الثلاثاء، 3 يناير 2023

مَسائلُ حديثيّةٌ  [2023] (1):

عَددُ الأحاديثِ الصحيحة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

منذ أيّامٍ كتبتُ منشوراً، حاولتُ فيه تقريبَ مفهوم أعدادِ الأحاديث المَهولةِ التي يذكر المحدّثون أنهم يحفظونها: مائة ألف حديث، مائتا ألف حديث، ستمائة ألف حديث!؟

فتواصل معي غيرُ واحدٍ يقولون:

كم عددُ الأحاديثِ الصحيحةِ في تقديرك أنت؟

وهل ضاع على الأمّة شيءٌ من الأحاديث الصحيحة؟

وإذا كان قد ضاع شيءٌ، ألا يتعارض هذا مع قول الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) [الحِجْر].

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: أنا الفقير ليس لي رأيٌ في هذه المسألة، ولو كان لي رأيٌ؛ فلا قيمةَ له لدى جماهير الأمّة، إذ إنّ الأمّةَ - كلَّ الأمة - سلفيّة أثريّة، تعتقد بأنّ المتقدمين أعلم منا وأتقى!

ثانياً: أنا لا أقول: ضاع من الروايات الحديثية، أو لم يضع منها شيءٌ، إنّما أقول: لم يضع آيةٌ من كتاب الله تعالى، بإهمالٍ، ولا بنسخ تلاوةٍ، ولا باختلاف قراءات قطعاً.

ولم يضع علينا سنّةٌ من سنن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنّما نُقلت سننه الشريفةُ نقلَ الكافّةِ عن الكافّة!

وقد بيّنت في منشوراتٍ سابقةٍ؛ أنّ السنّةَ النبويّة أخصّ عندي من الحديث، وأخصّ من الرواية الحديثيّة.

ثالثاً: لأيّ واحدٍ أن يتساءل: القرآن الكريم يشير إلى معاناةِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم الهائلةِ في مكّة المكرمة، بينما لا نجد في الروايات الحديثية الصحيحةِ إلّا أحاديثَ قليلةً، أكثرها مَرويٍّ عن صغار الصحابة الذين لم يدركوها أصلاً، لماذا؟

رابعاً: عاش الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة أكثرَ من عشر سنين، وكان يؤسس العقيدةَ والفكرَ والأخلاقَ، بينما لا يوجد لدينا (100) حديثٍ مكيّ، رواه صحابةٌ كبار، عاصروا تلك الأحداث، لماذا؟

خامساً: عاش الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة عشر سنين، وقد خطب أكثر من (500) خطبةِ جمعة، بينما ليس تحت أيدينا سوى (38) خطبةً، صحّحها بعضُ الإخوة الذين درسوها في أكثرَ من رسالةٍ علميّة، وبعضُها عندي لا يصحّ، لماذا؟

أنا ليس لديّ إجابةٌ مقنعةٌ لهذه الأسئلة العسيرةِ، سوى أنّ القادة السياسيين - بمن فيهم الإمام عليّ عليه السلام - لم يقوموا هم بتدوين تلك الروايات التي يفترَض أنها كثيرةٌ جدّاً، ولم يوضحوا لنا أسباب ذلك، والناس تبعٌ لقادتهم!

أمّا عن عدد الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، مما بين أيدينا من روايات؛ فإليكم جواب ذلك:

قال الأصوليّ الفقيه بدر الدين الزركشيّ في كتابه «النكت على علوم الحديث» (1: 181): «إنّ الأقدمين يطلقون الْعدَد من الْأَحَادِيث على الحَدِيث الْوَاحِد الْمَرْوِيّ بعدّة أَسَانيدَ، وعَلى هَذَا فيسهل الْخطبُ، فَرب حَدِيثٍ لَهُ مائَةُ طَرِيق وَأكْثرُ!

وَقد قَالَ الْفَقِيهُ نجمُ الدّين الْقَمُولِيُّ: إِن مَجْمُوع مَا صَحَّ من الحَدِيث أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث.

وَأوّلَ كَلَامَ البُخَارِيّ السَّابِق «أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح» فَقَالَ: «مُرَاده بِمَا ذكره، وَاللهُ أعلمُ؛ تَعَدُّدَ الطّرقِ والأسانيدِ وآثارَ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم، فَسمى الْجَمِيع حَدِيثاً، وَقد كَانَ السّلفُ يطلقون الحَدِيث على ذَلِك!

قَالَ: وَهَذَا أولى من تَأْوِيله أَنّ البخاريَّ أَرَادَ الْمُبَالغَة فِي الْكَثْرَة، بل هُوَ مُتَعَيّنٌ، لَا يجوز الْعُدُولُ عَنهُ» انْتهى.

قال الزركشيُّ معقّباً: «وَهَذَا التَّأْوِيل يُؤَيّدهُ أَنه قد صَحَّ عَن جمَاعَة من الْحفّاظ أَن الْأَحَادِيث لَا تَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْعدَد [كأنه يريد: أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث].

وَقد ذكر أَبُو الْعَرَب «محمد بن أحمد بن تميم (ت: 333 هـ)» التميميُّ فِي مُقَدّمَة كِتَابه «الضُّعَفَاء» عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان أنّه سئل: كم جملَةُ الْمسند؟

فَقَالَ: حَصّل أَصْحَابُنا ذَلِك، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آلَافِ حَدِيث، وفيهَا مُكَرر!

قَالَ أبو العرب: وَسمعت إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول: سَأَلت جمَاعَةً من أهل الْبَصْرَة عَن جملَة المُسنَد الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟

فَقَالُوا: سَبْعَةُ آلَافٍ ونيّف!

وَعَن غنْدر «محمد بن جعفر» قال: سَأَلت شُعْبَةَ عَن هَذَا؟ فَقَالَ: جملَة الْمسند أَرْبَعَة آلَاف ونيّف.

وناظَرَ عبدُالرَّزَّاقِ إِسْحَاقَ بنَ رَاهَوَيْه فِي ذَلِك، فَقَالَ إِسْحَاقُ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقَالَ عبدالرَّزَّاق: أَقُول مَا قَالَه يحيى بن سعيدٍ القطّان: «الْمسند أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعمِائَةٍ، مِنْها:

- ألفٌ ومائتان سُنَنٌ.

- وَثَمَانمِائَة حَلَالٌ وَحرَام.

- وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة فَضَائِل وأدب وتسديد.

وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: سِتَّةُ آلَافٍ، أَو خَمْسَةٌ.

وذُكرَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ: السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو تِسْعمائَة حَدِيث!

فَقيل لَهُ: إِنّ أَبا يُوسُف قَالَ: هِيَ ألفٌ وَمِائَةُ؟

قَالَ: أَبُو يُوسُف أَخذ تِلْكَ الهَناتِ، من هُنَا وَمن هُنَا» يَعْنِي الْأَحَادِيث الضعيفة!

وَذُكِرَ عَن يحيى بن معِين أَنّ جُملَة الْمسنَد؛ أَرْبَعَةُ آلَافٍ ونيّف».

ونقل الحافظ ابن حجر في نكته على علوم الحديث لابن الصلاح (1: 299) عن الأئمّة نحواً مما ذكره الزركشيّ، ثم قال: «وقالَ كلٌّ منهم بحسب ما وَصل إليه. ولهذا اختلفوا».

نستخلص مما سبق كلّه؛ أنّ عددَ الأحاديثِ الصحيحةِ الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم غير معروف؛ لأنّ أحداً لم يقم بجمع وتخريج ونقد جميع المرويات من الحديث.

لكنْ تبيّن لنا من كلام يحيى القطّان؛ أنّ العلماء الماضين كانوا يميّزون بين السنن وبين الروايات الحديثيّة!

«الْمسند أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعمِائَةٍ، مِنْها:

- ألفٌ ومائتان سُنَنٌ.

- وَثَمَانمِائَة حَلَالٌ وَحرَام.

- وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة فَضَائِل وأدب وتسديد».

وليس كما هو شائع من أنّ كلّ حديثٍ صحّ إسنادُه؛ فهو سنّة!

ختاماً: لو نحنُ فهمنا وطبّقنا كتابَ الله تعالى، وما في صحيح البخاريّ وصحيح مسلمٍ من الحديثِ الصحيح؛ لكنّا كما يريده الله تعالى منّا، ولسنا في حاجةٍ إلى التغنّي بكثرة المرويّات، ونحن لا نعملُ بما في الأربعين النوويّة من أحكامٍ وآدابٍ وأخلاق!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق