الاثنين، 25 مارس 2024

           مَسائلُ حديثيّةٌ  (71):

قِيامُ الليلِ مع الإمامِ حتى ينصرف؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد الإخوةِ الأفاضل، حديثَ أبي ذرّ مرفوعاً: (مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَة).

يسأل عن مدى صحّته؟

وعن كيفية التوفيق بينه وبين حديثِ عائشةَ مرفوعاً في قيام رمضان أنّ الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ، إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى يحيى بن يحيى الليثيّ - راوية موطّأ مالك (255) - قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ كَثُرُوا مِنَ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ - أَوِ الرَّابِعَةَ - فَكَثُرُوا، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَلَمَّا أَصْبَحَ؛ قَالَ: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ؛ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.

مدار حديث عائشةَ في الباب على محمد بن مسلم ابن شهاب الزهريّ، رواه عنه:

عبدالملك ابن جُريجٍ، عند عبدالرزاق في مصنفه (7747).

وعُقيلُ بن خالدٍ الأيليُّ عند البخاريّ (924)

ومالك بن أنسٍ في الموطّأ (255) وعند البخاري (1129) ومسلم (761).

ومَعقل بن عبيدالله العبسيُّ، عند الطبرانيّ في المعجم الأوسط (1043).

ويُونس بن يَزيد الأيلي، عند مسلم (761) وإسحاق بن راهويه في مسنده (827) وغيرهم.

فإسنادُ الحديث عن عائشةَ فرد مطلقٌ صحيحٌ غريبٌ، لم يروه بلفظه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم سواها.

ولم يروه عن عائشةَ سوى عروةَ.

ولم يروه عن عروة سوى ابن شهاب الزهريّ، وهو من مشاهير حديثه عن عروة.

ويُعدّ هذا الإسنادُ الغريب؛ من أصحّ الأسانيد عند المحدّثين؛ لأنّ عائشة رضي الله عنها عالمة نساء الصحابة، ولأنّ عروةَ والزهريّ حافظان.

وقد روى البخاريُّ بهذا الإسنادِ (198) رواية مكرّرة، بينما روى مسلم به (118) حديثاً، المكرّر منها قليل.

وبإسنادي إلى الإمام أبي داود الطيالسيِّ، في مسنده (468) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بنُ خالدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «صُمْنَا رَمَضَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئاً مِنَ الشَّهْرِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ «السَّابِعَةُ مِمَّا يَبْقَى» صَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَمْ يُصَلِّ بِنا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ «الْخَامِسَةُ مِمَّا يَبْقَى» صَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ نَفَّلْتَنا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا؟ فَقَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا، إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَتْ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ).

فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لَمْ يُصَلِّ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ؛ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ، فَصَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، ثُمَّ يَا ابْنَ أَخِي لَمْ يُصَلِّ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ».

مدار حديث أبي ذرّ رضي الله عنه على داودَ بن أبي هندٍ، رواه عنه:

بشر بن المفضَّل الرقاشيُّ، عند النسائي في المجتبى (1364).

وعليّ بن عاصم، عند أحمد في المسند (21419)

ومحمّد بن الفضيلِ الضبيُّ، عند الترمذي في جامعه (806) والنسائي في المجتبى (1605).

ومسلمةُ بن علقمةَ المازنيُّ، عند ابن ماجه في السنن (1327).

ووهيبُ بن خالدٍ، عند الطيالسيّ (468).

ويَزيدُ بن زُريعٍ، عند الدارمي في سننه (1818) وأبي داود في سننه (1375) وغيرهم.

فالحديث من مشاهير حديثِ داودَ بن أبي هندٍ العابد الزاهد.

بيد أنّ الحديث فردٌ مطلقٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا اللفظ، سوى أبي ذرٍّ.

ولم يروه عن أبي ذرٍّ، سوى جُبيرِ بن نُفيرٍ.

ولم يروه عن جبير بن نُفيرٍ، سوى الوليد بن عبدالرحمن.

تفرّد به داود بن أبي هندٍ القُشيريُّ البصريّ.

ولم يخرّج البخاريُّ ومسلمٌ بهذا الإسنادِ أيَّ حديث!

إنما أخرج الإمام أحمد والدارميّ بهذا الإسنادِ هذا الحديثَ الواحد فحسب!

وداود بن أبي هند ترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (8: 461 - 466) ونقل أقوال العلماء في توثيقه والثناء عليه.

وترجمه الذهبيّ في ميزان الاعتدال (2533) لا ليجرَحه، إنّما ليقول: «حجّةٌ، لا أدري لمَ لمْ يخرّجْ له البخاريُّ».

وترجمه ابن حجر في التقريب (1817) وقال: «ثقة متقن، كان يهِم بِأَخَرَةٍ».

أمّا الوليد بن عبدالرحمن الجُرَشيُّ، وإن قال فيه ابن حبّان في المشاهير (1462): «من ثقات أهل الشام» وابن حجر في التقريب (7436): «ثقة» إلّا أنّ مسلماً لم يخرّج له سوى حديثٍ واحد (805) في فضل سورة البقرةِ وآل عمران.

أمّا البخاريُّ؛ فلم يخرّج له في صحيحه شيئاً.

وجُبيرُ بن  نُفير، ترجمه ابن حجر في التقريب (904) وقال: «ثقة جليل مخضرم».

وأخرج له مسلم في صحيحه (16) حديثاً، بينما أعرض عنه البخاري إعراضاً تامّاً.

خلاصة الحكم على إسناد الحديث: هو إسناد فردٌ غريب مطلق حسنٌ، وحديثُ الباب في الترغيب بقيام الليل، وليس في متنه ما يُستنكر.

أمّا وجه الجمع بين الحديثين؛ فيترجّح لديّ أنهما حادثتان منفصلتان:

إحداهما: شهدتها أمّنا عائشة رضي الله عنها فحدّثت بما شاهدت.

والثانية: شهدنا سيّدنا أبو ذرٍّ رضي الله عنه، فحدّث بما شاهد.

وليس بين الحديثين تضادٌّ يوجِبُ ترجيحَ أحدهما على الآخر.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَتْ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ) هذا أصلٌ في استحبابِ المكوثِ في المسجدِ حتى ينتهي الإمامُ من صلاته كلّها،  وهو أصل في استحباب قيامِ ليل رمضانَ جماعةً.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خَشيتُ أنْ يفرَضَ عليكم، فلا تطيقوه) حكمٌ معلّل بسببه، وقد زال السبب بوفاة الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبقي الحكمُ على أصالتِه باستحباب صلاة الليل جماعةً، وندبِ الناسِ إلى ما يطيقون من قيامِ شهر رمضان.

واللهُ تَعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق