

فحدّثني صاحب المنْزل أنهم من أجهزة الأمن المتعاونين معنا، والمخالفين للنظام في أسلوبه الوحشيّ، في القتل والسجن والتشريد!

قلت له: وكيف أسلّم نفسي لخصومي يا فلان؟

قال واحدٌ منهم: نحن لو كنا نريد بك شرّاً؛ كنا قتلناك في لحظة دخولنا عليك، نحن نريد سلامتَك وسلامةَ البلد، فأنت أخونا وابن بلدنا!

وقال آخر: عداب الحمش مطلوب حيّاً أو ميتاً، ومقرّك غداً معلومٌ لدينا، فلو كان عندنا نية سوءٍ بك؛ اتّصلنا بمرجعيتنا، من دون أن تشعر بنا؟

ثم هل تتوقع من فلان أن يُسلّمك إلى خصومك؟

قال أحدهم: عداب الحمش رجل شجاع، لا يخاف منا، ولا من غيرنا، وهذا رشاشي فيه ستون طلقة، أبقه معك، ودافع عن نفسك، حتى آخر طلقة فيه، ونحن معك أربعة فقط!ّ

أخذت الرشاش، وتيقنت من سلامته، وامتلاء مخزنيه، ووضعت مسدسي على جنبي وأربعَ قنابل على بطني، وقلت لهم: توكّلنا على الله، تفضّلوا!

ركبت في سيارة «جيب» للمخابرات، في القسم الخلفي، ومعي فيها اثنان فقط، إذ ركب كبير القوم بجانب السائق!

وكان معنا دليلٌ بدويٌّ أيضاً، وكان يحمل رشاشاً، للدفاع عني عند الحاجة!

وصلنا مضاربَ عشيرة «التركاوي» في البادية السورية، فعرفهم البدويّ بي، وبوضعي العام، فرحّب القوم بنا، وأكرمونا، وعشّونا، ونمنا في مضاربهم!

صلينا الفجر جماعةً، ثم انطلقنا إلى منطقة «المثلث» حيث مضارب الشيخ «راكان المرشد» شيخ قبيلة «السِبَعَة» من عَنْزة!

عرّفه البدويّ بي، فعرف جدي إبراهيم، وأخويه حمدو، وعبدالرحيم، وقال: كانوا معنا في حرب الفرنساوي، وكانوا شجعاناً.

تغدّينا عند الشيخ راكان المرشد، ثم استأذن البدويّ، ورجال الأمن الذين كانوا معنا في السيارة، وقالوا لي: انتبه لنفسك، مضارب الشيخ راكان ملأى بالمخابرات العراقية والأردنية، وانصرفو!

بعد انقضاء السهرة؛ طلب الشيخ راكان مني تفاصيلَ ما جرى، ثم قال لي: إن شئت اللجوء السياسي في العراق؛ فهو سهل جدّاً!

قلت: هؤلاء بعثيون، وهؤلاء بعثيون، مصيرهم أن يصطلحوا، أحب الأردنَّ أكثر!

قال: إذاً ستنتظر ثلاثةَ أيام، حتى أوصلك إلى عمّان بنفسي؛ لأنني لا أستطيع إرسالك مع أحد، فالطريق غير آمن، وليس معك أيّ شيء يثبت شخصيتَك!

وقال لي: حتى تصل إلى عمان، فأنت اسمك «سالم حمّاد الخلف!».

أما سالم؛ فقد سلّمك الله من أعدائك ونجاك من هؤلاء الأشرار.

وأما حماد؛ فيتوجب عليك دوام الحمد لله على ذلك؛ لأنهم لو اعتقلوك؛ لما عَلمتَ ماذا سيصنعون بك!

وأما خلف؛ فأنت إن شاء الله خلف جدك الحاج إبراهيم، وخلف شيخك مروان، رحمه الله تعالى، وكنا إلى ذلك الوقت نظنّ أنه قُتل!

وانتبه لنفسك وما تقول! أكثر الموجودين معنا من رجال الأمن الأردني، أو العراقي، لكن بثياب مدنية!

في صباح اليوم التالي؛ جلست أقرأ القرآنَ سرّاً من مصحفٍ كان معي، فناداني رجلٌ أسمر معجرف: يا ولد! أنت يا ولد!

قلت له: تناديني أنا؟ قال: إي إنت، املا الطاسة من الجرة، وُدْنا نشرب!

قلت له: الجرة قريبةٌ، يمداك تملاها بنفسك!

فتكلّم كلاماً قبيحاً شائناً، فحملت الطاسة، واقتربت منه بهدوءٍ، وضربته بها على رأسه، وقلت له: لولا كرامة الشيخ راكان؛ لملأتُ وجهك دماً يا حقير يا سافل!

سمع الجلبةَ بعض أولاد الشيخ، أو أحفاده، لا أدري، فجاء اثنان منهم، فسمعاني أقول له: أيها العبد الوقح، عمي الشيخ راكان يسقيني اللبن والماء بيده، وأنت تأمرني أن أملأ لك الطاسة، صِدْق أنت ما تستحي!

فكأن واحداً من الاثنين غمزه، فخرج من الخيمة، ولم أره بعد ذلك!

حين حضر الشيخ راكان قبيل صلاة الظهر؛ ناداني، وأجلسني بجانبه، وأبى أن أشرب القهوة إلا من يده، وقال للحاضرين: هذا ولد أخوي، هذا الشيخ سالم بن الشيخ حماد بن أخوي الشيخ خلف «البوحبط» البطل الشجاع، خوينا في حرب الفرنساوي، من سادات أهلنا «النعيم»!

جاءنا زائراً يريد أن يتعرف علينا؛ ليوصل ما انقطع بعد وفاة جده الشيخ خلف عليه رحمة الله، ويتعرف على عَمّه راكان المرشد!

لم يكن أحدٌ فيما ظهر لي مصدقاً كلامَ الشيخ؛ لأنني حين أتكلم اللهجة النعيمية أصيب مرةً، وأخطئ خمسَ مرات! علاوةً على وجهي الأبيض الأحمر، الذي لم تلفحه الشمس! والبدو لا يحترمون الحضريين كثيراً، لكنهم كانوا مضطرين لمجاملتي، لأجل الشيخ!

أجلسني الشيخ عن يمينه، وصار يقدّم إليّ أطايب اللحم، ويقرّب إلي اللبن والماء، بينما كان عن يميني ضابطٌ عراقيّ حلو الملامح على سمرةٍ تعلو وجهه، فقال لي: شيخ سالم أنت من وين من النعيم؟

قلت له: أنا بجانب الشيخ راكان الآن، بعد الغداء نتكلم بما شئت، إن شاء الله تعالى!

عقب تناول الغداء، وشرب القهوة والشاي؛ استأذن الشيخ راكان، وانصرف!

فما أحسست إلا وعددٌ كبيرٌ من العراقيين التفّ حولي!

لم أخف منهم؛ لأنني في جوار الشيخ راكان، ولأنني لست مذنباً تجاههم في شيء!

سألني الضابط الأسمر: من أيّ العمام أنت؟

قلت له: إذا أخبرتني أخبرتك!

قال: أنا نعيمي من وُلد منصور، من حويجة النعيم، تعرفها؟

قلت له: أيَبَهْ، كيف لا أعرفها، أنا أصلي من نعيم الموصل، من بلدٍ قرب دهوك ونحن من ولد الشيخ عبدالكريم الحبطي!

قال: هل تنتسب؟

قلت: انتسب أنت!

فانتسب، وذكر سبعة جدود من أجداده.

فانتسبت، حتى ذكرت له الجدّ الموصليّ المهاجر إلى حماة، لكن غيّرت أسماء ثلاثة فقط

سالم بن حماد بن خلف، بدلاً من: عداب بن محمود بن إبراهيم!

سألني: هل أنت من الإخوان المسلمين؟

قلت: نعم، ولي الشرف!

قال: هل سمعت بما حدث في دمشق مع مروان حديد؟ قلت له: وعندي التفاصيل!

قال: هل له أتباعٌ كثيرون؟ قلت: جداً، وهم أهل دين، وسباع!

قال: أنت منهم؟ قلت: نعم، ولي الشرف!

قال: الله محيي الرجال، نحن نرحّب بك في العراق، إن أحببت أنتَ وهُم المقامَ عندنا فنحن أهلكم!

شكرته على مشاعره، ودعوتِه، وقلت له: أنا لي عشيرة كبيرة في الأردن، وأريد أن أذهب إلى هناك!

قال: أهلك النعيم في العراق أكثر وأقرب من أهلك في الأردن، لكن أنت وما تشاء!

قلت له: اطمئنّ نحن ليس لنا عداوةٌ مع العراق، ولا مع الأردن، عداوتنا مع هذا النظام الطائفي الملحد المجرم!

أعطاني الرجل رقم هاتفه «اللاسلكي» وأرقام هواتفه في العراق، وقال: الآن، أو فيما بعد، نحن حاضرون لما تريدون!

بعد صلاة العشاء؛ طلب مني الشيخ راكان أن أحدثهم عن الشيخ محمد الحامد، وعن الشيخ مروان، فحدثتهم أكثر من ساعة، فسرّ الحاضرون بكلامي، خصوصاً عندما شرحت لهم أسبابَ الصراع بين الشيخ مروان والنظام!

كان عددٌ من الضباط الأردنيين حاضراً، وكانوا يرمقونني بغير رضاً، خاصةً إذْ كان مسدسي ظاهراً، ولم أتكلّف أن أخفيه!

سمع الأردنيون قصة قتل الشيخ مروان كاملةً، ودوّنوا بإذني بعض المعلومات المهمة لديهم وقالوا لي: هذا يفيدنا في معرفة ما جرى بدقة!

وإلى حلقةٍ تاليةٍ بإذن الله تعالى.

والحمد لله على كلّ حال.

 

  

 

 

 

 



([1]) هذا الكلام، كتبته عام (1981) كان العهد بالحدثِ قريباً، فهو كلام يقين.