مَسائِلُ عَقَديّةٌ (9):
تَوحيدُ الأسماء والصفات
(1) !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال لي: قرأتُ لكَ كلاماً مفادُه أنّك تنكر توحيدَ
الأسماءِ والصفات، وتقول: هذا ليس بتوحيدٍ أصلاً!
وتقول: هذا التوحيد ممّا انفرد به الحنابلةُ، وأشاعه
ابن تيمية الحراني!
فهل فهمي هذا لكلامك صحيح، وما قولك في جعل التوحيد
ثلاثةَ أنواع؟
أقول وبالله التوفيق:
يُعجبني مثلُ هذا الأخ السائل كثيراً، إذ هو يستوضح
من صاحب الكلام ما اشتبه عليه من كلامه، ولا يُسارع في الإنكار، قبل الاستيضاح.
وإذْ إنني مريضٌ عاجزٌ عن كتابةِ المطوّلاتِ؛
فسأذهب إلى القرآن الكريم مباشرةً، وأستعرضُ بعضَ ما يثبته المجسّمة صفةً ذاتيّةً لله
تعالى!
فإنْ ثبت أنّه صفةٌ؛ أثبتُّ وجودَ صفاتٍ (متشابهةٍ)
لله تعالى في القرآن الكريم!
وإذا لم يثبت أنّ في القرآن الكريم أيّ صفةٍ من هذه
(المتشابهات) فلم يعد بنا حاجةٌ إلى الروايات الحديثيّةِ، التي تُفيضُ بالعلل
القادحة، التي أيسرها التفرّد من غير الحفّاظ!
أوّلا: وجهُ الله تعالى.
أثبت المجسّمة لله تعالى وجهاً لا كوجوه المخلوقات
بلا كيف، واستدلّوا على ذلك بآياتٍ من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:
(وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ
وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ).
(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)
(ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ،
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون).
(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ).
أمّا معنى الابتغاء: فقد قال الراغب الأصبهانيّ في
المفردات (ص: 137) ما نصّه:
البَغْيُ:
طلبُ تجاوز الاقتصادِ فيما يَتحرّى، تجاوزه، أم لم يتجاوزه.
فتارةً
يُعتبر في القَدْر الذي هو الكميّة.
وتارة
يعتبر في الوصف، الذي هو الكيفية.
يُقال:
بَغَيْتُ الشيءَ: إذا طلبتُ أكثر ما يجب، وابْتَغَيْتُ كذلك.
قال
الله عزّ وجل: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) وقال تعالى: (يَبْغُونَكُمُ
الْفِتْنَةَ).
والبَغْيُ
على ضربين:
-
أحدهما محمود، وهو تَجاوزُ العَدلِ إلى الإحسانِ، والفَرضِ إلى التطوّع.
- والثاني مَذموم، وهو تَجاوز الحق إلى الباطل، أو
تجاوزه إلى الشُّبَهِ.
ولأنّ البَغْيَ قد يكون محموداً ومَذموماً؛ قال
تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فخصّ العُقوبةَ ببَغيهِ بغيرِ الحَقِّ.
وأمّا الابتغاءُ؛
فقد خُصّ بالاجتهادِ في الطلَب، فمتى كان الطلب لشيءٍ محمودٍ؛ فالابتغاء فيه محمود
نحو: (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) و(ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).
فهل المؤمن المتّقي يبالغُ في الوصولِ إلى (وجهِ
الله تعالى) بكونه صفةَ ذاتٍ على ظاهرها كما يقولون؟
وما معنى المبالغةِ في الوصولِ إلى وجه الله تعالى؟
تَقبيلُه، لَمْسه، مشاهدتُه، مقابلتُه؟
من البدهيّ أنّ اللفظَ إذا احتمل من المعاني
أوجهاً؛ اخترنا من هذه المعاني ما يليق بنسبته إلى الله سبحانه تعالى.
قال
الراغب في مفرداته (ص: 856): «أصل الوجه الجارحة. قال تعالى: (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).
ولمّا
كان الوجهُ أوّلَ ما يستقبلُك، وأشرفُ ما في ظاهر البدنِ؛ استعمل في مستقبل كلّ
شيء، وفي أشرفه ومبدئه، فقيل: وجْه كذا، ووجْه النَهار.
وربَما
عبّر عن الذّات بالوجه، في قول اللهِ (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ).
قيل:
ذاته، وقيل: أراد بالوجه هاهنا التّوجّهَ إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة.
وقال
تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) و( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ،
إِلَّا وَجْهَهُ) و(يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) و(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ).
قيل: إنّ كلمةَ «الوجه» في كلّ هذا زائدةٌ، ويُعنى بذلك: كلّ شيء هالك، إلّا هو،
وكذا في أخواته.
ورُوي
أنه قيل ذلك لأبي عبد الله عليٍّ الرّضا عليه السلام «ما معناه»؟
فقال:
سبحان اللهِ، لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عَنى الوجهَ الذي يُؤتى منه.
ومعناه:
كلُّ شيء من أعمال العبادِ هالكٌ وباطلٌ، إلا ما أريدَ به الله، وعلى هذا الآيات
الأخرُ، وعلى هذا قوله: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) و(تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).
ولا
يخفى على أحدٍ أنّ قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لا
يمكن حمْلُه على ظاهره؛ لأنّه تجسيمٌ محض، ولأنّ الله تعالى جزماً ليس في الجهةِ
التي يتوجّه إليها المصلّي بذاتِه!
انظر
مثلاً إلى قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقوله
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) وقوله (وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقى) وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) إنّه لا معنى
لحمل كلمة (الوجه) في كلّ هذا على جارحة الإنسانِ، إنّما هي كِنايةٌ عن المسلكِ
والطريقِ والمذهب.
وينبغي
أن نستذكر المعانيَ التي نسبها الكافرون إلى الله تعالى، فنزّه نفسَه المقدسّةَ
عنها فقال: (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُون).
نَخلص
من هذا؛ أنّ إضافة الوَجْه إلى الله تعالى في القرآن الكريم، إمّا أنّها زائدةٌ
تفيد التشريف والتكريم!
أو
أنّها الجِهَةُ التي يُطلب ثوابُ الله تعالى من قِبَلِها.
ونحن
لا نثبت «رؤيَةَ الله تعالى بالأبصار لا في الدنيا، ولا يوم القيامةِ» فلا يلزمنا
فهم جريرِ بن عبدالله البَجليّ الأعرابيّ، ولا غيرِه ممن هم في درجته من
الأعرابيّة والفهم.
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق