الجمعة، 21 سبتمبر 2012

من معالم شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم


من معالم شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
1.    الخلق العظيم:
قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
والخلُق: كلمة شاملة للاتصاف بكل ما هو جميل محبوب، والابتعاد عن كل ما هو مكروه.
وقال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة لجميع عوالم المخلوقات، وجميع المخلوقات تستفيد من هديه ومنهجه حتى الذين به يكفرون. ومن مظاهر رحمته صلوات الله وسلامه عليه أنّ أيّ عظيم من الملوك والحكام لا يستطيع فتح مدينة حتى يقتل معظم رجالها، والنبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه أقام دولة الإسلام على مدى عشر سنوات، وفي جميع حروبه لم يُقتَل من العرب مسلمين وكافرين ألف فارس محارب! لأنّ الحرب عنده ليست للانتقام والتشفي والإذلال، وإنما هي بمنزلة العملية الجراحية الاضطرارية التي لا بدّ منها لإنقاذ المريض!
وقال الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) آل عمران: 128
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبدٌ لله تعالى يأتمر بأمره، وينتهي عما نهاه الله عنه، ويعلمه ربه تعالى أنّ عليه الدعوة إلى الله، وحساب عباد الله على خالقهم (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النور: 54
وقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب: 21
فالقدوة للأمة هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا فمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ فيتوجب عليه اتباع هديه صلى الله عليه وآله وسلم والالتزام بسنته، عن طيب نفس، سواء ظهرت له الحكمة أم لم تظهر (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) النساء: 65
2.    فضله السامي في بيان مكانة الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين:
لقد قرأت النسخة المترجمة من التوراة والإنجيل، مما يُدعى (الكتاب المقدس) عند اليهود والنصارى، فوجدت في العهد القديم صوراً من الشرك بالله ما يذهل منه العاقل، ووجدت بعض الأنبياء عندهم قتلة، وبعضهم غدارين، وبعضهم زناة بالمحارم، وبعضهم كذابين؟؟؟ إلى آخر ذلك من الافتراءات.
ولو نظر كلّ وَبشٍ من الأوباش الذين يتطاولون على سيدّ الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليوم في القرآن العظيم؛ فسيرى المكانة الصحيحة الحقيقية للنبيّ الذي يقدسه ويحبه، ولن يرى في غير القرآن الكريم بعض المكانة العظيمة لموسى وعيسى عليهما السلام.
كتب رجل أمريكي متعصّب لموسى وعيسى عليهما السلام كتاباً سماه (أعظم مائة رجل في التاريخ) وهو (مايكل هارت) ووضع معايير علمية وفكرية يعرض صفات كل رجل عليها، فاضطرته هذه المعايير -كما قال- أن يضع سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعظم العظماء فصنفه أعظم رجل في التاريخ!!؟؟
واعتذر إلى قومه من اليهود والنصارى بأن المعلومات الصحيحة عن موسى وعيسى نادرة! وأنّ نصوص التوراة والإنجيل لا يوثق بها لأنها متناقضة متدابرة (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء: 82
قال: ومما يؤسف له أن تاريخ ولادة موسى وعيسى وتاريخ وفاتيهما غير معروفة. وأثنى على صفات النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنجازاته العظيمة وآثاره القيمة الممتدة منذ حياته وحتى اليوم. ولو أنّ هذا الكاتب رجع إلى القرآن الكريم بصفته وثيقة تاريخية مسندة صحيحة النسبة قطعاً إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لوجد فيه من صفات عيسى وموسى ومعالم من رسالة كلّ واحدٍ منهما ما كان يجبره على أن يضع موسى وعيسى عليهما السلام قبل جميع البشر العاديين الذين جعلهم قبلهما.
إن موسى عليه السلام رسولٌ، صالح، صادق، شجاع، طائع لله، وقل من صفات الخير التي نسبها القرآن العظيم له ما شئت! وقل في عيسى ابن الصديقة مريم العذراء روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم من صفات الخير والبرّ والرحمة ما شئت! لكن تذكّر أن تلك الصفات السامية إنما هي في القرآن وحده.
فاليهود افتروا على موسى، واتهمه بعضهم بقتل أخيه هارون، ووبخوه لأنهم أوذوا قبل أن يرسل إليهم وبعدما أرسل إليهم، وطلبوا منه أن يجعل لهم آلهة، وعبدوا في غيابه العجل. واليهود افتروا على نبيهم عيسى عليه السلام، فرموا أمه الصديقة عندنا بالزنى، وعابوا عليه أنه من غير أب! وكذبوه في رسالته وحاربوه، ووشوا به إلى السلطان الروماني الوثني فأمر بصلبه فنجاه الله تعالى.
والنصارى أساؤوا إلى عيسى عليه السلام وكذبوا عليه وحطوا من قدره أيضاً! فقال بعضهم: هو الله تجسد في رحم مريم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، مما جعل عيسى يعتذر عن ذلك ويقول: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن: اعبدوا الله ربي وربكم). المائدة: 117
وبعضهم قال: هو ابن الله. وكذبوا عليه فقالوا: لقد صلب فعلاً، ثم قام من الأموات، ثم عرج إلى السماء فقعد على يمين أبيه، تعالى الله عن إفكهم. ثم كذبوا عليه وعلى الله، فجعلوا صلبه فداءً لمعاصي البشرية وحقارة الكافرين، فأبطلوا التكليف ومن ثمّ الحساب والثواب والعقاب! وحرفوا كتابه العظيم الإنجيل، فملؤوه بالوثنيات والشرك الأكبر.
بينما موسى وعيسى عندنا من أولي العزم من الرسل المصطفين الأخيار (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران: 33
فهذه واحدة من الخصال التي جعلت رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين
3.    لين الجانب والتواضع:
النفس البشرية، كلّ نفسٍ بشرية، مهما كان صاحبها من الرفعة والمنزلة العالية، أو كان من ذوي المنازل الدونية؛ فإنّ (الأنا) جامحة لديه.
وفي دراستي لكتاب (الأذكار) للإمام النووي، عقدت فصلا بعنوان (الجانب التربويّ في كتاب الأذكار) توصلت فيه إلى أنّ وظيفة جميع الأخلاق الإسلامية؛ هي المحافظة على (الأنا) من الثورة.
تواضع لي: يعني لا تشعرني بأنك أعلى مني في أيّ شيء!
أحسن إلى جارك: يعني لا تتفوه بكلمة تحرّك الأنا، أو تتصرف بشيء يثير غضبه!
اصبر على أذى جارك: يعني تنازل عن بعض حقوقك في سبيل ألا تتطور الخصومة التي سببُها شيء يسير جداً إلى قتال، وعنف!
أكمل المؤمنين أيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف: يعني يجب أن لا تثير حفيظة المقابل وأناه!
وانظر إلى تلك الصفات التي وصف الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تجدْ ما تقدم جلياً واضحاً!
قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب: 21
وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران: 159
وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة: 128
وقال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) الأحزاب: 6
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً) النساء: 64
فالنبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومع هذا؛ فقد وُجد في جيل الصحابة من وجّه إليه الإساءة تلوَ الإساءة؛ لأنّ (أناه) جامحة لم تتروض بعد! فجاء القرآن الكريم ليربيهم، ويعلمهم كيف يتعاملون مع تلك الشخصية الفريدة في تاريخ الإنسانية!
قال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة: 61
وقال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور: 63
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) الحجرات: 3
وغيرها وغيرها كثير. فلين الجانب، وخفض الجناح، واحتمال الأذى من الناس، وغيرها من صفات رسول الله السامية؛ هي التي مكّنت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم من تأليف قلوب أولئك الأعراب الجفاة! حتى قال بعض الكاتبين: لو لم يكن لرسول الله معجزةٌ، سوى أنه استطاع أن يصنع من أولئك البدو الجفاة خيرَ أمّة أخرجت للناس؛ لكفاه معجزات، صلى الله عليه وآله وسلم.
كنت جالساً مرّة في مجلس الشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى، وهو على الأقلّ عالم حماة الأكبر. فقام واحدٌ من جيل تلامذته، بل هو من تلامذته يؤنبه، ويتطاول عليه، وينتقده، وقبل كلّ حملة جديدة من حملات التوبيخ يقول له: أخ أبو محمد، يا أخ أبو محمد! وهو عامل عاديّ، لا يعرف من أمور دينه إلا اليسير اليسير. كان الشيخ سعيد ينظر إليّ من طرفٍ خفيّ، يخشى أن أثور على الرجل، بينما كان وجهه كله إلى ذلك الشاب، وهو يقول له أحياناً: صدقت! وأحياناً يقول له: سامحك الله، وأحياناً يقول له: جزاك الله خيراً، تبصرني بعيوبي! وأنا أجزم قطعاً أن ليس في الشيخ سعيد شيء مما يقول هذا الجاهل، لكن هو يريد أن يقال عنه: جريء، وفهمان، وشجاع، لأنه أنّب الشيخ سعيد حوى! وفي لحظة من اللحظات صرخت في وجهه: كفى كفى، كفاك كلاماً فارعاً ووقاحة ضربك العمى ما أوقحك! مع أنه صديقُ عمرٍ لي. غضب الرجل، وترك الشيخ سعيد، واستدار إليّ، فقلت له: انا لست الشيخ سعيد حوى، أنا عداب الحمش، والله أقلع عينيك هاتين من وجهك! استطاع الشيخ سعيد أن يهدئ الأوضاع ريثما خرجنا من مجلسه، فانتظرت الرجل على الباب حتى خرج، فهجمت عليه أريد أن أضربه، فحال بيني وبينه أحد من كان حاضراً! فقلت لمن أعدّه وقحاً متطاولاً: أنت تحتاج إلى أدب، وإلى تربية، وإلى أن تعرف قدر نفسك، قتلت الشيخَ قتلاً! فقال: ما شاء الله عن أدبك وأخلاقك ولطفك، والله تعالى يقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف: 199
ويقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) آل عمران: 159
أين أنت من هذه الأخلاق؟ أين أنت من قول الله تعالى (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) الفتح: 29
لم أردّ عليه شيئاً، وإنما تركتهم جميعاً، وانصرفت! فلما جئت أحاسبُ نفسي؛ وجدت أنني أسأت إلى الرجل أكثر بكثير مما أساء هو إلى الشيخ سعيد، مع فارق المنزلة على كلّ حال! في يومٍ آخر؛ التقيت الشيخ سعيداً، فسلّمتُ عليه، فلم أتبيّن إن كان ردّ عليّ السلام لكنه قال لي: بهذا التحمّل والصبر تريد أن تكون قائداً؟ بهذا الصراخ والتوبيخ تريد أن تكسب قلوب الناس للدعوة، وتنقذهم من النار؟
ولهذا أقول دائماً: أنا لا أصلح للقيادة مطلقاً؛ لأنّ البشر لا ينقادون للشجاع والقويّ كما ينقادون لدمث الأخلاق، ليّن العريكة، الذي يتواضع لهم، ويشعرهم بقيمتهم، ولا يرى لنفسه منزلةً فوق منازلهم. الناس في ذلك كلهم سواء، ما عدا الأنبياء المعصومين صلوات الله عليهم.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المثل البشريّ الأعلى في ذلك كله! والآيات الكريمة السابقة من جملة الآيات التي عرضت وقائعَ أهّلت الرسول الأعظم لثناء ربه تعالى عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
أخرج البخاري (3138) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ! فَقَالَ الرسول لَهُ: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ)!
وأخرج أبو داود (4775) والنسائي (4776) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا قَامَ قُمْنَا فَقَامَ يَوْمًا وَقُمْنَا مَعَهُ حَتَّى لَمَّا بَلَغَ وَسَطَ الْمَسْجِدِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا! وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي! فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي أَنْ لَا يَبْرَحَ مَقَامَهُ حَتَّى آذَنَ لَهُ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ: (يَا فُلَانُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْراً).
هكذا إذاً صحابيّ جافٍ من الأعراب، ليس مشركاً ولا منافقاً، إذ لا دليل على ذلك البتة، يؤذي رسول الله، ثم يرفض القصاصَ من نفسه، فيكافؤه الرسول الكريم بأن يحمل له أوقار بعيرين من الطعام! فأي لين وأي تواضع!
فهذه بعض من خصاله الشريفة، صلوات ربي وسلامه عليه
4. منزلته عند الله:

في البداية يجب التأكيد على أنّ منزلة الرسول الأكرم عند ربه تعالى تبقى في حدود التفطن الدائم لمقام العبودية، والقيام بأداء الرسالة.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة: 67
فإذا وضح هذا؛ فمن منزلة الرسول الأعظم عند ربه تعالى، ما تراه في قوله الكريم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف: 157
انظر إلى هذه المنزلة؟
التبشير به صلوات ربي وسلامه عليه؛ مكتوب في التوراة والإنجيل!
هو العظيم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث. هو الرحيم الذي أحل الله تعالى على يديه للخلق كثيراً من الأحكام الشديدة التي أُلزموا بها، أو هم ألزموا أنفسهم بها. ثم أوجب على الخلق الإيمان به، وتعظيمه، ونصرته، واتباع أحكامه وسنته. ثم جعل المؤمنين به والمتبعين لسنته والمعظمين له وناصريه هم المفلحين الناجين. وانظر عدداً من الآيات في نحو هذا المعنى الجليل.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف: 158
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة: 128
في مقابل هذه الصفات السامية، والوظيفة الرسالية العليا؛ فماذا قال فيه ربه تعالى؟
قال له ربه عزّ وجلّ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر: 72
(فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) فاطر: 8
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الكهف: 6
فهنيئاً لهذا الرسول العظيم بعناية ربه به وحبه إياه ومنزلته عنده. وهنيئاً للمؤمنين بهذا الرسول العظيم الرؤوف الرحيم بهم. وهنيئاً للإنسانية بهذا الرحمة المهداة.
فهل نصدّق الله تعالى في هذه الصفات السامية التي أضفاها على رسوله الكريم محمد ابن عبدالله (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) الأعراف: 157
أم نصدق أناساً أوباشاً أوشاباً جهلة حاقدين بما نسبوه إلى هذا الرسول العظيم من إفك وزور؟
إنّ هؤلاء الأوباش كأسلافهم الأوغاد الذين وصفوا أنبياءهم الكرام بكل صفات الدناءة والنذالة والخيانة والغدر والحقد... فتلك تربيتهم وهذه ثقافتهم، وبئست التربية الحقيرة والثقافة المعوجة. فرسل الله تعالى جميعهم كرام، معصومون، ذوو صفات سامية عالية.
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل: 123
(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى: 13
صدق الله العظيم، وكذب أولئك الأوشاب اللئام الجهال، وهل من مصيبةٍ أطمّ من الجهل؟
صلوات الله وسلامه وبركاته ورحماته عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابتك الأكرمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق