الجمعة، 24 فبراير 2023

  في سَبيلِ العِلْمِ (3):

مَعَ شَيْخِنا ناصرِ الدين الألبانيّ، رضي الله عنه!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحدُ تلامذتي الأفاضل منشوراً إنشائيّاً مطوّلاً، ممهوراً باسم «الشيخ الدكتور العلّامة محمد عادل عزيزة الكيّالي» من مدينة حلب!

تناول فيه هذا العلّامةُ السيّدُ شيخَ المحدّثين في هذا الزمان، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت: 1999م) رحمه الله تعالى، وزعم المزاعم الباطلةَ الآتية:

- الشيخ الألباني ليس محدّثاً، ولم يكن يحفظ روايةً واحدةً بإسنادها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وحتى لو كان محدّثاً؛ فليس له أن يصحح أو يضعّف؛ لأنّ التصحيح والتضعيفَ ليس للمحدّث، وإنما للحافظ...

- الشيخ الألبانيّ صحح الضعيف وضعّف الصحيح مرّات.

- قال العلامة اللوذعيّ السيّد الكيّالي: «بالنسبة لي كلما قرأت جملة (صححه الألباني) أتوقّف وأقول: كيف يصحّح حديثاً على حافظٍ من الحفّاظ الكبار، كالحافظ الإمام الترمذيّ وغيره»؟

- قال: ولو سئل أحدهم ما تقول في مسألة (صححه الألبانيّ) لكان الجواب: «لا يجوز أن نقول هذه العبارة، إلّا في حالة واحدة هي: أن يؤلّف الألباني كتاباً جامعاً للأحاديث، ويسند أحاديثه بأسانيده المتصلة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بغير الأسانيد التي رواها أصحاب الصحاح والسنن، ثم يصحح ويضعّف ما بكتابه - كذا -

- وقال أيضاً: الغاية من المنشور التنبيهُ إلى خطورةِ الألباني على الإسلام والمسلمين، وما آلت إليه الأمور، فهذا الأمر دين، فانظروا عمّن تأخذوا - كذا - دينكم.

المنشور ذيله طويل كذيل ابن آوى!

أقول وبالله التوفيق:

قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا.

اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) [المائدة] .  

قال الراغب في المفردات (ص: 465): «شَنِئْتُه: تَقزّزتُه بُغضاً له (وشنآن قوم): بغضهم».

فنحن مأمورون بالعدل، منهيّون عن الجَوْر في الحكم، حتى مع الذين نبغضهم!

وأنا الفقيرُ إلى الله تعالى: عاصرتُ الشيخَ الألبانيّ خمسين سنةً من عمري؛ لم أسعَ يوماً إلى لقائه، ولا التقيتُه قطّ!

لماذا؟ لأنني كنتُ أشنؤه، أي: أبغضه في الله تعالى، من وجهة نظري!

بيد أنّ الإسلامَ العظيم يأمرني أن أعدل في الحكم له أو عليه، وليس كما يفعل الجهلةُ الرعاع الذين يهرفون بما لا يعرفون!

كان شيوخُنا في مدينة حماة؛ يُنفّروننا من الشيخ الألباني، ويقول بعضهم: إنّ جدّه الرابعَ أو الخامس يهوديّ!

قلت لأحد شيوخي هؤلاء: كان أبو بكر وعمر مشركين، ثمّ أسلما، ثمّ أصبحا أعظم شخصيّتين في هذه الأمّة، فكان ماذا؟

وسمعت أحد شيوخي الآخرين يقول الكلام ذاته، ويزيد: لكنّ والده كان رجلاً عالماً صالحاً!

فقلت له: لم أفهم يا شيخنا، جدّه الرابع يهودي، ووالده رجل صالح، فيكون هو ماذا؟

قال: ليس هو على منهج والده؟

قلت له: وما منهج والده؟

قال: والده من علماء أهل السنة والجماعة، أمّا هو فوهّابي ضالٌّ!

وذات يومٍ طلب الشيخ الألباني مناظرةَ شيوخنا في مدينة حماة، فرفضوا!

فسألت شيخي الشهيد مروان حديد رحمه الله تعالى: لماذا رفض مشايخنا مناظرةَ الشيخ الألبانيَّ الضالّ؟

نظر إليّ شذراً وقال: استغفر الله تعالى، الشيخ الألباني رجل عالم صالح، اجتمعت معه في السجن، واستفدت منه كثيراً، وكان رجلاً عابداً، لكنّ مشايخنا أضعفُ من أن يناظروه!

قلت له: لماذا هم أضعف منه؟

قال: إذا احتجّوا أمامه بحديثٍ، فقال لهم: هذا الحديث الذي احتججتم به ضعيف، أو باطل، أو ليس هو بحديث، فستنتهي المناظرة في بدايتها، مشايخها لا يحسنون علمَ الحديث مطلقاً!

قلت له: تعني أنّ الألباني رجل مسلمٌ، وليس بضالٍّ!

قال: أعوذ بالله من الضلال، قلت لك: عشت معه في السجن، وهو رجل عالم صالح، وسيزور مدينة حماة قريباً، وهو إذا زارها؛ لا بدّ أن يزورني، فتراه عندئذٍ، وتسمع منه!

زار الشيخ الألباني مدينة حماة، وزار شيخنا مروانَ عدّةَ مرّاتٍ، ولم يتسنَّ لي لقاؤه أبداً!

ومضت السنون حتى كان عام (1976) يومَ تعرّفت على شيخِ محدّثي مصر يومها سيّدي العلامة المحدّث الشريف محمد الحافظ التجّاني، تلميذ السيّد بدر الدين الحسني الدمشقيّ، وهو الذي منح شيخنا التجانيَّ لقبَ (الحافظ).

كان سيّدي الحافظ خصّص لي منفرداً، كثيراً من وقته، فسألته قائلاً: سيدي ما رأيكم بهذا الألباني؟

نظر إليّ بغضبٍ وقال: تقصد الشيخ ناصر الألبانيّ؟

خجلت وقلت: عفواً سيّدي، أقصد الشيخ ناصراً الألبانيّ!

قال: الشيخ ناصر الألباني حفظه الله تعالى كالبحر، هل تعرف البحر؟

فيه اللآلئ وفيه السمك وفيه أشياء أخرى، وكلّ إنسان يأخذ من البحر ما يريده، أو قال: ما يحتاجه!

حبّذا يا شيخ فيصل لو قام أحدُ إخواننا السوريين من معارفك بالسفر إلى دمشق، وإحضار جميع ما يجده من كتبه، ونحن ندفع له تكاليف سفره، وهديّةً فوقها!

وأنصحك أن لا تترك له كتاباً حتى تقرأه مرّتين على الأقلّ!

وأظنّه قال: «أنا شخصيّاً أستفيد منه كثيراً».

قلت له: هل في مكتبتكم المباركة شيءٌ من كتبه؟

تبسّم الشيخ وقال: «انظر فوق رأسك، هذه كتب الشيخ ناصر الموجودة لدينا، فوق رأسك» فاقرأها كلّها، ثمّ تابع مشروعك العلميّ، أو قال: خصّص لها وقتاً، وخصص لمشروعك العلميّ وقتاً آخر.

ثمّ استأذن ودخل إلى منزله.

وقفت أنا لوداعه، ثم نظرت رفَّ الكتبِ، فوجدت مجلّداتٍ ضخاماً، ووجدتُ كتاب «أحكام الجنائز» وكان أوّلَ كتابٍ قرأته للشيخ الألبانيّ، رحم الله شيوخنا أجمعين.

عندما أقمت في الحجاز (1978 - 1991م) قرأتُ كتبَ الشيخ الألبانيّ المطبوعةَ كلّها غيرَ مرّةٍ، وكنت أسألُ أهل العلم عن الأمور التي لا أفهمها، حتى ظننت نفسي مختصّاً بالشيخ الألبانيّ، ومرّاتٍ عديدةً قلت: «ما من يومٍ تشرق فيه الشمس أو تغرب، إلّا وللشيخ الألبانيّ في عنقي منّة»!

وذات مرّة كان صهره الدكتور رضا في زيارتي، وجرى ذكر الشيخ الألبانيّ، فقلت له: أتعرف يا شيخ رضا؟ قال: ماذا؟

قلت: اثنان من المسلمين لم أستطع أن أحبّهما لحظةً واحدةً؟ قال: مَن هما؟

قلت له: محمد بن عبدالوهاب النجديّ، وعمك ناصر الألبانيّ، مع عرفاني بعلم عمّك الغزير، وجهل محمد بن عبدالوهّاب!

حزن الشيخ رضا وفوجئ بما سمع، لكنّه رجلٌ كيّسٌ، امتصّ صدمةَ كلامي، وسكت!

جميعُ مَن تلمذَ للشيخ الألبانيّ من زملائنا ومعاصرينا يثنون على دينه وورعه وتقواه.

أمّا عن علمه؛ فهو بين أيدينا، ونحن - بفضل الله تعالى - ممّن يميّز بين الغثِّ والسمين، وبين الخطأ والصواب، وبين الهوى والهدى، ونقوّم ما بين أيدينا بالعدل!

وحتى التناقضاتُ التي جمعها أخي السيّد حسن السقّاف للشيخ الألبانيّ، في أكثر من جزءٍ؛ هي في نظري أمارةٌ على دين الرجل وتقواه، وأكثرُها ليست تناقضاتٍ، إنما هي من تغيّر الاجتهاد!

أحبَّ الشيخَ الألبانيَّ، أو اكرَه الشيخ الألبانيّ؛ فالرجل بحرٌ، خذ منه ما ترغب، ودع ما لا ترغب!

وشيوخنا الذين يشتغلون بالحديث النبويّ جميعهم: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، والشيخ نور الدين العتر، والشيخ محمد أحمد نور سيف، والشيخ شعيب الأرناؤوط، والشيخ محمد أبو شهبة، والشيخ عجاج الخطيب، والشيخ محمد أديب الصالح، وغيرهم من شيوخي الذي أخذت عليهم علمَ الحديثَ، جميعهم عالةٌ على كتب الشيخ الألبانيّ، وهم بمجموعهم لا يزيد علمهم على عُشر ما لديه، في تقديري!

وهذا لا يعني أنّه معصومٌ، ولا يعني أنني أعتمد كلامه، كلّا والله فليس في مكتبتي، منذ تسع سنين كتابٌ واحدٌ له!  

وكاتب هذا المنشورِ «السخيفِ» العلّامةُ السيّد الكيّالي الحسينيّ؛ لم أسمع به من قبلُ، ولم أقرأ له شيئاً من العلم، ولو كان ممّن يُشار إليه في علم الحديثِ النبويّ؛ لعرفناه، ومَن لا نَعرفه؛ لا يُعرَّف!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى اللهُ على سَيّدنا محمّدِ بن عبدِالله، وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ تَسْليماً.

والحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق