الجمعة، 19 أبريل 2024

       مَسائل حديثية (97):

حديثُ التداوي بأبوال الإبل؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ذكرتُ مرّاتٍ عديدةً؛ أنّ أكثرَ من أتابعُه من كتّاب الشيعةِ الإماميّة؛ أخي الدكتور أحمد الكاتب الكربلائيّ، وأقرَرْت مرّاتٍ عديدةً أنني أستفيد منه، منذ العام (1997) وحتى هذا اليوم!

بيد أنني أعتبُ عليه؛ أنّه يردّ الأحاديثَ الصحيحةَ بعقلِه ومزاجِه أحياناً، بدعوى مخالفتها للقرآن الكريم!

وفي الحلقةِ التي استمعتُ إليها اليوم، حول (التداوي) بأبوال الإبل عند أهل السنّة، زعم أنّ هذا الحديثَ لا يرويه إلّا أنسُ بن مالكٍ، ولا يرويه عنه سوى راوٍ واحدٍ، وهذا الراوي - التابعيّ الواحد - لا يرويه عنه إلّا واحدٌ، وهكذا إلى عصر البخاري ومسلم!

وسبق له أن قالَ مثلَ هذا القولَ في حديثٍ آخر، أثبتّ له في منشورٍ أنّ الذين رووا الحديث عن ابن عبّاسٍ ثلاثةٌ، والذين رووا عن هؤلاء الثلاثة ستة، وأنّ الذين رووا عن هؤلاء الستّة كثيرون!

وسأجيب على كلام أخي الدكتور أحمد تباعاً.

أوّلاً: لم يتفرّد أنس بن مالك بروايةِ مضمون هذا الحديثِ عن الرسول صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم، بل رواه أبو ذرّ الغفاريّ، وعبدالله بن عباس.

- أمّا حديثُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ فأخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده (486) وأبو داود في سننه (333) والبيهقيّ في السنن الكبير (2: 167) وغيرهم، وموضع الشاهد منه، قال أبو ذَرّ: (إني اجتوَيَتُ المدينةَ، فأمَرَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم بذَوْدٍ وبغَنَمٍ، فقال لي: (اِشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِها).

قال حمّاد بن زيدٍ: «ثُمَّ سَكَتَ أَيُّوبُ عِنْدَ أَبْوَالِها، وأَنا أَشُكُّ فِي «كلمةِ» أَبْوَالِهَا».

وأمّا حديث ابن عبّاس؛ فأخرجه أحمد في مسنده (2677) والحارث بن أبي أسامةَ، كما في زوائد مسنده للهيثميّ (557) ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في الطب النبويّ (375) والطحاوي في معاني الآثار (654) والطبراني في المعجم الكبير (12: (12686) والبيهقيّ في معرفة السنن والآثار (4963) ولفظه:

(إِنَّ فِي أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا؛ شِفَاءً لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُمْ) سيأتي تفسير «الذَّرِبة».

وحديثُ أبي ذرّ حسن الإسناد، وحديث عبدالله بن عبّاس ضعيف في إسناده عبدالله بن لهيعة.

وهو حسن لغيره على مذهب الذين يصححون بالشاهد.

ثانياً: بإسنادي إلى الإمام البخاري في صحيحه (233) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ) الحديث.

مدار حديثِ الباب على أنسِ بن مالكٍ، رواه عنه:

(1) بهزُ بن حكيم، عند أحمد في مسنده (13572).

(2) وثابت بن أسلم البناني، عند الترمذي في جامعه (72، 2042).   

(3) وحميد بن أبي حميد الخزاعي «الطويل» عند مسلم في صحيحه (1671) والترمذي (72).

(4) وعبدالعزيز بن صهيب، عند مسلم (1671).

(5) وعبدالله بن زيدٍ أبو قلابةَ الجَرميّ، عند البخاري (233، 3018، 6802) ومواضع.

(6) وقتادة بن دعامة السدوسيّ، عند البخاري (1501، 4192، 5686).

(7) ويحيى بن سعيد الأنصاريّ الخزرجيّ، عند النسائي في المجتبى (306).

فهؤلاء سبعةُ رواةٍ ثقاتٍ، رووا هذا الحديثَ عن الصحابيّ أنسِ بن مالكٍ، وهذا حدّ التواتر عند الفقير عداب.

والرواة الذين رووا عن هؤلاء السبعةِ أكثر بكثيرٍ من سبعة!

فكيف يُجوّز أخي أحمد لنفسه أن يزعم بأنّ هذا الحديث واحد، رواه واحد عن واحد؟

نحن نقول مطمئنّين: رواه عن أنسٍ أكثرُ من عشرةِ رواةٍ، بيد أنني لم أستقصِ التخريج!

ورواه عن هؤلاء العشرةِ أكثرُ من خمسةَ عشر راوياً، ورواه عن هؤلاء أكثرُ من عشرين راوياً.

ولا يخفى على صغار طلبة العلم؛ أنّ الحديثَ كلما نزلت طبقة رواته؛ زاد عددهم!

ثالثاً: زعم أخي الدكتور أحمد؛ أنّ الحديثَ مخالفٌ للقرآن الكريم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) والبولُ نجسٌ خبيثٌ؛ فهو محرّم، وكيف يكون التداوي بالمحرّم.

ولا أظنّ أخي أحمد يجهل اختلاف فقهاء الأمة في نجاسة بول وروثِ مأكول اللحم، في حياته وبعد ذكاته، وظاهرٌ أنّه يميل إلى نجاستِه، ولا بأس في ذلك، فهو ما أميلُ إليه أيضاً، وهو المعتمَد في مذهب الشافعيّة.

بيد أنّ المسألة لا تتّصل هنا بنجاسة البول، إنّما تتّصل بالتداوي بهذا النجس!

وقد وردت أحاديثُ عديدةٌ في النهيِ عن التداوي بالمحرّم والنجس، وفي أسانيد المرفوع منها مقال.

بيد أنّ ما هو أهمّ من ذلك؛ أنّ التطبّب كلّه يدخلُ في باب الضرورة، والحاجةِ الماسّةِ التي تُنَزّل منزلةَ الضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها.

ومسألةُ الطبِّ مسألة اجتماعيّة، وقد تداوى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ببعض ما كان سائداً من الطبّ في عصره، ومن ذلك الحجامة والكَيّ!

وكان التداوي بألبان الإبل وأبوالها شائعاً في نقل عصره.

فقد نقل البيهقيّ في معرفة السنن والآثار (4964) عن الشافعيّ في تفسير حديثِ ابن عباس المتقدم قوله : «هَذا الحديثُ إِذَا كَانَ ثَابِتاً؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ بِهِمُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ، الَّذِي لَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تَقُولُ: «لَا شِفَاءَ لَهُمْ، إِلَّا أَلْبَانُ الْإِبِلِ، وَأَبْوَالُهَا، أَوْ شَقُّ الْبَطْنِ».

فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ شَقُّ الْبَطْنِ، وَقَطْعُ الْعُضْوِ، رَجَاءَ الْعَافِيَةِ؛ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لِغَيْرِ مَعْنَى الضَّرُورَةِ، كَمَا أُجِيزَ للضَّرُورَةِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَمَا نُصِبَ مُحَرَّمًا مَعَهَا، وحُكْمُ الضَّرُورَاتِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ».

فحَمْلُ الحديثِ الذي صحّ إسناده؛ ولم نتيقّن من أنّ معناه مخالفٌ حقيقةً لما أبيح لعلّته - العلاج - على الضرورةِ والحاجة الملحّة؛ أولى من إهدارِه وتسفيه القائلين به والذاهبين إليه!

خامساً: إذا كان مبنى التداوي كلِّه على التجربةِ، فقد كانت تجارب الأطباء العربِ، من لدن عصر الرسالةِ وإلى يومنا هذا تقول: إنّ أبوال الإبلِ الممزوجةَ بنسَبٍ محددّة مع ألبانها؛ مفيدةٌ في علاج أمراضٍ شتّى!

قال الطبيب داود الأنطاكي في تذكرته (ص: 118) مادّة (جَمل): «وبوله ينفع من السعالِ والزكام وأورام الكبدِ والطحالِ والاستسقاء واليرقان».

وفي عام (1973) أصابني مرضٌ عصبيٌّ على إثر حادثِ سير، نصحني أحدُ الأطبّاء بأنْ أستجمّ في البادية السورية، عند بعض أقاربنا من البدو، وكان لوالدي عندهم أغنام.

ولنا هناك خيمة صغيرة منصوبةٌ على الدوام؛ لكثرة ترداد عاملِ والدي وشركائه إلى هناك لتوريد منتجات الأغنام إلى سوق مدينة حماة ومدينة سلمية.

أقمت بينهم قرابة شهرٍ، فرأيت بعضَ بناتهم الصبايا يراقبون الناقةَ - وليس الجمل - متى تبوّلت؛ أسرعن ووضعن رؤوسهنّ بين رجلي الناقةِ، حتى تنتهي من بولها.

عندما شاهدتُ ذلك؛ تقزّزت وقرفت قرفاً شديداً، حتى إنّ مرضي ازداد حقّاً!

فسألت قريبنا الذي أنا نازل في خيمتي بقرب مضاربه عن ذلك؟

فقال لي: «حنّا يا البدو نعرف أنّ أبوال الأباعر والبقر والغنم والماعز والفرس الأصيل طاهرة، ليست بنجسة، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي بلبن الناقة وبولها خاصّة!

قلت له: وبول البعير؟

قال: لا البعير ما يحلب، اللي تحلب هي الناقة!

وحنّا شنو نسوّي؟ حنّا ناخذ حليب الناقة الوالدة، وبولَ الناقة الطامحة، ناخذ كاس من بول الطامحة، وعشرة كؤوس من حليب الناقة الوالدة ونشربه، وفيه الشفاء الكثير من أمراض لا تحصى» والناقة الطامحة: الراغبة بالفحل، ولم يحصل هذا بعد!

وأصرّوا إصراراً شديداً علي لأشربَ كما يشربون، فلم أوافقهم قطعا، بل غدوتُ لا آمنهم أبداً حتى على الحليب الذي يسقونني إياه، حتى أحلبه بنفسي من الناقة وأشربه.

وصرتُ أعجنُ وأخبز خبزي بنفسي، تحت ذريعةِ أنني أمهر من النساء البدويّات بالخبز!

والحقيقة أنني ما عدت أثق بنظافة شيءٍ عندهم!

فهذه أمم من العرب البدو، يتداوون بألبان الإبل وأبوالها، ولم يمرض منهم أحدٌ بتلك الميكروبات والجراثيم الخبيثة التي أكّد عليها الدكتور أحمد.

سادساً: على الإنترنيت أبحاثٌ كثيرةٌ جدّاً، تثبتُ أنّ لأبوال الإبلِ فوائدَ علاجيّة كثيرة جدّاً، ومن بينها السرطان ومرض الكبد الوبائيّ ومرض القولون.

وهناك مقاطع صوتية لأطباء كثيرين تؤكّد على هذه المعاني، وهناك أبحاث طبيّة بضدّ ذلك أيضاً.

فإذا ثبت لنا هذا - وهو ثابتٌ وكثير على الانترنيت - فيتعيّن علينا تَرجيحُ الأبحاثِ التي يؤيّدها هذا الحديث الصحيح؛ لأنّه - والحالة هذه - لا يبقى طبّاً بدويّاً متخلّفاً كان في حقبة من الزمان، بل يرتقي إلى (إعجاز طبيّ) ثبتت فوائده بعد أكثرَ من ألف وثلاث مائة سنةٍ على توجيهِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى العلاج به.

هذا من الناحية العلميّة.

أمّا من الناحيةِ الذوقيّة؛ فالحديثُ إرشادٌ لأناسٍ مرضى، وليس أمراً واجباً، ولا هو سنّةً قام بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

فأنا أفتي بجواز التداوي به، ولكنني لا أتداوى به حتى لو تعيّن دواءً لي، لا ردّاً لسنّة نبويّة - على افتراض أنه سنة - إنما لأنّ تعاطيه مباح، يستوي حكم فعله وتركه.

وإنني أنصح إخواني جميعاً؛ أنْ لا يحكّموا أمزجتهم بتوجيه الأحكام الشرعية، وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، فذلك حرام لا يجوز!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق