الخميس، 28 نوفمبر 2024

 التصوّفُ العليمُ:

الشيخُ محمّدٌ الكسنزان كما عَرَفْتُه (4)!؟

بين اللقاءين الأوّلِ والثاني.

أوّلاً: عقب انتهاءِ أيّام المؤتمر؛ أخبرني وزيرُ الأوقافِ بأنّ الرئيسَ صدّام حسين يريدني أن أبقى عدّةَ أيّام أخرى، فبقيتُ في فندق الرشيد وحدي يوماً آخر.

في اليوم التالي مباشرةً، أعادوا زجاجاتِ الخمرِ التي كنت طالبتُهم برفعها في أوّل أيّام المؤتمر، وإبعاد الفتياتِ المتهتّكات عن الخدمة، وغدا فندق الرشيد نزلاً من فنادق أوربّا وأمريكا، كما أتصوّر!

سألتُ أحدَ العاملين في الفندق عن غرفة المديرِ المسؤولِ، فأرشدني إليها!

طرقت الباب ودخلتُ، فرحّب بي الرجلُ أجمل ترحيب، وسألني عن حاجتي؟

فأخبرته بشأن الخمرةِ والسافراتِ، فتبسّم وقال: نحن فندق عالمي عصري، ولسنا تكيةً صوفيّة، لدينا في الفندق حفلات أعراس ورقص وخمور، كلّ ليلةٍ حتى الصباح!

ثانياً: ودّعته وانصرفت، وحملت «شنطتي» الصغيرة، ووقفتُ على باب الفندق، أنتظر سيارةَ أجرةٍ، حتى إذا جاءت؛ قُلتُ للسائق: هل تَعرف فندقاً نظيفاً، ليس فيه خمور ولا حفلاتُ رقصٍ وغناءٍ وأعراسٍ؟

أطرق قليلاً، ثم قال: للأسف الفنادق الراقية كلها هكذا، أعرف فندقاً نظيفاً، ليس فيه شيءٌ من هذا، لكنه متواضع، وبعيد من هنا نسبيّاً!

قلت له: نظيفٌ ومتواضع؛ أحبُّ إليّ من الفنادق الفخمة، أمّا البعد فلا يهمّ!

أوصلني الرجلُ إلى فندق «الساحة» قربَ منطقة المنصورِ، وبقي منتظراً معي حتى سجّلوا معلوماتي الشخصيّة، واستنسخوا صورةً من جواز سفري، وأوصلوا أغراضي إلى الغرفة التي اختاروها لي.

أبى السائق العراقيُّ الشهمُ، أن يأخذ أجرةَ توصيلي وانتظاره معي، حتى أقمت في غرفتي!

طال الحوارُ بيننا، حتى اضطرني لأن أقسم عليه بالله تعالى، فأخذ أجرته بحياءٍ شديد!

توضّأت وصلّيت ركعتين، وجلست أفكّر كيف سأخبر وزير الأوقاف بمكاني، فغفوتُ وغلبني النوم!

ثالثاً: طُرق باب غرفتي، فأفقتُ، وإذا بموظّف الاستقبال يقول: السيّد وزير الأوقاف ينتظرك في صالةِ الاستقبال.

توضّأتُ، ثم نزلتُ إليه، فعاتبني على ترك فندق الرشيد، من دون إخباره!

جئت لأشرح له القصّة، فقال لي: أخبروني بما حدث بالتفصيلِ، ووبّخت مدير الإدارة التي لقيتَه، هاتِ أغراضَك لنعود إلى فندق الرشيد، فقد هيّاتُ لك كلّ شيء كما تريد!

قلت له: هذا الفندقُ أحبّ إليّ من فندق الرشيد الفاسقِ الفاجرِ، دعني هنا أرجوك!

قال: أنا معك، لكن هذا توجيه السيّد الرئيس!

قلت له: ولماذا لا يَمنع الرئيسُ الفسوقَ والفجورَ في تلك الفنادق الضخمة، بوجودي وبعد مغادرتي، أنتم قلتم لنا: «المؤتمر الإسلامي الشعبيّ» فأيّ إسلام هذا يا سعادة الوزير؟!

قال: يا شيخ عداب: واللهِ ما عُطّل فندقُ الرشيد منذ أُسّسَ إلى هذا اليوم، إلّا من أجل الشيخ عداب، السيّد الرئيس يكرمك، فهل ترفضُ إكرامَه ورغبته؟

عدتُ إلى فندق الرشيد، وأقمت فيه ثلاثةَ أسابيع، ليس فيه حفلاتُ أعراس، ولا رقص ولا غناء ولا سافرات، ولا خمر، ثم أُذنِ لي بالسفر! 

قبلَ سفري أخبرني الوزير بأنّ السيّد الرئيس يطلبُ أن تقيم عندنا في العراق، وستجدنا نعم الأهل والعشيرة لك، ولك منا كلّ التقدير والاحترام.

 قلت للوزير: أوافق على الإقامةِ في العراق، إنما من دون أيّ امتيازات: «لا راتب، ولا سيارة، ولا سائق، ولا منزل، ولا حراسة، أنا مستغن تماماً» إذا وافقتم؛ رجعتُ إليكم، وإلّا بقيتُ في عمّان الأردنّ!

قال: الجواب ليس عندي، سأردّ عليك غداً.

ردّ عليّ بموافقة السيّد الرئيس على جميع شروطي، بما في ذلك الإذنُ بالدعوة إلى الله تعالى، والخَطابةِ في جميع مساجد العراق، من دون إذنٍ مسبق!

رابعاً: رجعتُ إلى العراقِ في (7/ 3/ 1992) ونزلت ضيفاً على الشيخ حاتم الدليميّ «الرفاعيّ الطريق» في تكيته، في  حيّ «الوشّاش» وهي تكية صغيرة مباركة.

اتّصلت في اليوم التالي بوزير الأوقاف، وقلت له: أنا أزورك في الوزارة، وذهبت إليه.

في أثناء الحوار سألني أين نزلت، ولماذا لم أخبره بقدومي، فقلت له: نزلتُ حيث أرتاح، فلا تَشغل بالك بهذا الأمر. 

رتّبنا معاً مسألةَ التدريس في جامعةِ «صدّام للعلوم الإسلاميّة» وانتهى كلّ شيءٍ بيني وبين الوزير، إنّما كان يتّصل بي أثناء الدوام في الجامعة أحياناً، وأزوره في كلّ شهرٍ مرّةً، يتفقّد أحوالي، على حدّ قولِه، رحمه الله تعالى.

ظللتُ ضيفاً على حضرةِ الشيخ حاتم الرفاعي في تكيتِه، حتى انتهى العمّال من ترميم بيتي الذي استأجرتُه في حيّ الداوودي، خلف مطعم الساعة، ولم يعدْ بوسعي التواصلُ مع الشيخ «محمّد الكسنزان» لما أعلمه من أدبيّات شيوخِ التصوّف، أنهم يرفضون بأن يكون للمريدِ أكثرُ من شيخٍ، حتى لا يتشتّت حال المريد، كما يقولون، وربما كان كلامهم صحيحاً؛ لأنّ (99%) من دراويشهم عوامٌّ بالمصطلحِ العلميّ الشرعيّ!

بينما أنا الفقير كنتُ لا أجيزُ طالباً بعلمٍ من العلومِ؛ حتى يخالفَني في عددٍ من المخالفاتِ العلميّةِ فيه، وكنتُ وما زلتُ مقتنعاً بصوابِ مذهبي في هذا الجانب!

خامساً: في بداية عام (1995) توعّدني جدّي الوليُّ بعقوبةٍ شديدةٍ؛ لأنني لم أنفّذ ما طلبه منّي باسم «أهل الله تعالى» من كتمانِ ما يكرمني الله به من كراماتٍ، وما يطلعونني عليه من من آياتٍ في الآفاق، ثمّ هجرني هجراناً تامّاً، حتى غدوت عصبيّاً عنيفاً!

ومع هذا لم يَخطُر في بالي أنْ أعاوِد التواصلَ مع الشيخ محمّد الكسنزان أبداً.

سادساً: في (3/ 12/ 1995) رفضت لجنة مناقشةِ أطروحتي للدكتوراه «الوحدان من رواة الصحيحين ومروياتهم في الكتب الستّة الأصول» وكان هذا الحدثُ أوّلَ العقوباتِ التي توعّدني بها جدّي الوليّ «أبو حمرة».

سابعاً: على الرغم من ابتعادي عن «تكية» الشيخ حاتم الرفاعي، إلّا أنّ الودَّ بيننا ما زال باقياً، وكان الرجل يهتمّ بأموري، وأمورِ أولادي بعد سفري من العراقِ أتمّ اهتمام، حفظه الله تعالى، وجزاه خيرَ الجزاء.

في منتصفِ شهر كانون الأوّل (12/ 1995) أرسل إليّ أحدَ تلامذته الحمويّين، وقال لي: يسلّم عليك الشيخ حاتم كثيراً، ويقول لك: «بِعْ جميعَ ما لديك من باصات وسيّارات، واحتفظ بقيمتها «دنانير» عراقيّة، فقد التقى حضرة الشيخ حاتم السيّد الخضر عليه السلام في الحضرة القادريّة، وأبلغه بضرورةِ فعلِ ذلك»!

كان سيّدي «أبو حمرة» قد هجرني، فغدوت من دون مرجعيّةٍ صوفيّة خاصّةٍ، ولم أكن يومَها على قناعةٍ بحياةِ الخضر، لكنني غفلتُ عن أنّ مشاهدةَ الشيخ حاتم للخضر عليه السلام؛ يمكن أن تكون مثلَ مشاهدتي وعلاقتي بجدي الوليّ «أبو حمرة» إنّما ليقضي الله أمراً كان مفعولاً!

لم أمتثل لطلب حضرة الشيخ حاتم، فخسرتُ جميع مالي في أسبوعٍ واحدٍ، من بدايات أيّام كانون الثاني (1996) حتى لم أعد أملك ثمنَ خبزٍ لأولادي، والله المستعان.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق