الثلاثاء، 1 فبراير 2022

 مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (9):

 أثرُ العَددِ (19) على يقينِ أهل الكتاب!؟ 

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تواصل معي أحد الإخوةِ، يسألني عن قول الله تبارك وتعالى:

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً، وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ!

وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ: مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا؟

كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) [المدّثر].

قال: لم أفهم والله!

- عدّةُ أصحابِ النار، التِسعةَ عَشَرَ؛ فتنةٌ للذين كفروا، لماذا تكون لهم فتنة، وكيف؟

وكيف يستقين الذين أوتوا الكتاب، ولا يرتابون، إذا علموا أنّ عدّةَ أصحاب النار تسعة عشر؟

وكيف يزداد الذين آمنوا إيماناً، عند تلاوتهم هذه الآية الكريمة؟

هذه الآياتِ كلّها مفهومة واضحة، إلا هذه الآية الواحدة، فما في التفاسير التي اطّلعتُ عليها شيءٌ مُقنع!

أقول وبالله التوفيق:

قال الطبري في تفسيره (23: 438): وَقَوْلُهُ تعالى: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) [المدثر: 31].

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِيَسْتَيْقِنَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَقِيقَةَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِدَّةِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، إِذْ وَافَقَ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وروى الطبريُّ عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «إِنَّهَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَسْتَيْقِنَ أَهْلُ الْكِتَابِ».

ونحوه قال الزمخشري في تفسيره (4: 652) بينما قال الإمام الرازي في تفسيره (30: 709) ما نصّه:

في قوله تعالى: (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْعَدَدُ إِنَّمَا صَارَ سَبَباً لِفِتْنَةِ الْكُفَّارِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَسْتَهْزِئُونَ، يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ يَكُونُوا عِشْرِينَ، وَمَا الْمُقْتَضَى لِتَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ بِالْوُجُودِ؟

الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، كَيْفَ يَكُونُونَ وَافِينَ بِتَعْذِيبِ أَكْثَرِ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللهُ، إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ؟

ثمّ قال (30: 710):

«السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا وَجْهُ تَأْثِيرِ إِنْزَالِ هَذَا الْمُتَشَابِهِ، فِي اسْتِيقَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟

الْجَوَابُ: مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ، لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ دِرَاسَةٍ وَتَعَلُّمٍ؛ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ له صلّى الله عليه وسلّم بِسَبَبِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ.

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْدَادُونَ بِهِ إِيمَانًا.

وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَانَا مُحَرَّفَيْنِ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِيهِمَا أَنَّ عَدَدَ الزَّبَانِيَةِ؛ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُعَوِّلُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ التَّعْوِيلِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِتَطَرُّقِ التَّحْرِيفِ إِلَى هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ.

فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِذَلِكَ، وَاسْتَيْقَنُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ؛ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ...» إلخ كلامه.

أقول: هؤلاء الأئمة وغيرهم زعموا أنّ عدة أصحاب النار الـ (19) مذكورة في التوراة والإنجيل، وليس هذا صحيحاً أبداً، فليس في التوراة ذِكرٌ لكلمة جهنّم، وليس فيها ذِكرٌ لملائكةٍ موكّلين بالنار!

وليس في التوراة ذكر للعدد تسعة عشر، إلّا مرّة واحدة (وَفُقِدَ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً وَعَسَائِيلُ).

أمّا في الإنجيل؛ فقد وَرَدَ ذكر جهنّم عدّة مرّاتٍ، غير أنّ الرقم تسعة عشرَ لم يرد مطلقاً.

وقد ورد عن ملائكة العذاب، في إنجيل متّى، الإصحاح الثالثَ عشرَ، الآية (50) النصُّ التالي: (هكذا يكون انقضاء العالم، يخرج الملائكةُ، ويَفرِزون الأشرارَ من بين الأبرار، ويطرحونهم في أتون النار، هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان).

والحقّ - كما ذكر الأخُ السائلُ - ليس في كلام المفسّرين الذين قرأت تفسيراتهم شيء يريح القلبَ، ويوضح المقصود من هذه الآية الكريمة!

ثمّ رأيتُ أن أذهبَ إلى المهتمّين بالتفسير العدديّ للقرآن العظيم، من المعاصرين، إذ ليس فهم القرآن العظيم حِكراً على الأقدمين؛ فوجدت الدكتور عبدالدائم الكحيل يقول ما مختصره: «إنّ هدفَ العدد (19) في سورة المدّثر؛ أن يستيقن الذين أوتوا الكتابَ بصدق الرسالة المحمّدية، فما علاقة استيقانهم بالعدد (19)؟  

قال: المنظومة الرقميّة الموجهة إلى أهل الكتاب؛ مدارها على الرقم (19).

وسورة المدّثر من أوائل السور التي نزلت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، والرقم (19) هو أوّل رقم ينزل في القرآن الكريم.

فإذا علم أهلُ الكتاب حقيقةَ هذه المنظومةِ الرقمية؛ سيستيقنون ولا يرتابون.

أمّا الكفرون والملاحدة؛ فلا فائدة من ذكر هذه الأرقام لهم، أو لدى الأكثرين منهم (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا؛ لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ؛ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون) الأنفال].

وقد خصّ الله تبارك وتعالى السيّدة مريم، بهذه المنظومة الرقميّة الموجّهة إلى أهل الكتاب، من جهاتٍ شتّى:

الأولى: أنّ رقم سورة مريم (19) ومريم مقدسة لدى أهل الكتاب، وقصتها محبّبة إلى نفوسهم.

الثانية: إنّ قصّة مريم في داخل سورة مريم تبدأ بقوله تعالى:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16).

وتنتهي بقوله تعالى:

(ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34).

وعدد آياتِ هذه القصّة، من أوّلها إلى آخرها (19) آية تامّة.

الثالثة: أنّ عدد المرّات التي ذكرت فيها مريم بمفردها، في القرآن، من دون عيسى عليهما السلام (11) مرّة.

ومن بداية قصّة مريم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) إلى نهاية القرآن العظيم (3971) آيةً!

لو قمنا بتحليل هذا الرقم إلى جذوره؛ لوجدناه = (19 × 19 × 11).

والعدد الأوّل (19): موجّه إلى أهل الكتابِ، في سورة المدّثر.

والعدد الثاني (19): يشير إلى رقم سورة مريم في القرآن الكريم.

والعدد الثالث (11): يشير إلى عددِ المرّات التي ذكرت فيها مريم وحدها، من دون ذكر ابنها المسيح معها، وإليك هذه الآيات الكريمات:

1(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) [آل عمران].

2(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) [آل عمران].

3(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) آل عمران.

4(يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) [آل عمران].

5(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) [آل عمران].

6(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (45) [آل عمران].

7(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) [النساء].

8(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ.

فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ (171) [النساء] والمقصود كلمة مريم الثانية المفردة.

9(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) [سورة مريم].

10(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) [مريم].

11(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) [التحريم].

قال الفقير عداب: هذا والله هو التفسير، الذي يقبله العقل، وهو الذي يمكن أن يحاجَّ به المسلم أهل الكتاب النصارى.

إذ لا يَعقل العقلُ البشريُّ أن الإنسان العربيَّ في ذلك الزمان، يمكنه أن يرتّب هذا الترتيب الدقيق، فيجعل الرقم (19) سبيلاً إلى يقين أهل الكتاب بصدق القرآن، ويرتّب سورة مريم برقم (19) ويذكر اسم مريم مجرّداً (11) مرّةً، ويجعل من بداية قصة مريم إلى نهاية القرآن العظيم عدداً جذره (19 × 19 × 11).

هذا محالٌ، إن لم يكن الرحمن الرحيم؛ هو الذي رتّب هذا الترتيبَ المعجز، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق