الأحد، 7 مايو 2023

 اجتماعيات (54)

حدّثنا عن الذوقيّات !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

عددٌ من الإخوة والأخوات؛ طلبوا مني أنْ أحدّثهم عن الذوقيّات في المأكل والمشرب والملبس والتخاطب الاجتماعيّ ...إلخ!

أقول وبالله التوفيق:

يجب عليَّ أنْ أقرّر ابتداءً أنني لست مثالَ الذوقيّاتِ، في خطابي وحواري، أو في مأكلي ومشربي، أو في ملبسي وانتعالي، أو في ترتيب بيتي.

وأكثرُ الذوقيّاتِ التي أتمسّك بها؛ نوعان: أحدهما فطريٌّ فيما يبدو لي، والثاني اكتسبته من والدتي، ومن شيخي الشهيد مروان حديد، رحمة الله عليهما، وبعضُ هذا من القراءةِ ومعايشةِ الناس.

وعليّ ابتداءً أن أقرّر بأنّ الأذواق تنبثق في الأصلِ مما يتعارفه الناس، ويشيع قَبولُهم له.

يضافُ إلى هذا أنّ ممارسةَ ذوقيّات الحياة الاجتماعيّة؛ تحتاج إلى مالٍ، وإلى توفّر لوازمها في الأسواق.

وقبل الاسترسالِ في التفريعِ على ما تقدّم؛ علينا أن نؤصّل لمسألة الأذواق، فنعرف موضعَها من دين الله تعالى.

يقسم علماء أصولِ الفقه مقاصدَ الشريعةِ إلى ثلاثِ شُعَبٍ كبرى:

الضروريّات - الحاجيات - التحسينات.

الضروريّات: هي ما يتحتّم وجوده لبقاء الحياة واستمرار الوجود.

والحاجيات: هي ما تتكامَل معه معيشَةُ الناس، وفقدانُها يسبّب لهم حرجاً شديداً.

والتحسينات: هي الكماليّات والتزينات.

ومسألة الذوق تدخل في إطار التحسينات الماديّة والمعنويّة واللغويّة وسائر مفاصل الحياة.

انظر إلى قول الله تبارك وتعالى، وهو يتحدّث عن ممارسة العلاقة الزوجيّة، التي لا يجد الناس أدنى حرجٍ من نطقها «الجماع» ماذا قال؟

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) [الأعراف ] فقد كنّى بالغِشيانِ عن الجماع، تلطّفاً وتعليماً.

وانظر إلى قول الله تبارك وتعالى، وهو يتحدّث عن أضرار دم الحيضِ، ما ذا قال؟

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) [البقرة] فاعتزلوا النساء: اعتزالَ معاشرةٍ حسيّاً، وليس معناه اعتزالَهنّ أو عزلهنّ في غرفةٍ مستقلّة، ولا تقربوهنّ حتى يطهرن: أي: لا تَغشونهنّ حتى يغتسلن من دم المحيض الأذى!

عودٌ على بَدْءٍ:

عندما تخاطب أيّ إنسان؛ ليكن الرسول بينك وبينه نظرَة رحمةٍ وكلمةَ تلطّف!

انظر إلى جملة هذه الكمالاتِ التي قالها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديثٍ واحدٍ:

- (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ؛ لَكَ صَدَقَةٌ!

- وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ!

- وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ؛ لَكَ صَدَقَةٌ!

- وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ؛ لَكَ صَدَقَةٌ!

- وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنْ الطَّرِيقِ؛ لَكَ صَدَقَةٌ!

- وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ؛ لَكَ صَدَقَةٌ)!

أخرجه الترمذي في كتاب البرّ والصلة (1956) وقال: «حسن غريب».

ليس المقصودُ بالصدقة هنا؛ جنسَ الزكاةِ والإنفاق الماليّ، إنما المقصود بالصدقة الإحسانَ المعنويَّ الذي تؤجَر عليه، مثلما تؤجَر على البذل والإنفاق في سبيل الله تعالى.

ومن هذا الجنسِ من الصدقاتِ؛ قولُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الكلمةُ الطيّبةُ صدقةٌ) أخرجه البخاري (2891) ومسلم (1009).

لست أدري أتأثّرت بأحدٍ، أم إنها الفطرة؟

مذ نشأتُ وعرفتُ تمييز الألوان والذوقيّات؛ أحبُّ أن يكون لون ثيابي الخارجيّة الأسودَ القاتمَ والبُنيَّ المحروق في الشتاء، واللون الأبيض والكريمي الفاتح جدّاً في الصيف!

ولو أردتُ أن أشتريَ لنفسي ثوباً؛ فلا أختار سوى هذه الألوان الأربعة.

ومن لوازم هذا؛ أن يكون غِطاء رأسي «الطاقية الباكستانيّة» من لون الثوب تماماً، وأن تكون الجواربُ والحذاء من لونٍ مطابق أيضاً، وأن تكون محفظتي وقلمي ومنديل جيبي كذلك!

هذا إنْ وجدت بغيتي في السوق، وكنت أمتلك المالَ اللازم لذلك!

عندما كَبُرْتُ، وغدوتُ شيخاً لديَّ تلامذةٌ كثيرون؛ غابت ذوقيّاتي تماماً حتى في ثيابي، وصارت خليطاً غيرَ متجانسٍ من اختيارات طلّابي، ولا أقول: من ذوقيّاتهم!

فصار في خزانةِ ثيابي: الأبيضَ والأسودَ والأزرقَ والأخضر والرمادي، وما شئتُ، وألبسُ أكثرها احتراماً لمُهديها، و شكراً لله تعالى على رزقه.

منذ أقمتُ تركيّا، عام (2015) وحتى هذا اليومِ، أبحث عن كؤوسِ شايٍ وفناجينَ قهوةٍ تروق لي؛ فلم أجد!

ولذلك فإنك لا تجد في بيتي كأساً أو فنجاناً يروق لي، بل قد تجد على طاولتي أنواعاً متعدّدةً من الكؤوس والفناجين، غير المنسجمة أصلاً!

أنا أحبَّ أن تكون ساريةُ صبّابِ القهوةِ يساريّةً؛ لتصبَّ القهوة بيسارك، وتمسك الفنجانَ بيمينك!

وقد وجدتُ مثل هذا الصبّاب «الدلّة - الدولة» لكنّه من معدنٍ خفيفٍ جدّاً، يتفاعل مع الماء المغليّ، إضافةً إلى غلاء سعره!

فلا أنا أجنيه لضرره، ولا أنا أستجيز دفع ثمنه الغالي، من أجل أن أشربَ القهوةَ على مزاجي!

لا يَروق لي أبداً أن يكون على طاولةِ القهوة والشايِ كؤوس متعددة الألوان والأشكالِ، بل إنّ ذلك يسبّب لي كدَراً نفسيّاً.

مع أنك قد تجد ذلك على طاولةِ شرابي فعلاً!

لكنْ لماذا؟

لأنني أضطر أن أشتري فناجينَ أو كؤوساً لا تروق لي، من سوق الحيِّ الذي أقيم فيه، ثمّ أجدُ ما هو أفضل قليلاً، فأشتريه، ثمّ أجد ما يقاربُ ذوقي فأشتريه!

ثم يكسر الأولادَ بعضَ هذا وذاكَ وذليّاك، فما يبقى لدينا يكون خليطاً غير متجانسٍ، يظهرنا بمظهر قلّةِ الذوقِ، والسبب هو ما تقدّم!

والأمرُ ذاتُه ينطبق على أدوات المطبخ كلّها، وعلى لوازم الحمّام، وعلى صالةِ الضيوفِ، وعلى غرفة المعيشةِ، وغرفة النوم!

المالُ والسعة!

لا تسألْ عن الذوقيّات لدى الفقير!

عندما غادرت العراقَ، أوّل مرّةٍ، عام (1999) اقترضتُ أجورَ الطريقِ من تلميذي الدكتور «عمر خير الدين الأيّوبي» حفظه الله تعالى، وأخذت معي زوجتي أمّ سعيد وأولادَها الثلاثةَ: سعيداً وحسناً، وحسيناً رحمه الله تعالى!

وتركت عشرةً من أولادي وأمَّهم في العراق، وليس في جيبي، سوى ثلاثةِ دنانير أردنيّة!

وصلنا عمّان الأردنّ، ونزلنا ضيوفاً على الدكتور محمد بن سعيد حوّى، شقيق زوجتي وخال أولادي.

اتّصلت بوالدي، وقلت له: إنني لا أملك أنا وأسرتي المتراميةَ ثمن الخبز، فأنجدني والدي بعدّةِ آلافٍ من الدولارات في اليوم الثاني!

استأجرتُ شقّةً مكوّنةً من غرفةٍ ومطبخٍ وحمّام، ريثما أجد عملاً!

لكنّ الأمنَ الأردنيّ - لا جزاهم الله خيراً ولا أحسنَ إليهم - اشترطوا عليَّ التعاملَ معهم، أو الجلوسَ في بيتي، وهم يشترطون ذلك مع كلِّ أحدٍ، فانتبهوا!

فعشت في الأردن حتى بداياتِ عام (2015) لم يُسمَحْ لي بالعملِ حتى في مدرسةٍ ابتدائيّة، إي والله، كان لي صديقٌ من أيّام الجهادِ في فلسطين (1969) أسّس مدرسةً ابتدائيّة خاصّةً، وطلبَ الموافقةَ على أن أكون مدرّساً فيها؛ فرفضَ الأمن الهاشميُّ الشامخ!

أين ستضع الذوقيّاتِ في غرفةٍ هي للنومِ والمعيشةِ والضيوف؟

وأنا أعيشُ في تركيا منذ آذار (2015) حتى اليوم، من دون أيّ عملٍ، وهذه المرّةُ ليس بسبب الأمنِ التركيّ، إنّما بسببِ المشايخِ الجُهّال، حُماةِ المذهب السنيّ، لا جزاهم الله خيراً، ولا وفقّهم إلى خير!

ختاماً: لا تسألْ فقيراً ولا مريضاً ولا عجوزاً ولا ضعيفاً عن الذوقيّات؛ فالذوقيّات كماليّات، وهؤلاء المساكين لا يستطيعون الوصولَ إليها ولا الاستمتاع بها غالباً.

اختصرتُ الكلامَ؛ لأنّ أعصابي توفّزت بتذّكر المعاناةِ والآلام، فأعتذر!

ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق