الاثنين، 10 مايو 2021

مسائل حديثيّة (12):
الحَديثُ الفردُ المطلَقُ بين الاحتجاج والاعتبار!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
تتّسم دراساتنا الحديثيّة بالسطحيّة، غالباً، ويَسودُ في أوساطنا الاتّهامُ وسوءُ الظنِّ!
والأكثرون ينطلقونَ من التَقليدِ، وتقديس القواعدِ الحديثيّة، وهي قواعد نسبيّة في الأساس، على الرغم من دعواهم الاجتهادَ والانتفاخ!
حتّى إذا قام سلطانٌ جاهلٌ، وربما فاسق، وربما ظالمٌ، وربما منافقٌ حقيقيّ، فقالَ بقولٍ من الأقوالِ؛ توجّهتِ الأنظار إلى قوله.
وغدا القولُ الذي قاله من قبلُ عالمٌ مقتدر مجتهدٌ، مما يجب أن ينظَر فيه، بعد ما كان منكراً من القول وزوراً !
وما ذاك إلا لأنّ العقلَ الجمعيّ في الأمّة، ما زال عقلاً عبداً، لم يبلغ أولى مراتبَ الحرّية الحقيقيّة!
إنّه عقل جاهلٌ، خاضع لطاعةِ القويّ، حتى لو كان كافراً حقيقيّاً، لكنه غير مجاهر، بل حتى لو كان مجاهراً!
بل إنّ العقلَ الجمعيَّ العبدَ؛ يدعو لظالمه ومستعبده ومستذلّه، وهو ظالم جاهل جبانٌ وغد، وصل بمعونة الغوغاء العبيد إلى السلطةِ، أو بمعونة أسياده الكفّار!
هو لا يمتلك من المؤهلات العليا شيئاً، لكنه يمتلك جيشاً جاهلاً غبياً نفعيّاً، ينفّذ أوامر ذاك السلطان المجرم العميلَ، حتى لو قال له: اقتل نفسك، أو اقتل أخاك!
وحاشا لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأمر المؤمنين الأحرار بطاعة هكذا مجرمٍ، ويحرّم الخروج عليه، ونزع سلطانه منه، رغماً عن أنفه وأنف أبيه وعشيرته الغوغاء الجاهلة!

أيها الإخوة المؤمنون:
إنّ قواعدَ علومِ الحديثِ، من أوّلها إلى آخرها؛ تنحصر تطبيقاتُها في دائرة «الظَنّ» وليس لها إلى اليقين من سبيل!
والذين ناقشوا إفادةَ خبرِ الواحدِ اليقين؛ كانوا غافلين قطعاً عن مثول هذه الحقيقةِ بين أيديهم!
كائنين من كانوا!
بل حتى لو كان فيهم: مالك، السفيانان، شعبة، يحيى القطّان، ابن مهديّ، أحمد، ابن المديني، ابن معين، فمن دونهم!
جميع هؤلاء الأئمة الذين تبالغون في تعظيمهم وتوصيفهم، إنما يتّفقون أو يختلفون على حديثٍ في دائرة الظنّ، لا يترقّى منه إلى درجة غلبةِ الظنّ إّلا أحاديثُ معدودة!
أمّا بلوغُ بعضِ الأحاديثِ درجةَ اليقين «المتواتر» فلو صحّت الدعوى؛ فهي أحاديث نادرةٌ في مجموع المرويّ!
وبمزيد من غيبةِ الوعي، أو مزيد من الجهلِ، أو مزيد من التضليلِ، أو مزيد من العجزِ؛ يذهبونَ، أو يذهب بعضهم إلى جعل كلّ حديثٍ صحيح غريب، أو حسنٍ حسبَ قواعدهم، سنّةً، يَبنونَ عليهم حصوناً وقلاعاً من الأحكام، بعضها ركنٌ، وبعضها شرطٌ، وبعضها واجبٌ، وبعضها في أصول الدين أيضاً!
وليس ذلك فحسب!
بل لو أنّ عالماً من العلماء توضّح له هذا الأمر، ورأى أنّ «الحديث الفردَ المطلق» لا يستحقّ ذاك الاهتمامَ المبالَغ فيه؛ لجعله بعضهم فاسقاً، ضالّاً، منافقاً، رافضيّاً، زنديقاً!؟
إنّ شيوعَ تقديس «الحديث الفرد المطلق» هو بحدّ ذاته دليلٌ على تخلّف عقليٍّ وعلميّ، لدى مَن نسمّيهم العلماء، كائنين من كانوا في القديم والحديث!
إنّ مصيبةَ المصائبِ؛ هي الرغبةُ الجامحة لدى جميع المتخالفين، في «إبقاء ما كان على ما كان» وتقديس التقليد، وما يسمّونه «استقرار المذاهب الفقهيّة»!
نتركُ هذه الكلام العامَّ، الذي لا يريدُ أن يفهَمَه أحدٌ تقريباً، إلى الكلام الخاصّ الموثّق!
(أ) تعريف الحديثِ الصحيح:
هو الحديث الذي يرويه عدلٌ ضابطٌ عن مثله، من أوّل السند «المصنّف» إلى منتهاه «الصحابيّ» من غير شذوذٍ ولا علّة!
هذا الحديثٌ الذي يتّفق المحدّثون – وسائر الأمة من ورائهم – على صحّته، ووجوبِ اعتباره في الدين!
وتحليل هذا التعريف:
(1) حديثٌ رواه صحابيّ واحدٌ عن الرسولٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والصحابة أكثر من عشرين ألفاً، لم يروه منهم أحد!
حديث هذا الصحابيّ المتفرّد؛ محتجّ بثبوته، ومحتجٌّ بضبطه وفهمه أيضاً!
سواءٌ أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ!
أو أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وعبدالله بن الزبير!
أو الصعب بن جثّامة، ومالك بن صعصعةَ، وأهبان بن أوس، وثابت بن الضحّاك!
بل حتى إذا وصلَ الأمر إلى غير المسمّين من ذلك الجيل، مثل ابن كعبِ بن مالكٍ، وبنت الحارث بن عمرو، ورجلٌ من الأنصار، و رجلٌ ممن رأى رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم!
لأنّ الصحبة عاصمةٌ عن الفسقِ، فضلاً عن النفاق، بله الكفر والردّة!
والتاريخ المقروء، والمسموع؛ يكذّب هذه القاعدة الواهية، التي بنوا عليها كثيراً من دين الإسلام!
(2) ثمّ هو حديثٌ لم يروه عن ذلك الصحابيّ المتفرّد به، سوى تابعيٍّ واحدٍ ثقةٍ، أو صدوقٍ، أو لا بأسَ به، أو حسنِ الحديثِ إن شاء الله!
والإمام الذهبيّ، وهو من أهل الاستقراء في علم الرجال يقول: إنّهم يطلقون لفظَ «الثقة» على متوسطي الحفظ!
(3) ثمّ لا يرويه عن ذلك التابعيّ الموصوف بإحدى تلك الصفات الرائعة المتقدّمة «ثقةٍ أو صدوقٍ أو لا بأسَ به، أو حسن الحديثِ إن شاء الله» سوى واحدٍ من أتباعِ التابعين!
(4) ثمّ لا يرويه عن تابعِ التابعيّ الموصوف بإحدى تلك الصفات الرائعة المتقدّمة «ثقةٍ أو صدوقٍ أو لا بأسَ به، أو حسن الحديثِ إن شاء الله» سوى واحدٍ من تَبعِ أتباعِ التابعين!
(5) ثمّ تأتي طبقة المصنّفين الأئمة الحفّاظ الذين ملأوا الدنيا علماً، وحفظوا على الناس إسلامهم!
هذا الحديثُ بهذا التيسير والتفكيك الابتدائيّ؛ هو الحديث الصحيحُ، الذي يتصارع المسلمونَ على حجّيته في العقائدِ والأحكام!
هذا بمعزلٍ عمّا إذا كان التابعيّ المتفرّد من أهل العلم، أم كان مجرّد راويةٍ، أو كان مجهولَ الحال، لكنّه روى حديثاً ينسجم مع توجههم العامَّ، فذهبوا ووثّقوه!
هذا ما أفهمه من كلام ابن الصلاح أيضاً!
«وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ، فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ، وَتَعَذَّرَتِ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ» (ص: 112).
إنّ قواعدَ علوم الحديثِ؛ تخدم سلسلةَ الإسناد هذه!
ثقةٌ عن ثقةٍ، عن ثقة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو حديث صحيح، وهو سنّة!
صدوق عن صدوق، عن صدوق، إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو حديث حسنٌ، وهو سنّة!
صدوق، عن رجلٍ لا بأس به، عن رجل حسن الحديث إن شاء الله، إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو حديث حسنٌ، وهو سنّة!
هذا هو علمُ الحديثِ الذي تقدّسونه، وترفعونه إلى أعالي السماء!
فانتبهوا أيها الإخوة المؤمنون من غفلتكم التي مرّ عليها (1200) سنةً، ولم تنتبهوا منها، حتى كتابةِ هذا المنشور.
(ب) ما سبق هو الحديثُ الصحيح أو الحسن، الذي لا اختلاف بين أهل الحديث على قبوله، هكذا يدّعي المتأخّرون، ابن الصلاح، فمن جاء بعده!
فإذا انتقلنا خطوةً أعلى، فماذا نرى؟
هذا الصحابيّ الفردُ العدلُ الضابط الواعي لما سمع؛ لا شأن لنا به، فقد حاز مرتبة «العصمة» التطبيقيّة، فلا يدرس حاله ولا ضبطه ولا فهمه؛ لأنّه المنتهى في ذلك كلّه (فهم السلف الصالح).
أمّا التابعيّ؛ فمسموح لنا النظر في حاله وضبطه وفهمه، ولله تعالى الحمد!
التابعيّ الثقةُ الأول، الذي تفرّد بالحديث عن الصحابيّ؛ أعطينا حديثَه درجة حديث صحيح غريب!
فإذا تحققت الشروطُ والمواصفاتُ السابقة، في حديثِ الصحابيّ عمرٍو، لكنْ رواه عن الصحابيّ زيدٍ اثنان من التابعين، فهل بقي الحديث فرداً مطلقاً؟
كلّا بل يصبح حديثاً صحيحاً عزيزاً من حديث زيدٍ الصحابيّ المتفرّد به!
فإذا تحققت الشروط السابقة كلّها، لكن رواه عن الصحابيّ سهلٍ ثلاثةٌ من التابعينَ؛ فلا يبقى الحديث عن زيدٍ غريباً ولا عزيزاً، بل يصبح حديثاً مستفيضاً عن سهلٍ.
فإذا تحققت الشروط السابقة كلّها، لكن رواه عن الصحابيّ أنسٍ أربعةٌ من التابعين؛ فلا يبقى الحديث عن زيدٍ غريباً ولا عزيزاً ولا مستفيضاً، بل يصبح حديثاً مشهوراً عن أنسٍ!
فإذا تحققت الشروط السابقة كلّها، لكن رواه عن الصحابيّ الأغرّ سبعةٌ من التابعين؛ فلا يبقى الحديث عن زيدٍ غريباً ولا عزيزاً ولا مستفيضاً ولا مشهوراً، بل يصبح حديثاً متواتراً عن الأغرّ، عند بعض المحدّثين، وإليه يذهب الفقير عداب.
هذا الحديث لا يزال وصفه «صحيح غريبٌ لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى صحابيّ واحد، متواترٌ عن الصحابيّ الأغرّ»!
إنّ الخطأَ الفاحشَ لدى أهلِ الحديثِ؛ أنّ هذه الأوصاف الإضافيّة، التي زادت من نسبة الصحةِ في هذا الحديثِ الفردِ المظنون؛ لا يقيمون لها أيّ وزنٍ إضافيّ في الحكم على الحديث، ولا في التفريع عليه.
فالحديث بتفاوت أوصافه السابقة، هو حديثٌ صحيح، الفردُ المطلق منه، والمتواتر عن الصحابيّ، سيّان!
بهذا يثبتون عقيدةً، وبه يثبتون حلالاً وحراماً، وبالحديث المتواتر عن صحابيّه على حدٍّ سواء!
وسواء كان الصحابيّ أعلمَ الصحابة، أم كان معتّب بن قشيرٍ المجهول!
ونحن لو جئنا إلى مرحلة التمييز العقليّ، وتساءلنا:
هل الحديثُ الذي يرويه تابعيٌّ واحدٌ عن الصحابيّ، عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو في قوّة الحديثِ الذي يرويه سبعة أو عشرةٌ من التابعين، عن صحابيّ، ولو تفرّد به صحابيٌّ واحدً عن رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
بتفكيك وتيسيرٍ أكثر:
الحديث بجميع مواصفاته المتفاوتة؛ حديث فردٌ غريبٌ لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، سوى صحابيّ واحد!
لكن رواه عن الصحابي عشرة، فيمكن أن نعطيه درجة (70%) من الثبوت عن صحابيّه!
فإذا رواه عن الصحابيّ تسعةٌ من التابعين، فيمكن أن نعطيه درجة (69%) من الثبوت!
فإذا رواه عن الصحابيّ واحدٌ من التابعين، فيمكن أن نعطيه درجة (60%) من الثبوت!
هل يقول عاقلٌ في الدنيا، من المسلمين والكافرين والمنافقين، بأنّ درجة ثبوت الذي يرويه واحدٌ عن واحدٍ؛ مثل درجة ثبوتِ الذي يرويه عشرة عن واحد؟
المسألة لا تحتاجُ إلى اتّهامٍ، ولا إلى تخوينٍ، ولا إلى تفسيق وتضليلٍ وتكفير!
تحتاجُ إلى درجة يسيرةٍ من الوعيِ؛ لكي يُضاف إلى قواعد المنهج النقديّ الحديثيّ التطبيقيّ، قاعدة كثرةِ الرواة.
هي موجودةٌ في المنهج لدى كثيرين من العلماء المتقدّمين، ومنصوص عليها، لكنها غير مطبّقة عمليّاً في الحكم على الحديثِ، وغير مطبّقة عند التفريع على الحديث!
فأهل الحديث، ومن ورائهم جميع الفرق الإسلامية؛ يثبتون العقائد والحلال والحرام، بالحديث الغريب الفردِ المطلق، وبالغريب المتواتر عن صحابيّه.
مع تفريع نظريّ ليس ذا قيمةٍ البتّة، بين أهل الحديث الذين يثبتون بالحديث الفرد المطلق الغريب الحسن لغيره العقائد والسنن «حتى»؟!!
وبين الأشاعرة الذين يقولون: إنهم لا يثبتون أصولَ الاعتقاد بهذا الحديث، إنما يثبتون به فروع العقائد!
والحقّ الذي يجب الجهر به؛ أنّ كتبهم الاعتقادية طافحة بالأحاديث الحسنة والضعيفة والمنكرة!
فتبقى المسألة لديهم نظريةً، ليست ذات بال!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق