الثلاثاء، 1 فبراير 2022

         مِنْ عِبَرِ التاريخِ (9):

بين الشيخين جودةَ سعيدٍ ومروانِ حديدٍ، رضي الله عنهما.

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قرأتُ لأحدِ الإخوةِ الأحباب كلاماً قاسياً، تجاه مَن رثى الشيخَ «جودة سعيد» أوتوجّع على فراقِه، رحمه الله تعالى، وأنا واحدٌ منهم، بدعوى أنّ أولئك الباكين عليه، ممّن يخالفونه في الرأي، وممّن حمل السلاح مناهضاً للسلطة الحاكمة!

فكتبتُ إليه ما خلاصته: إنّ هذا لا يليق، فالخلاف بين أئّمة الإسلام قديماً وحديثاً؛ لا يجعلهم يحقدون على بعض، ولا يشمتون بوفاة أحدهم إذا مات.

وأقول وبالله التوفيق:

أوّل مرّة أسمعُ باسم «جودة سعيد» كانت عام (1964م) عَقِبَ خروج شيخنا الشهيد مروان حديد، من السجن.

حدّثنا عن رجلٍ عابدٍ، تقيّ، صابرٍ، مفكّر، اسمه «جودة سعيد» قال: وهو على نقيض منهجنا في التغيير، فهو لا يرى الخروجَ على الحاكم، حتى لو كان كافراً، إنما يكون التغيير بالصراع الفكريّ!

كنتُ صغيرَ السنّ، وكان في المجلس مَن هو أسنّ مني بكثير، فانتقص أحدُ الحاضرين من فكرة الشيخ «جودة سعيد» هذه، فغضب الشهيد مروان وقال له ما معناه: لا يا أخي لا أسمح لك أن تتكلّم بهذه اللغة، فهذا رجلٌ ربّاني، أحسبه من أولياءِ الله تعالى، وهو خير منّي وأتقى!

فانتظرت حتى انفضّ أكثرُ الجمعِ، واستأذنت بسؤال، فأذن لي الشهيد!

قلت له: كيف يكون هذا الرجل من أولياء الله تعالى، ويكون رجلاً ربّانياً، وهو يُعطّل حكماً شرعيّاً متفقاً عليه عند العلماء!؟

قال بهدوءٍ شديد ما معناه: من أين فهمتَ أنّه يعطّل حكماً شرعيّاً هو الجهاد؟

الجهادُ المعروف عند علماء الإسلام؛ هو جهادُ الكافرين، وهو نوعان:

جهاد دفع الصائل: وهو حين يغزونا أعداء الإسلام.

وجهاد الدعوة: وهو مصاحبٌ لدعوة المرشدين إلى الإسلام، ويسمّونه جهادَ الطلب، فهل الذي أنكره الشيخ «جودة» واحدٌ من هذين الجهادين؟

نحن والشيخ جودة متّفقون على أنّ السلطة الحاكمة غير شرعيّة، لكنْ اسمعني:

هل كان معاوية بن أبي سفيان حاكماً شرعيّاً؟

هل كان يزيد بن معاوية الفاجر الملعون حاكماً شرعياً؟

هل كان حكام بني أمية وبني العباس حكاماً شرعيين؟

كلّا لم يكن واحدٌ من هؤلاء حاكماً شرعيّاً، ومع هذا أجمع علماء المذاهب الأربعة على عدم جوازِ الخروج بالسيف على واحدٍ منهم، أمّا لماذا؟

فقد قالوا: حفاظاً على وحدة المسلمين، وحَقنا لدمائهم؛ لأنّ الحاكم الذي استولى على الحكم بالقوّة، وأراق الدماء حتى وصل إلى مبتغاه؛ فهو لن يتنازل عن السلطة، إلّا بالقوة، وهذا سبيل إراقةِ مزيدٍ من دماء المسلمين المعصومة!

والشيخ جودة يرى أبعدَ من ذلك، فهو يرى أنّ الحاكمَ الكافرَ المتغلّبَ؛ سيكون أقسى على المسلمين، وأكثرَ هدراً لدمائهم؛ لأنه لا يقيم وزناً لأحكام الله تعالى، ومثل هذا؛ لا سبيلَ إلى تخفيف ظلمه بالمواجهة المسلحة، وإنما بالإقناع الفكريّ، حتى لو قتلك، أو سجنك، أو طردك من البلاد، أو صادر مالك.

وعلماء أهل السنة كلهم يقولون بمثل قوله تقريباً، فلم التطاول عليه وحده، أم لأنك تجهلون ما قال علماء المسلمين أصلاً؟!

قلت له: إذنْ!

فقال: لم أنتهِ من كلامي، عفواً!

ستقولون: كيف تقول أنت يا مروان حديد: يجب الثورة على الحاكم الظالم، ومقاومته، ولو بالسيف، إذا لم ينزجر بالنصح والكلام؟

وأقول لكم: هذا رأيُ بعضِ علماء الإسلام، ومنهم ابن حزم الظاهريّ، فهو يقول ما معناه: إذا ضربَ السلطانُ الشرعيُّ مسلماً سوطاً ظلماً، ورفض أن يُقتصّ منه لذلك المسلم؛ وجب الخروج عليه وإقالتُه بالقوّة، إن لم يمكن بالنصح والحوار.

وهذا الذي تقتضيه أدلّه القرآن والسنّة، وهذا الذي أراه رأياً، ولا ألزم به أحداً!

ثمّ راح يسرد الآيات القرآنية العديدة، من مثل قوله تعالى:

(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) [النساء].

ومن مثل قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:

(كَلَّا وَاللهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْراً، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْراً).

أخرجه الأئمة أحمدُ وابن ماجه وأبو داود، والترمذيّ (3047) وقال: حسن غريب!

تابع الشهيد مروان كلامه رحمه الله تعالى قائلاً: فيجب علينا أن يعذر بعضنا بعضاً عند اختلاف الاجتهاد؛ لأنّه لا سبيل إلى وجود عقلين متطابقين!

ثمّ ظلّ الشهيد مروان، يذكر الشيخ جودة بالخير، ويتزاوران قليلاً قليلاً، كلما سنحت لهما الفرصة طيلةَ أيام حياته!

وآخر زيارةٍ علمتُ عنها، كانت في عام (1974م) طلب الشيخ جودةُ زيارة الشيخِ مروان، وهو مختفٍ عن الأنظار، فأذن له، فزاره الشيخُ جودة في مخبئه، ودار بينهما حديث طويلٌ، لا أعرف عنه شيئاً.

وحين زاره بعضُ إخوانه عقب خروج الشيخ جودة من عنده؛ قال له مروان: كان في زيارتي قبل قليلٍ الشيخ جودةُ سعيدٍ، جزاه الله خيراً!

فالشيخ جودة سعيد موضع سرّ الشهيد مروان، وموضع ثقته، ولولا ذلك ما أذن له بزيارته، وهو مطلوبٌ للسلطة حيّاً أو ميتاً!

والشيخ جودة سعيد ثقة أمين مأمون - مع اختلاف الاجتهاد - وإلّا لبلّغ عن منزلِ الشهيد مروانَ السلطة، لتقوم باعتقاله.

أقول: جميع الحمويين يعلمون أنني بين أقرب المقرّبين من الشهيد مروان حديد!

بل قال لي الشهيد مروان حديد مواجهة: ليس عندي في مدينة حماة عشرةُ أشخاصٍ أعتمدُ عليهم، وأنت واحدٌ من هؤلاء العشرة!

وحدثني أحد الإخوة - ولا يحبّ ذكر اسمه - قال: حدثني الشهيد مروان قال:

«الشيخ عداب أحدُ خمسة شبابٍ، أعتمد عليهم في مدينة حماة.

الشيخ عداب يعدل خمسةً من شجعان الرجال»!

رحم الله تعالى شيخينا:

المفكر العاقل الشيخ جودة سعيد.

والشهيد المؤمن الحرّ مروان حديد.

هكذا تكون المحبّة والثقة، على الرغم من اختلاف الاجتهادات.

ختاماً:

مع ما تقدّم كلّه أقول: أنا اليومَ - وقد جاوزت الرابعةَ والسبعين من عمري- أقول: إنّ التغيير بالقوّة المسلّحة في أيّ بلدٍ عربيٍّ أو مسلمٍ؛ غلطٌ قاتلٌ، وإنّ أقصى ما أفتي به اليوم؛ هو العصيان المدنيّ، مهما قَتَل الحاكم، ومهما سجن، ومهما عاقب وعذّب!

لأنّ العصيان المدنيّ لن يقود حاكماً ليقتل (500000) مسلم، أو يسجن (100000) مسلم، أو يهجّر خمسة ملايين مسلمٍ من ديارهم، والنتيجة ماذا؟

خرابُ الديارِ، وزيادة عدد الثكالى والأيامى والأيتام والجهّال.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق