الثلاثاء، 22 يونيو 2021

 مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (5):

نَقلُ القرآنِ العظيمِ، بين التواترِ والآحاد!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

علّق أحدُ الأصدقاء على صفحتي تعليقاً محزناً جدّاً، لدلالته على عدمِ معرفةِ مَن أثاروا لديه ولدى أمثاله هذه الشبهة بأدنى معرفة بالعلم البتة، فكتب يقول:

«لديّ سؤال حول القرآن الكريم:

نحن علمنا من خلالِ أساتذة الحديثِ؛ أنّ الحديثَ الصحيح والقرآن لهما نفس المرتبة!

وكذلك علمنا أنّ من شروط تصحيح الحديث؛ هم الرجال الرواة للحديث.

فإذا كان أحد رجال الحديث مقدوحاً به؛ يضعّف الحديث!

كذلك إذا وُجد مجهول بوسط السلسلة.

وكون حضرتكم من مشايخ علم الحديث النبويّ؛ أوجه إليكم هذه الأسئلة:

(1)  ما الفرق بين سلسلة روايةِ القرآن الكريم، وبين سلسلةِ روايةِ الحديث النبويّ الصحيح؟

(2)  هل يمكن تطبيق شروط الجرح والتعديلِ، على رواة القرآن الكريم، كما في الحديث؟

(3)  إذا كان أحد سلسلةِ رواة الحديث مجهولاً، وكان أحدُ سلسلةِ رواة القرآن الكريم مجهولاً أيضاً، فما العمل، وهل يقدح في رواية القرآن الكريم من شيء؟

(4)  نحن نعلم أنّ رواية القرآن الكريم عندما تصل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعدها تمرّ إلى جبريل، ومن ثمّ تصل إلى الله تعالى!

(5)  ولكنّ جبريلَ لا أحدَ يعرفه من الناس، ولا أحد رآه سوى الرسول!

فهل يعتبر القرآن الكريم خبرَ آحاد، وكيف يتمّ حلّ هذه الإشكاليّة»؟

أقول وبالله التوفيق:

قول الصديق: « نحن علمنا من خلالِ أساتذة الحديثِ؛ أنّ الحديثَ الصحيح والقرآن لهما نفس المرتبة» هذا غير صحيح البتّة!

فلا يوجد عالمٌ واحدٌ من أهل الحديث، يقول بهذا، إنما يقولون: حجيّة السنّة مثل حجيّة القرآن الكريم في التشريع، وبعده في الرتبة!

والروايات الحديثيّة؛ ليست كلّها سنناً، كما يعلم ذلك من له أدنى بصيرة في العلم!

ولمعرفة العموم والخصوص بين هاتين الكلمتين؛ اقرأ بهدوء ودقّة كتاب «تاريخ مصطلح السنة ودلالته» للدكتور محمد خير علي فرَج.

- وقول الصديق: « وكذلك علمنا أنّ من شروط تصحيح الحديث؛ «توثيق» رواة الحديث، فإذا كان أحد رجال الحديث مقدوحاً به؛ يضعّف الحديث، وكذلك إذا وُجد مجهول بوسط السلسلة» صحيح من حيث الجملة.

فلا بدّ لتصحيح الحديث من عدالة الرواة الدينيّة، وقوّة ضبطهم، وخلوّ الحديثِ من الشذوذ والعلة القادحة.

قول الصديق: «ما الفرق بين سلسلة روايةِ القرآن الكريم، وبين سلسلةِ روايةِ الحديث النبويّ الصحيح»؟

الفروق بين تلكما السلسلتين كبيرٌ جدّاً، وأبرزها:

(1)   سلسلة رواة القرآن الكريم تروي نسخة مكتوبةً مجمعاً عليها من جميع علماء الصحابةِ، بمن فيهم سيدهم وإمامهم عليُّ بن أبي طالبٍ عليه السلام.

وقد حكم الإمام عليٌّ الأمّة سوى البغاة الظلمة - خمسَ سنواتٍ، فلو كان يعلم أنّ في القرآن العظيم زيادةَ آيةٍ واحدةٍ أو نقصان آية واحدة، ثمّ لم يصححها؛ لخَرَج من الإسلام، وحاشاه!

أما سلسلة رواة الحديث؛ فتروي في غضون (100) سنة من تاريخ الإسلام رواياتٍ شفويةً ليس لها مستندٌ رسميّ من قبل السلطة الحاكمة، سواء في عصر الراشدين، أم بعده.

(2)   القرآن الكريم كتابٌ يٌتعبّد بتلاوته في الصلاة وخارج الصلاة، وعلى تلاوته وقراءته ثواب عظيم، وهذا أدعى للاهتمام به من جميع المسلمين، بخلاف رواية الحديث التي لا يهتم بها إلا المتخصصون.

(3) القرآن العظيم خطاب إلهيّ عظيم مهيمن، يشعر قارئه حتى من غير المسلمين بهيبته وعظمته وقوة قائله وسلطانه على الأرواح والقلوب، بخلاف الحديث الذي تصرّف الرواة بألفاظه، على قدر ضبطهم وعربيّتهم وفهمهم.

(4) النسخة القرآنية المجمع عليها من الصحابةِ رضي الله عنهم نسخت عنها نسخ كثيرةٌ في غضون القرن الهجريّ الأوّل.

وما وصل من هذه النسخ ولو سورة واحدة مطابق تماماً لما نسخ في القرن الثاني والرابع والسابع والتاسع والحادي عشر والخامس عشر!

سواءٌ ما كان منها في بلاد العرب، أم ما كان في بلاد الترك والعجم وإفريقية والأندلس.

لا تختلف نسخه كلّها في آية واحدةٍ قطعاً.

(5) وهنا يظهر الجواب على قول الصديق: «هل يمكن تطبيق شروط الجرح والتعديلِ، على رواة القرآن الكريم، كما في الحديث»؟

بأنّ بنية نقل القرآن الكريم على النقل الجمعيّ بحفظه في الصدور، ونقله مكتوباً في السطور، من دون اختلاف آية واحدةٍ بين نسخه في العالم، أو بين حفاظه من الآلاف، ثم مئات الآلاف، ثم ملايين المسلمين.

وبعضُ الأوغادِ الذين يروون عن أئمة أهل البيت رواياتٍ سخيفةً هزيلةً تتناسب مع سخفهم وجهلهم وأحقادهم؛ هم مرفوضون منبوذون، حتى من أبناء طائفتهم الغالية!

ثم قال هذا الصديق:

(6)  نحن نعلم أنّ رواية القرآن الكريم عندما تصل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعدها تمرّ إلى جبريل، ومن ثمّ تصل إلى الله تعالى!

(7)  ولكنّ جبريلَ لا أحدَ يعرفه من الناس، ولا أحد رآه سوى الرسول!

فهل يعتبر القرآن الكريم خبرَ آحاد، وكيف يتمّ حلّ هذه الإشكاليّة»؟

أقول: هذا كلامُ إنسانٍ مشكّكٍ، يبتغي طرح الشُبهِ في أذهان عوامّ الناس!

أو إنسانٍ جاهلٍ جهلاً تامّاً بحقيقةِ الرسل واصطفائهم، وصفاتهم العليا.

وخلاصة الجوابِ على هذه الشبهةِ؛ أن أقول:

يقول أهل الكلام: أوّل الواجباتِ؛ معرفة الله تعالى، وأنا أقول: أوّل الواجبات معرفة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، بالبحث عن دلائل النبوة، وأدلّة صدق الرسلِ الصدقَ التامّ الذي لا يتصوّر معه خلاف ذلك.

والبحث في خصائص النبوّة والأنبياء، وأنهم ليسوا مثلَ بقية البشر، فهم منزّهون عن الكذب والغلط والنسيان والوهم، ومقارفة الذنوب التي تَرين على قلوب بني البشر.

فإذا فُهم أنّ النبيّ إنسانٌ مصطفى، وأنه قمّة الكمال البشريّ، وآمن بصدقه ونبوّته؛ فحينئذٍ يسلّم له بقوله: حدّثني جبريل الملَك عن الله عزّ وجلّ!

وعليه حينئذٍ أن يؤمن بالغيب عن طريق، وأنّ يعلم بأنّ الملائكة والجنّ والآخرة والنعيم والعذاب من عالم الغيب، ولا سبيل إلى معرفته عن طريق الرسل!

أمّا أنّ جبريلَ مجهولٌ لا يعرفه إلا النبيّ وحده؛ فمن يعرفه النبيُّ وحده؛ فهو قمّة المعرفة، وليس مجهولاً؛ إذ الهدف من تعدّد الرائين أو الرواة؛ تحقّقُ معرفة العين والضبط، وهذا حاصل بإخبار الرسول المجتبى والمصطفى والمعصوم والمأمون صلّى الله عليه وآله وسلم.

وأخشى أن يفكّر طارحُ هذه الشبهاتِ بأنّ الله تعالى واحد أحدٌ أيضاً، فيحتاجُ إلى آخرَ و ثالثٍ ورابع أيضاً ليؤكّد كلامه، حتى لا يكون المخبر واحداً، فيصبح خبره من أخبار الآحاد!

ختاماً: صفحتي ليست لطرح مثل هذه الشبهات التي تقسّي القلب، اذهب واطرحْها على علماء الكلام، فربما كانت قلوبهم تحتمل مثل هذه القسوة العجفاء!

وأظنّ أنّ مثير هذه الشبهاتِ على صديقنا؛ ليس في قلبه يقين بالله تعالى وبالرسول؛ وإلا ما طرحَ مثلَ هذه التساؤلات الجاهلة بتاتاً.

فإذا كنتَ أخي السائل، أخي القارئ، ممن يعنيهم ربّهم تعالى ودينهم ورسولهم؛ فاذهب وابحث وتعرّف إليهم حتى تعرفهم، فأنت لا تعرفهم قطعاً!

ومنشورات الفيس بوك؛ لا تتسع مقالاتُها لمجلّداتٍ كتبت في هذه الموضوعات.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق