الجمعة، 13 يناير 2023

 مَسائلُ حديثيّةٌ  (4):

الإجماعُ على صِحّة أحاديثِ الصَحيحينِ (1)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: إذا سبقَ إجماعُ أهل العلمِ في عصرٍ من العصورِ على مسألةٍ، هل يجوز نقضُ هذا الإجماع؟

وإذا قلتم: لا يجوز نقضه، فكيف تضعّفون بعضَ أحاديثِ الصحيحين، وترون أنّكم بذلك مأجورون؟

أقول وبالله التوفيق:

يحسن الإجابةُ على ما تقدّم بفقراتٍ وجيزة، حتى يسهل استيعاب الكلام على غير المتخصّصين!

أوّلاً: أنا الفقير إلى الله تعالى، جاوزت الخامسة والسبعين من عمري، وأبعدُ ما يمكن قولُه في بداية طلبي للعلم أنّه كان في بداية العام الدراسي (1962 - 1963) فشهود هذا في بلدنا حماة عشراتٌ كثيرةُ، وربما مئاتٌ!

أمّا طلبي للعلم قبل هذا؛ فلا يعرفه سوى أفرادٌ من الخواصّ!

مع أنني قبل العام (1962) حفظت ربع (يس) وربع العبادات من متن القدوري الحنفيّ، ومثله من متن الغاية والتقريب الشافعيّ، وحضرت كثيراً من مجالس العلم على عدد من العلماء، ومئاتٍ من خطب الجمعة!

ولو نحن نظرنا إلى عام (1962) وعام (2023) لوجدنا الفقير يطلب العلم منذ واحدٍ وستّين عاماً، وربما لم يطلب العلم واحداً وستّين عاماً أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا طلب العلمَ واحداً وستين عاماً، إلّا عددٌ يسير من العلماء الذين أطال الله أعمارهم.

ولا يعني هذا أنني أزنُ نفسي الضعيفةَ بالصحابة أو غيرهم، إنما أعني أنني أمضيت عمري الطويل هذا كلّه في طلب العلم، مما لا يتأتى مثله لكثيرين!

ولا يستطيع عاقلٌ أن يقول: إنني لم أكن من الأذكياء والمتميّزين؛ لأنني كنت الأوّل على طلّاب جامعة أم القرى، عام (1402) بمعدل ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى!

ويَعلم زملائي في جامعة أمّ القرى أنني كنتُ المتفوّق بالمسابقات الثقافية التي كانت تقوم بها عِمادة شؤون الطلاب في الجامعة كلّ عام.

وقد كتبتُ في العلم الشرعي والثقافة الإسلامية أكثرَ من عشرين ألف صفحة بيقين!

ما أريد قولَه: إنني عندما أوافق بعض المتقدّمين، أو أخالف بعضهم الآخر؛ فأنا لا ألفّق بين أقوالِ هؤلاء وأولئك، إنما هو اختيارٌ للصواب في نظري، وترجيحُ قولٍ على قولٍ بقوّة الدليل في نظري!

ثانياً: لو سلّمتُ أنا بوجود إجماعٍ أصوليٍّ في الفقه الإسلاميّ - وأنا لا أسلّم إلّا بوجود الإجماع السكوتي التقديريّ - فقد اختلف أهل العلم: هل يدخل علماءُ أهل البدع في الإجماع؟

بمعنى آخر: هل يدخل علماءُ (200 - 300) مليون مسلمٍ، مع أهل السنّة المدّعين للإجماع في الإجماع؟

اختلف العلماء في هذا، وترجيحي أنا مع الذين قالوا بوجوب دخول علماء المبتدعة في الإجماع.

فإذا اختلفتُ أنا وإيّاك في مسألةٍ؛ فأنت تلزمني بمنهجي الاجتهاديّ، وليس بمنهجك التقليديّ!

بتوضيح أكثر: إذا ادّعى سنيٌّ الإجماعَ على صحّةِ أحاديث الصحيحين؛ فدعواه باطلةٌ ابتداءً، ومن دون تفكيرٍ؛ لأنّ الشيعة الزيدية والإمامية والإسماعيليّة، والإباضيّة، لا يَعترفون بهذا الإجماع جملةً وتفصيلاً، وجميع هذه الفرق تقول بوجود أحاديثَ ضعيفةٍ في الصحيحين.

فيكونُ التشويشُ بأن لا عبرة بأقوال المبتدعة، وأنت تتبع المبتدعة؛ ليس من العلم في شيءٍ، إنما هو انتصارٌ للهوى والمذهب، ليس غير!

ثالثاً: أنا شخصيّاً أعتدُّ بالتخصّص، ولا تعنيني كثيراً أقوالُ غيرِ المتخصصين، مهما اشتهرت أسماؤهم!

فعندما يجمع القرّاء على مسألةٍ؛ لا قيمة عندي لخلاف المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين فيها البتّة!

وعندما يجمع الأصوليون على مسألة؛ لا قيمة عندي لخلاف القرّاء والمحدّثين والمفسرين!

وعندما يجمع المحدّثون على مسألةٍ؛ فلا قيمة لرأي الأصوليين والفقهاء والقرّاء وغيرهم، إن لم يكونوا متخصّصين!

وهذا يعني: هَلْ نقلٌ المحدّثون الإجماعَ على صحّةِ أحاديثِ الصحيحين، حتى أكون أنا خارقاً لهذا الإجماع؟

الذي يدّعي إجماعَ المحدّثين بعد عام (261 هـ) على صحّة أحاديثِ الصحيحين؛ أحدُ رجلين:

إمّا أنّه جاهل، وإمّا أنّه كذّاب أشر؛ لأنّ البخاريّ نفسَه ضعّف أحاديثَ أخرجها مسلمٌ في صحيحه، وضعّف مسلمٌ أحاديث أخرجها البخاريّ في صحيحه!

وأعرض مسلم عن قُرابةِ (800) حديثٍ، أخرجها البخاريّ في صحيحه، وأعرض البخاريّ عن أكثر من (1200) حديثٍ، أخرجها مسلمٌ في صحيحه!

وقد ضعّف الترمذيُّ عدداً من أحاديث البخاريّ، وعدداً أكثرَ من أحاديث مسلمٍ، وهو تلميذهما!

وحكم بقوله (حسن) على عشرات الأحاديث عند البخاريّ، وعند مسلم، ومصطلح (حسن) مجرّداً عن الإضافة عنده؛ هو الحديث (الحسن لغيره)!

وكتب أبو الحسن الدارقطنيّ كتابين في نقد الصحيحين، ولم يستوعب، أحدهما:  التتبع، والآخر: الإلزامات، وإذا كانت الإلزامات لا تلزمهما؛ فالذي تتبّعهما الدارقطنيّ وانتقدهما فيه (207) أحاديث في الصحيحين.

تقول لي: أجاب عنها النووي وابن حجر وغيرهما؛ أقول لك: أنا أوافق الدارقطنيّ مثلاً، فهو أعلم بعلل الحديث من النووي وابن حجر، ولا توجد قاعدةٌ علميّةٌ تلزمني بتقليد النووي وابن حجر!

رابعاً: اختلف المحدّثون في رواة الحديث، بين موثّقٍ ومضعّف، ورواة البخاريّ ومسلم منها.

مثلما اختلفوا في قبول رواية المستور والوحدان والأفراد.

وقد أخرج البخاريّ ومسلمٌ لعددٍ من المجاهيل، وعددٍ من المستورين، ولمائة راوٍ من الوحدان، وأكثرا من تخريج أحاديثَ لرواةٍ من العوامّ، ليس للواحد منهم سوى حديثٍ واحدٍ، وأكثرا من تخريج الأفراد المطلقة!

وقد اختلف العلماء كثيراً في قبول الأفراد المطلقة، كما سيأتي بيانُه!

فإذا قبلَ البخاريُّ حديثاً من الأفراد المطلقةِ، وضعّفه الإمام أحمد، أو أبو حاتم الرازي، أو أبو زرعة الرازي.

أو سكت عنه هؤلاء جميعاً؛ لأنّ المتأخر عن البخاريّ لم يقصد استيعاب نقده للصحيح، ثمّ وجدتُ أنا علّةً خفيّةً في إسنادِ هذا الحديثِ، أو نكارةً في متنه، أو تَضعيفاً من النقّاد لمن تفرّد به؛ فهل يجوز لي شرعاً أن أترك فهمي واجتهادي، إلى اختيار البخاريّ واجتهاده؟

ختاماً: أنا الفقير إلى الله تعالى أقرّ وأعترف ولديّ الأدلة الراجحة على صحّة وثبوت نِسبةِ صحيحِ البُخاريّ إلى البخاريّ، وصحّة وثبوت صحيح مسلم إلى مسلمٍ.

وأقرّ وأعترف بأنّ صحيح البخاريّ وصحيح مسلم؛ أصحّ كتابين من كتب الحديث عند المسلمين.

وأقرّ وأعترف بأنّ الصحيحَ والحسن في الصحيحين؛ أكثرُ بكثيرٍ، وكثيرٍ جدّاً من الأحاديث الضعيفة فيهما، وهذا لا يقوله أهل البِدَعِ، الذين يتّهمني خصومي بمجاراتهم!

والله تعالى يعلم أنني أبذُل قصارى جهدي؛ لأجد مخرجاً علميّاً مقبولاً  للحكم على بعض الأحاديث بالحسن، إذ عجزت عن إلحاقه بالصحيح!

وإنّ جميعَ المشوّشين، والزاعمين أنهم يردّون على الفقير عداب؛ لم يمارسوا تخريج الصحيحين، ولم يقوموا بإحصاءاتٍ علميّة، توضح جوانب القُصور في بعض أحاديث الصحيحين.

وبعض هؤلاء يقول: إنّ الطعن ببعض أحاديثِ الصحيحين؛ يقوّي المبتدعة، ويجعل لهم علينا سبيلَ الانتقادِ لما هو مستقرٌّ في مذاهب أهل السنّة؟

أقول: ومن الذي قال لكم عنّي: إنني معجَب بمذاهب أهل السنّة، أو بمذاهب الشيعةِ، أو بمذهب الإباضيّة؟

بيقينٍ تامٍّ لست معجباً بأيّ مذهبٍ من هذه المذاهب كلّها، ففي جميعها ثغراتٌ لا تكاد تحصى، وبعضُ هذه المذاهب يكفّر بعضاً، وبعضها يحقّر بعضها الآخر!

وجميع هذا المذاهب السنيّة وغيرها؛ لديها صوابٌ كثير، ولديها خطأٌ كثيرٌ وقليل!

ووظيفتي ووظائف أهل العلم المعاصرين؛ أن يعتمدوا الصواب الراجح وينشروه ويدعو إليه، ويوضحوا الخطأ ويحذّروا من العمل به.

وفي المنشور التالي؛ سأقيم الحجّةَ، وأورد الأدلّة التي تثبت أنّ دعوى الإجماع على صحّة جميع أحاديثِ الصحيحين؛ باطلةٌ من جذورها، وأن عشرات العلماء في القديم والحديث ضعّفوا بعض الأحاديث المخرّجة في الصحيحين، مثلما ضعّفوا مئاتٍ من رواتهما.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق