الجمعة، 9 فبراير 2024

  مَسائِلُ عَقَديّةٌ (12):

كَراماتُ المؤمنين بين النَفْيِ والإثباتِ (2) !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشورِ السابقِ تحدّثتُ عن عددٍ يسيرٍ من الكراماتِ التي شهدتُها بنفسي، مما يتعلّق بسيّدي وجدّي الإمامِ موسى الكاظم بن جعفر الصادق الحسينيّ عليهما السلام (ت: 181 هـ).

وأتحدّث اليومَ عن عددٍ يسير مماثلٍ، من الكراماتِ التي شهدتها بنفسي، مما يتعلق بسيّدي وجدّي الإمام عبدالقادر بن أبي صالح الجيلانيّ الحسنيّ (ت: 561 هـ) رضي الله عنه.

ترجمه الإمام الذهبيُّ في النبلاء (20: 439) فقال: «الشَّيْخُ الإِمَامُ العَالِمُ، الزَّاهِدُ العَارِفُ القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَلَمُ الأَوْلِيَاءِ، مُحْيِي الدِّينِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُالقَادِرِ بنُ أَبِي صَالِحٍ - واسمُه عَبْدِ اللهِ - بنِ جَنكِي دوستْ الجِيْلِيُّ الحَنْبَلِيُّ، شَيْخُ بَغْدَادَ».

ونقل عن الإمام موفّق الدين بنِ قدامةَ المقدسيّ في موضع آخر من الكتاب (20: 442) قوله: «لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ يُحْكَى عَنْهُ مِنَ الكَرَامَاتِ؛ أَكْثَرَ مِمَّا يُحَكَى عَنْهُ، وَلاَ رَأَيْتُ أَحَداً يُعَظِّمُهُ النَّاسُ لِلدِّينِ أَكْثَرَ مِنْهُ».

وقال الذهبيّ أيضاً (20: 443): «قَالَ شَيْخُنَا الحَافِظُ أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ «اليونينيّ الحنبليُّ»: سَمِعْتُ الشَّيْخَ عَبْدَالعَزِيْزِ بنَ عَبْدِالسَّلاَمِ الفَقِيْهَ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ:

«مَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا كَرَامَاتُ أَحَدٍ بِالتَّوَاتُرِ، إِلاَّ الشَّيْخُ عَبْدُالقَادِرِ».

فَقِيْلَ لَهُ: هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ: فَكَيْفَ هَذَا؟

فَقَالَ: لاَزِمُ المَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ!

قالَ الذهبيُّ: يُشِيْرُ إِلَى إِثبَاتِهِ صِفَةَ العُلُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ مَعْلُوْمٌ، يَمشُوْنَ خَلْفَ مَا ثَبَتَ عَنْ إِمَامِهِم «أحمدَ ابنِ حنبلٍ» رَحِمَهُ اللهُ، إِلاَّ مَنْ شذَّ مِنْهُم، وَتَوَسَّعَ فِي العِبَارَةِ».

وقال الذهبيُّ أيضاً (20: 446): «قالَ الشيخُ عبدالقادر: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ هَمَذَانَ، يُقَالَ لَهُ: يُوْسُفُ بنُ أيّوبَ الهَمَذَانِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ القُطْبُ، نَزَلَ فِي رِباطٍ، فَمشيتُ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَرَهُ، وَقِيْلَ لِي: هُوَ فِي السِّرْدَابِ [السردابُ: غرفةٌ تحت الأرض، يتّخذها الصوفيّة للخلوةِ والعبادة].

فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي؛ قَامَ وَأَجلسنِي، وَذَكَرَ لِي جَمِيْعَ أَحْوَالِي، وَحلَّ لِي المُشْكِلَ عَلَيَّ.

 ثُمَّ قَالَ لِي: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ!

فَقُلْتُ: يَا سيِّدِي، أَنَا رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ قُحٌّ أَخرسُ، أَتكلَّمُ عَلَى فُصَحَاءِ بَغْدَادَ؟!

فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَفِظتَ الفِقْهَ وَأُصُوْلَهُ وَالخلاَفَ، وَالنَّحْوَ وَاللُّغَةَ، وَتَفسيرَ القُرْآنِ، لاَ يَصلُحُ لَكَ أَنْ تَتكلَّمَ؟

 اصعَدْ عَلَى الكُرْسِيِّ وَتَكلَّمْ، فَإِنِّي أَرَى فِيكَ عِذْقاً، سيصِيْرُ نَخْلَةً».

توفي رضي الله عنه عام (561 هـ) انتهى المقصودُ من كلام الذهبيِّ.

كان أهلي يقولون: جدّنا كنعان عندما هاجرَ من الموصلِ إلى حماةَ؛ تزوّج اثنتين من ذريّة الشيخ عبدالقادر الجيلانيّ، إحداهما من ذريّة الشيخ عبدالرزّاق، والأخرى من ذريّة الشيخ عبدالعزيز، رضي الله عنهم.

ثمّ قرأت منشوراً لأحد الأشراف المُسلّميّة المصريين قال فيه: إنّ جدّنا أبا سليم العراقي رضي الله عنه تزوّج أختَ الشيخ عبدالقادر، أو بنتَه - نسيَ عداب - وذكر صاحبُ المنشور أكثرَ من مصاهرةٍ قديمةٍ بيننا وبين السادة الجيلانيّة.

وفي زماننا هذا؛ أولادُ شقيقتي من آل الزعبيّ الجيلانيّة في مدينة حماة، وكنّتي زوجةُ ولدي الدكتور محمّد بن عداب جيلانيّة، وزوجة ابن أختي جيلانيّة أيضاً.

وهذا شرفٌ كبيرٌ، نعتزّ به قديماً وحديثاً، والحمدُ لله على فضله وإحسانِه!

كانت علاقتي في بغدادَ حميمةً للغايةِ مع ثلاثةٍ من أولياء بغداد، هم الإمام أبو حنيفةَ (ت: 150 هـ) والإمام موسى الكاظم (ت: 181 هـ) والإمام عبدالقادر الجيلانيّ (ت: 561 هـ) رضي الله عنهم.

وكنت أزورُهم ثلاثتَهم في يومٍ واحدٍ، وكان شيوخي الصوفيّةُ ينهونَني عن ذلك، ويقولون: يُكتفى بزيارة وليّ واحدٍ في اليوم الواحد، حتى لا تتداخَل أنوارُ وأحوالُ وأسرارُ الأولياء بعضها مع بعض، فتَتعَب!

وكانت فلسفتي أنّني أستحيي أن أقدّم واحداً منهم، فأزورَه دون الآخرَين!

وإذْ إنّ صاحب محاضرة الأمسِ، نفى جميعَ الكراماتِ عن سيّدنا موسى الكاظم وسيّدنا عبدالقادر الجيلاني، وقال: هي روايات، مَن يقول: إنها صحيحة، مَن رآها، مَن شاهدها؟

فسأختار أيسَر ثلاثِ كراماتٍ، شهدتها بنفسي، والله شاهدي وناظري ومعيني!

- الكرامةُ الأولى: كنّا جمهرةً كبيرةً في تِكيةِ «زاويةِ» شيخنا «حاتم بن كاظم الدليميّ» الرفاعيّ، حفظه الله تعالى، في حارةِ الوشّاشِ ببغدادِ، وكان بيننا عددٌ يسيرٌ من المنكرين للتصوّف، والمتشكّكين ببعض مظاهره!

فأحسست بضيقٍ شديدٍ، كدتُ من بعده أنْ أوبّخ بعضَ هؤلاءِ الذين أحسست بوجودهم!

فتعجّل شيخُنا حاتم، وقال: أنا ذاهب إلى زيارةِ جدّنا «أبو صالح» عبدالقادر، مَن يصحبني؟

قامت جماعةٌ ممّن كان موجوداً في التِكيةِ، وانطلقنا إلى مشهدَ الشيخ عبدالقادر الجيلانيّ، ومعنا اثنانِ أو ثلاثةٌ من أولئك المنكرين، وكأنهم أرادوا أن يرصدوا مخالفاتٍ أكثرَ لما يعرفون!

دخلنا إلى حيث مرقد سيّدي عبدالقادر، وأدّينا مراسمَ الزيارةِ بأدبٍ جمّ!

في أواخر الزيارةِ فاحَتْ رائحةٌ زاكيةٌ، ليست هي رائحة الخشبِ الذي يطيّبه خُدّامُ المشهدِ كلَّ يومٍ بيقين!

قال شيخنا حاتم: هل شممتم شيئاً؟ لم أردّ أنا، وقد كانت دموعي تذرف من سعادتي!

فقال بعضُ الحاضرين: نعم ما شاء الله، روائح من الجنّة!

التفتَ الشيخ حاتم إلى المنكرين، وقال لكلّ واحدٍ منهم: هل شممت شيئاً؟

أجابوا جميعهم بنعم، وجميعهم أقرَّ بأنّ هذه الرائحة ليست رائحة الخشبِ التي شممناها أوّل دخولنا إلى غرفة المرقد!

استغربتُ أنا من كلامِ الشيخ حاتم، ولم أفهم مقصده!

انطلقنا راجعين إلى التكية، وكان الشيخ حاتم يقيم مجلسَ ذكر جماعيّ في مثل تلك الليلة!

في أثناء مجلس الذكر «حضرة الذكر» فاحت روائح عطريّةٌ، ونزلت سكينةٌ مؤنسةٌ غامرةٌ جدّاً.

فصرخ أحدُ الدراويش: حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحضر الإمام الرفاعي وفلانٌ وفلانٌ من الأولياء!

عَقبَ انتهائنا من مجلس الذكرِ؛ جلسنا نتملّى بآثار الذكر الحميدةِ على أرواحنا وقلوبنا.

فسألني أحدُ هؤلاء المنكرين قال: يا شيخ عداب، أنت عالمٌ، كيف تَسكتُ على مثل هذه البدَع، كيف يحضر رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجلسنا هذا، وقد توفي منذ ألفٍ وأربع مئة عام؟

قلتُ له: أنا لم أقلْ هذا، وليس لديّ جوابٌ، لم يبُلغْ مقامي أن أشاهدَ رسولَ الله عندما تحضرُ روحانيّته الشريفةُ، أو عندما تُغادِرْ، أترك الجواب إلى شيخنا حاتم!

أطرق الشيخ حاتمٌ منزعجاً جدّاً من هؤلاء؛ كأنّهم يريدون أن يفسدوا علينا فرحتنا وسعادتنا وأُنسنا بذكر الله تبارك وتعالى، ثمّ التفتَ إلى السائلِ، فقال له: أنت تقول: إنّ روحانيّةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تحضر مجالس الذكر؟ قال: نعم بالتأكيد!

قال له الشيخ حاتم: لن أطيلَ معك الجدال، هل تتذكّر الرائحةَ التي شممناها عند سيدنا عبدالقادر؟ قال: نعم بالتأكيد!

قال له الشيخ: هل هي رائحةُ الخشبِ، أو غيرُها؟ قال: بل غيرها!

قال: كيف ظهرت هذه الرائحة من متوفى منذ ألف سنةٍ؟ قال: لا أدري!

أعاد الشيخ عليه الكلام: أنت متأكّد بأنّ الرائحة التي فاحت علينا ليست رائحة الخشب، ولو فاحت مرّةً ثانيةً تميّزها؟ قال: نعم!

قال شيخنا: اقرؤوا الفاتحة إلى روح شيخنا عبدالقادر أبو صالح، ثم لا تتكلّموا بشيءٍ بعد ذلك أبداً!

قرأنا الفاتحةَ، وتابعتُ أنا قراءةَ آيةِ الكرسي وسوَرَ الصمد والمعوّذتينِ، فبدأت الروائحُ الزاكيةُ تفوح، حتى غمرت المجلسَ بأشدَّ مما كانت عند مرقدِ الشيخ عبدالقادر.

سأل الشيخ حاتم المنكرينِ: هل تشمّون رائحةً زاكيةً؟ قالوا: نعم نشمّ بوضوح!

قال: أنتم متأكّدون غير متوهّمين؟ قالوا: بالتأكيد لسنا متوهّمين.

قال: هل حضرت روحانيّة الشيخ عبدالقادر أو لم تحضر؟ قالا: لا ندري!

قال لهما: عليكما تفسيرُ هذه الظاهرةِ إذنْ، كيف يمكن أن تفوح هذه الرائحةُ الزاكيةُ التي ما تزال حتى الآن، من دون أن يحضر صاحبُها.

هل سمعتموني قرأتُ سوى القرآن الكريم؟ لا!

هل تحركتُ من مكاني؟ لا!

هل نثرَ أحدٌ من الحاضرين عطوراً في التكية؟ لا!

هل نثر الجنُّ هذه الروائحَ مثلاً؟ لا ندري!

إذنْ ما تفسير الذي حدثَ هذا؟ قالا: لا ندري!

قال الشيخ: دَرَيتُم أم لم تدْروا، نحن نقول: روحانيةُ سيدنا وشيخنا أبو صالح حضرت معنا، ومثل ذلك تحضرُ روحانيّةُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وغيرِه من الأنبياء والأولياء والصالحين، وتفسيرُ ذلك عندنا أنّ أرواحَ الصالحين سيّاحةٌ ليست مقيمةً في حدود المرقد، أو كلاماً كهذا.

أعاد أحدهم السؤال إليّ: كيف يحصل هذا، أنا لا أفهم؟!

قلت له: ما دمتَ شاهدتُ بعينيك وسمعت بأذنيك وشممت بأنفك؛ فأنت بين خيارَين:

بين أن تُسلّم بأنّ هذه كرامةٌ لجدّنا عبدالقادر، أو لمجلس ذكر الله تعالى هذا.

وبين أن تأتينا بتفسيرٍ مقنعٍ لنا، فليس لديَّ تفسيرٌ آخر.

وأنصحُك بقراءةِ كتاب «الروح» للشيخ أبي بكرِ ابن قيّم الجوزيّة، مرّتين أو ثلاثَ مرّات!

- الكرامةُ الثانيةُ: زُرتُ سيّدي عبدالقادر وحدي، ثمّ صعدت فزرت سيدي وشيخي عبدالكريم بيارة، ثم زرت سيدي وشيخي محمود النعيميّ، رضي الله عنهم.

عندما أُذّن لصلاة العصر؛ نزلتُ من لدن غرفة سيدي الشيخ عبدالكريم، وأنا أقول في نفسي: مَشايخُنا يقولون: إذا كان الوليُّ راضياً عنك، فيرفع شأنَك في دائرةِ سلطانه، وأنا منذ سنواتٍ أزور جدّي عبدالقادر، وما زرتُه مرّةً إلّا أكرمني الله تعالى بشيءٍ خاصٍّ!

لكنْ لم يحدُثْ أبداً أنْ قدّموني لأصلّي بهم إحدى الصلواتِ، على كثرةِ ما أصلّي في هذا المسجد المُبارك؟

قرأتُ الفاتحةَ إلى روح سيّدي عبدالقادر، وردّدت في سرّي مؤنّباً نفسي على هذا الخاطر:

ما لذّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا

هم السلاطين والسادات والأمرا

فاصْحَبْهمُ وتأدّبْ في مجالسهم

وخلِّ نفسَكَ مهما قدّموك ورا.

دَخلتُ المسجدَ من بابِه الرئيسيّ الكبير، وما أنْ وضعتُ رجلي اليمنى في حرمِ المسجد، حتى صاحَ أحدُ الحاضرين - ولا أدري مَن هو - صلوات على محمّدٍ وآل محمّد!

وضجّ حرم المسجدِ بالصلاة على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

التفتَ إمامُ المسجد فرآني، وقد رآني مرّاتٍ لا تحصى قبلَ ذلك، فهرع هو وعددٌ من المشايخ الموجودين إليّ، وقبّل إمام الحضرةِ يدي، وصحِبني إلى الصفّ الأوّل وراءَ المحراب، ووقف بجانبي، فصلّيت سنّة صلاةِ العصرِ القبليّةَ، ثمّ همس في أذني: سيّدي صلّوا بنا ونريد كلمةً بعد الصلاة!

صلّيت بهم فريضةَ العصر، وتلونا التسبيحات، ثمّ ألقيت كلمةً وجيزةً، ظهر عليّ تأثرّي الشديد، وحمدتُ لسيّدي عبدالقادر صاحبِ المكان، وأثنيت على إمام الحضرة القادريّة فقال: بل نحن الذين نعتذر يا سيّدي، كيف غفلنا عن جنابكم  طيلةَ هذه المدّة، لكنها أوامرُ سيّدنا عبدالقادر.

ذهبنا بعد ذلك إلى سيّدي عبدالقادر، وسلّمتُ عليه، واعتذرتُ منه، واستغفرتُ اللهَ تعالى من هذه الخاطرةِ، وتبتُ إلى الله تعالى، ثم رفضتُ أن أتقدّم للصلاةِ في مسجد سيدي عبدالقادرِ، إلى أن غادرتُ العراق!

- الكرامةُ الثالثةُ: كانت مناقشةُ أطروحتي للدكتوراه بتاريخ (3/ 12/ 1995م) وكان جرى حولي وحولها لغطٌ كثير.

قبل المناقشةِ بيومٍ؛ زرتُ سيّدي عبدالقادر، فكانت الأحوالُ عنده مؤصدةً، وزرت سيّدي عبدالكريم بيارة، فلم يتبسّم بوجهي أبداً.

جلست صامتاً خمس دقائق تقريباً، فضحك الشيخُ وتكلّم كلاماً لم أفهمه أبداً لانخفاض صوته ولسرعته أيضاً، لكنني فهمت جملةً واحدةً هي: «يُكرمونهم ويدلّلونهم ويحذّرونهم، فلا يتّعظون».

استأذنتُ وزرت سيّدي محمود النعيميّ، فقال لي: ماذا قال لك جدّك «أبو حمرا»؟

سكتُّ ولم أُجِبْ!

طردني سيّدي محمود بلطفٍ قائلاً: لا تتأخرْ، لديك عملٌ شاقّ غداً، خلّ ثقتك بالله تعالى قويّة، وخلّ ثقتك بنفسك قويّة، الأمور بالمقادير!

في اليوم الثاني في حدود التاسعة صباحاً؛ كانت القيامةُ قائمةً في جامعة بغداد!

قيل: إنّ عدد الذين حضروا مناقشتي أكثرَ من ستّة آلاف إنسان، وحضرها (500) من رجال الأمن!

واستمرّت المناقشة من الساعة العاشرة صباحاً حتى أذان العشاء، ورفضت اللجنة الناصبيّة الجاهلةُ الأطروحةَ!

كانت تلك الليلةُ عصيبةً جدّاً، لكنني كنت هادئاً جدّاً، وكأنّ زوجتي الصالحة «أمّ سعيد» أحسّتْ قلبيّا بما حدثَ، فلم تصنع أيَّ ضيافةٍ: لا طعام ولا شراب ولا قهوة ولا شاي!

دَخل معي بيتي أحدُ الزملاءِ من عشيرة الجُبوريّ، حفظه المولى، لست أدري لم صحبني ودخل معي البيت، فكنتُ منه حذراً، ولم أتكلّم بشيءٍ!

قالت لي: أمّ سعيد: تحقّق ما أرسله أخي محمّد في رسالته، الجماعةُ اتّفقوا على رفض الرسالة منذ أربعة أشهر من أجل مصلحة الإسلام والدعوة، أسأل الله تعالى أنْ لا يوفقهم، وأن ينتقم منهم.

صليتُ الفجرَ في جامع الحيّ كالمعتاد، ورأيتُ أستاذي الدكتور «محسن عبدالحميد» معرضاً، فأعرضتُ عنه أيضاً.

عند السجدةِ الأولى؛ نزلت على عيني غشاوةٌ كثيفةٌ، وظلّت عيناي تدمعان، حتى خرجتُ من المسجدِ!

كنتُ أمشي إلى بيتي، ولا أكاد أبصرُ طريقي، حتى ظننت أنّني فقدتُ بصري!

وقفتُ جانباً، ودعوتُ الله تعالى أن لا أفقد بصري، وتابعتُ سيري!

ومِن يومها اضطررت إلى صُنعِ نظّارةٍ وإلى هذا اليوم.

في اليومِ التالي، أو الذي يليه - نسيتُ - اخترتُ وقتاً غيرَ وقتِ زيارةِ الشيخ عبدالقادر، وطلبت من الخادم أن يفتحَ لي الحجرةَ، ففتح لي وأغلقها عليّ.

عندما كنتُ أدخلُ إلى مرقد سيّدي عبدالقادر، أو غيره من أولياء الله تعالى؛ كنت أجعله خلفَ ظهري وأصلي تحيةَ المسجد.

عندما شرعتُ في الصلاة؛ أحسست بعتابٍ من جناب الشيخ عبدالقادر، وتبادر إلى ذهني أنّه يقول لي: الذي يعبدُ بوذا مثلاً، يعبده وهو في أمريكا، أو في أوربّا، فمسألة العبادةِ مسألة عقيدةٍ ونيّة، وليست في حدود أمام القبر أو خلفه!

فغيّرتُ مكاني إلى جهة رأسه الشريف، وغدوتُ محاذياً له، وغدوت أصلي هكذا على طول الخطّ بعد ذلك!

عقب انتهاء الصلاةِ؛ وقفتُ عند رأسه الشريف، فسلّمت عليه، ثم جلست في مواجهته، وتلوتُ من القرآن الكريم ما قدّره الله لي، ثمّ أغمضت عينيَّ، وعقدتُ رابطةً روحيّةً مع سيّدي عبدالقادر.

لست أدري - والذي لا إله إلّا هو - غفوتُ أم أنا يقظانُ؟

ظهر سيّدي عبدالقادر الجيلانيّ أمامَ عيني قلبي واضحاً وضوح الشمس، وما رأيتُه أوضحَ من هذه المرّة قبلَها ولا بَعدَها.

كان جالساً على طاولةٍ خشبيّة ذاتِ أربعِ أرجلٍ، مفرّغة من أسفل، وهي أنيقةٌ جدّاً ونظيفة جدّاً.

كان الشيخ يلبس ثوباً جميلاً - لا أتذكّر لونه - ويضع على رأسِه غطاءَ رأسٍ أبيضَ ليس على هيئة عِمامةٍ، إنما هو على هيئة غطاء الرأس في الحجاز الشريف.

كان جميلاً رقيقَ الملامح، يشبه أخوالنا الجيلانية من ذريّة سيّدي عبدالسلام، أكثرَ من أخوالنا الزعبيّة.

كانت لحيتُه بيضاءَ جميلةً، وليست بالطويلة.

وكان دلّى رجليه إلى أسفل الطاولةِ، وكانتا قريبتين كثيراً من وجهي، لكنْ لم يخطر لي في أثناء هذه المشاهدةِ أنْ أقبّلهما.

عاتبتُه بأدبٍ وحياءٍ وقلت له:

لمَ صنعتُم بي هذا يا سيّدي؟

هل أنا سيّءٌ إلى هذا الحدِّ، حتى سلّطتم عليَّ هؤلاء السفهاء الجهّال؟

هل أنا مذنبٍ بقدر هذه الفضيحةِ المدوّية، التي ملأت العراق؟

لستُ والله كذلك يا سيّدي!

صحيحٌ أنّ سيّدي وجدّي عزّ الدين أبو حمرا، أمرني أنْ لا أتحدّث بما أشاهدُ وأرى، لكنّ عقوبتكم هذه قاتلة مدمّرة، ورحتُ أبكي!

ألقى عليّ محاضرةً طويلةً جدّاً، وكان بين الجملةِ والأخرى يردّد: يا ولدي كذا وكذا، يا ابني كذا وكذا، ولم أحفظ ممّا قاله سوى الجملتين الأخيرتين:

يا ولدي: (وما تشاؤون إلّا أن يشاءَ الله) (لكلّ أجلٍ كتاب) وكأنّه قال لي: (لا تحزنْ ستحصلُ على الدكتوراه بتقدير امتياز، أو قال: ممتاز).

بعد هذا الكلام قال لي: انتهت الزيارة يا ولدي، أو قال: الله معك يا ولدي!

فتحت عينيَّ، وقمتُ، فوجدتُ خادم الحجرة يَفتح الباب من دون أن أناديه!

تبسّم في وجهي، وأراد أن يقبّل يدي، فمنعته، فقال: هنيئاً لك عنايةَ سيّدي عبدالقادر.

ريثما وصلتُ إلى موضع حذائي؛ قلتُ في نفسي: سأزور سيّدي محمود النعيميّ، وأخبره بما حصلَ معي الآن، إذ هو مرشدي الأعلى في العراق، كما أُمرتُ في رؤيا سابقة!

كانت غرفته مقابلةً للباب الشرقيّ الأوّل من جامع سيدي عبدالقادر، فما أنْ انتعلتُ حذائيّ والتفتّ إلى أعلى حيث غرفتُه، حتى وجدتُه يُشيرُ إليّ بيده اليمنى ويضحك كثيراً.

صعدتُ إليه، وكان من عادته أن يعانقني، فأشار إليّ بيده وقال: وقّف وقّف، قبل السلام أقول لك: ماذا قال لك جدّك عبدالقادر؟

(وما تشاؤون إلّا أن يشاء الله) (لكلّ أجلٍ كتاب) ستأخذ درجة الدكتوراه بامتياز!

فلا تحزن، وكلاماً آخر.

جلسنا بعد ذلك، وأفهمني أنّ للدلالِ حدوداً، وعليَّ أنْ لا أحدّثْ بأيّ شيءٍ مما يفتح الله به عليّ، أو يطلعني عليه من ملكوته مستقبلاً!

لكنْ هيهاتَ هيهات، سبق السيف العذَل!

فقد كان جدي عز الدين أبو حمرا لا يفارقني في ليلٍ ولا نهارٍ، ولا والله ما رأيتُه منذ ذلك التاريخ (12/ 1995) حتى هذا اليوم!

نعم أحسُّ أحياناً أنّه قريبٌ مني، لكنني حُرمتُ رؤيته الدائمةَ وتسديدَه المباشر!

هذه ثلاثُ كراماتٍ لسيّدي الشيخ عبدالقادر الجيلاني، واللهُ هو الشاهدُ الرقيب الحسيب!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق