مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (2):
بِدْعَةُ هَجْرِ المُبْتَدِعِ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ أحدهم يقول ما معناه: إذا كان يسعكك أن
تحبّ الإباضيّ الخارجيّ والمعتزليَّ المعطّل والأشعريَّ الضالّ والرافضيَّ المارق
من الدين، فماذا أبقيت من عقيدة الولاء والبراء، وماذا ألقيت من عقيدة «هجر
المبتدع»؟!
أقول وبالله التوفيق:
كتبتُ هذا المنشورَ في خانةِ «مسائل فكريّة»
لاعتقادي أنّ مسألةَ «الولاء والبراء» ومسألة «هجر المبتدع» ليستا من مسائل
الاعتقاد المباشرة، إنما هما من المسائل الفكريّة الاجتهاديّة، حتى لو عدّهما أكثر
المذهبيين من مسائل الاعتقاد!
قال
أبو الحسين بن أبي يعلى الحنبليّ (ت: 526 هــ) في كتابه «الاعتقاد» (ص: 43) تحت
عنوان: «هجر أهل البدع»: «ويجبُ هُجرانُ أهل البدع والضلال، كالمشبهة والمجسمة
والأشعريّةِ والمعتزلةِ والرافضة والمرجئةِ والقدريّةِ والجهمية والخوارج
والسالمية والكَرّاميّة وبقية الفرق المذمومة».
قال
الفقير عداب: شهادتي لله وبالله أنّ الإمام أحمدَ نفسه مشبّه ومجسّم، وأكثر أهل
الحديث والحنابلة كذلك!
فإذا
هجرنا جميعَ من ذكرهم ابن أبي يعلى في هذا الاعتقاد البغيض؛ فمن بقي من الأمّة لا
يجب هجره؟
قال
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: (لَا يَحِلُّ لمسلم أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ
فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا
وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أخرجه البخاريّ (6077) ومسلم (2560)
من حديث أبي أيوب الأنصاري.
وأخرجه
البخاري (6065) ومسلم (2559) من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه
البخاري (6075) من حديث عائشة.
وأخرجه
مسلم (2561) من حديث عبدالله بن عمر، رضي الله عنهم.
فما
دمتم جميعاً مقلّدين - أيها الإخوة المسلمون - أهل السنة بمذاهبهم، والشيعة
بمذاهبهم، والمعتزلة بمذاهبهم، والإباضيّة؛ أليس الأولى بكم أن تستحيوا على
أنفسكم، وتخجلوا من جهلكم، فتتابعون أحقادَ وضغائنَ أجدادِكم، الذين كانت كتاباتهم
المقيتة هذه سبباً في العداوات المستمرّة بين أمّة الإسلام؟
إنّ
البدعة اجتهاد فكريّ قادَ مجتهداً لأن يقول: القرآن مخلوق، وقاد مجتهداً آخر
ليقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جوانبه وجهاته!
فمن
قال: القرآن مخلوق؛ فهو كافر!
ومن
قال: القرآن قديم؛ فهو مبتدع!
ومن
قال: القرآن بصفته كلام الله تعالى؛ غير مخلوق، أمّا الورق المكتوب الذي نلمسه
بأيدينا ونتلوه بألستنا ونحفظه في صدورنا؛ فهو مخلوق!
من
قال هذا الكلام؛ فهو شرّ من الجهميّة!
ومن
قال: القرآن كلام الله وسكت، ويسمونهم الواقفة؛ فهو شرّ من الجهميّة!
مع
أنّ الله تعالى لم يزد على أنْ قال: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) [التوبة].
أليس
هذا قولَ إمامِ أهل سنّتكم أحمد ابن حنبل، الذي يُحارُ متابعه ليفهم ما يريد، ولن
يفهم!
حتى
قال الإمامُ حسين الكرابيسيّ: «أيشٍ نعمل بهذا الصبيّ - يعني أحمدَ - إنّ قلنا
لفظك بالقرآن مخلوق؛ قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق؛ قال: بدعة!».
انظر
تمام القصّة في تاريخ بغداد (8: 611) والنبلاء (12: 81).
والكرابيسيّ
هذا ليس من عامّة الناس، أو من طلبة العلم، بل قال الذهبيّ في النبلاء: «العَلاَّمَةُ،
فَقِيْهُ بَغْدَادَ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَكَانَ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ،
ذَكِيّاً، فَطِناً، فَصِيْحاً، لَسِناً، تَصَانِيْفُهُ فِي الفُرُوْعِ
وَالأُصُوْلِ تَدُلُّ عَلَى تَبَحُّرِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الإِمَامِ أَحْمَدَ، فَهُجِرَ لِذَلِكَ».
انتبه
أخي القارئ إلى كلمة: «فَهُجِرَ لِذَلِكَ» يعني هجره الرعاع أتباعُ أحمد، الذين
كان الناس يخافون منهم في بغداد، فيظهرون موافقتهم إيّاهم حتى لا يؤذوهم!؟
أعني:
هم مثل داعش والنصرة والقاعدة، ولست أدري من شرٌّ ممّن؟!
قال
الذهبيّ في النبلاء (12: 82): «وَلاَ رَيْبَ أَنَّ مَا ابْتَدَعَهُ
الكَرَابِيْسِيُّ، وَحَرَّرَهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّلَفُّظِ، وَأَنَّهُ مَخْلُوْقٌ؛
هُوَ حَقٌّ، لَكِنْ أَبَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، لِئَلاَّ يُتَذَرَّعَ بِهِ إِلَى
القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ، فَسُدَّ البَابُ؛ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ
تَفْرِزَ التَّلفُّظَ مِنَ المَلْفُوْظِ، الَّذِي هُوَ كَلاَمُ اللهِ إِلاَّ فِي
ذِهْنِكَ».
وهذا
اعتذار بارد من الذهبيّ لأحمد، ويا سبحان الله العظيم!
يقول
الذهبيّ: كلام الكرابيسيّ حقٌّ، ويصفه بالابتداع!
والصحيحُ
أنّ كلام الكرابيسيّ حقّ، وتنطّع أحمد ابن حنبل باطل، يدلّ على جمودٍ بغيض!
رحمهم
الله تعالى أجمعين.
أمّا
مسألةُ الولاء والبراء؛ فمذهبي في هذا؛ موالاةُ جميع من يقول: لا إله إلّا الله
محمّد رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يصدر عنه ناقضٌ متّفق عليه
للشهادتين، ولم يَثبت عنه استحلالٌ لشيءٍ مما حرّم الله تعالى، مثل الزنا والخمر
والربا.
أو
جوّز ترك فريضةٍ من الفرائضِ المجمع عليها، مثل الطهارة والصلاة والصيام والزكاة
والحجّ.
فإن
أتى المسلم بمعصيةٍ كبيرةٍ أو صغيرةٍ، وعلمتُ أنا بها؛ قمتُ بنصحه وكرّرت النصح،
وأبغضتُ ما جاء به من المعاصي، أمّا الهجر؛ فقد يزيده بعداً عن الله تعالى.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد
لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق