مَسائل من التفسير وعلوم القرآن [2023] (1):
آيةُ الوُضوءِ تُفيدُ
الغَسْلَ أم المسح!؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحد الإخوةِ عن الراجحِ من القراءتين في قوله
تعالى: (وأرجلكم).
أهو الجرُّ
(وأرْجُلِكُم) أم النصبُ (وأرْجُلَكُم)؟
أقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
[المائدة: 6].
قال ابن زنجلة في حجّةِ القراءات (ص: 221): «
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَحَفْصٌ (وأَرْجُلَكُم) بِالْفَتْح،
وَقَرَأَ ابنُ كثيرٍ وَأَبو عَمْرو وَحَمْزَةَ وَأَبو بَكرِ بن عيّاش
(وأَرْجُلِكُم) بالخَفضِ، عَطفاً على الرؤوس» ووجّه ابن زنجلةَ ملحظَ الفريقين،
ورجّح الغسلَ.
قال الفقير عداب:
كلتا القراءتين تؤدّي المعنى ذاتَه وهو المَسْحُ،
ولا تحتمل الغَسْلَ أبداً في فهمي!
إذْ إنّ إعراب (اغْسِلُوا) مثل إعراب (امْسَحُوا)
تماماً، فالله تعالى أمرَ بغَسلٍ، وأمر بمسح، والعطف بين الجملتين؛ عطف جُملٍ.
اغسلوا: فعل أمر، وضمير الجماعة هو الفاعل،
والمفعول به (وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ).
وامسحوا فعل أمر، وضمير الجماعة هو الفاعل،
والمفعول به (رُؤوسَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ).
ولا يصحّ عطفُ الأرجل على الأيدي لسببين:
الأوّل: لأنّ العطف يكون على أقربِ مذكور، فتكون معطوفةً على الرؤوسِ، سواءٌ عطفناها على اللفظِ،
أم عطفناها على المحلِّ.
والثاني: لأنّ الباء في (بِرُؤوسِكُمْ) حرف جر زائد
لملحظٍ دلاليٍّ [إرادة بعض الرأس] أو ملحظٍ نحويٍّ [إرادة التوكيد].
ولو عددنا الباءَ هنا حرفَ جرٍّ تامٍّ؛ فقراءةُ الجرِّ
(وأرجلِكم) هي المناسبة للعَطفِ!
ولا أرى إعرابَ الباء حرفَ جرٍّ تامٍّ؛ لاتفاق الجميع على أنّ
مقصودَ الآيةِ الكريمة مَسحُ الرأس، سواءٌ كان مسحُ جميعه واجباً، كما يقول الإمام
مالك، أم كان مسحُ جميعِه إرشاديّاً مستحبّاً، كما يقول أبو حنيفة والجمهور!
وتقديرُ هذا الشطر من الآية (وَامْسَحُوا رُؤوسَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
وقراءة جرّ (وَأَرْجُلِكُمْ) ونصبها (وَأَرْجُلَكُمْ)
كلتاهما من القراءات السبع المتواترة، عند جماهير علماء الأمّة.
وترجيح إحدى القراءتين على الأخرى بعملِ الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لا يُلغي القراءة المتواترة الأخرى بحالٍ، مع أنّ
القراءتين - كما قدّمتُ - لا تفيدان سوى المسح!
وأقول: من العسير جدّاً أن يُرجّح سنيٌّ المسحَ على
الغَسْلِ، أو يرجّح شيعيٌّ الغسلَ على المسحِ، ولو جئت كلّاً منهما بألف دليلٍ،
خاصّةً لأنّ سنّة مخالفةِ أهل البدع؛ يتبنّاها الجميع، والحمد لله على كلّ حال!
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا
بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) [البقرة].
(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)
[الأنعام: 108].
ولا فرق بين فرق المسلمين، وغير المسلمين في هذا
الجانب، فالشافعيّ يعتقد أنّ مخالفيه من الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهريّة
والشيعة والإباضيّة؛ جميعهم على الخطأ، وهو الصوابُ كلّه، والباقون كذلك تماماً!
وما تسمعه من مذهبيي أهل السنة أنّ المذاهب
المعتبرة عندهم؛ هي الأربعة؛ هذا في حدود التنظير؛ لأنّ سلطانهم الغازي الظاهر
بيبرس جعلَ المذاهب أربعةً فحسب!
أمّا عند التطبيق العمليّ؛ فو أتيت الحنفيَّ بعشرةِ
أحاديث صحيحة في قراءة الفاتحة خلفَ الإمام؛ ما قرأها!
ولو أصررتَ على الجهر بالنيّة أمامَ الحنبليّ؛ طلب
من القاضي تعزيرك بما يرعدك عن هذه البدعة السيّئة، أو ينزل بك العقوبة الرادعة،
والله أعلم ما هي!؟
أقول: يجب أن لا نُغفلَ الجانب السياسيّ في الفقه
الإسلاميّ أبداً!
فقد أخرج الطبريّ في التفسير (8: 195) قال: حَدَّثَنَا
حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ (ح).
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي
عَدِيٍّ عَنْ حُمَيْدٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ.
وحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
ثنا ابنُ عُلَيَّةَ قَالَ: ثنا حُمَيْدٌ الطويلُ قَالَ: قَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ
لِأَنَسٍ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ , إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا
بِالْأَهْوَازِ، وَنَحْنُ مَعَهُ , فَذَكَرَ الطُّهُورَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» وَإِنَّهُ
لَيْسَ شَيْءٌ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إِلَى خَبَثِهِ مِنْ قَدَمَيْهِ,
فَاغْسِلُوا بُطُونَهُمَا وَظُهُورَهُمَا وَعَرَاقِيبَهُمَا».
فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ
الْحَجَّاجُ، قَالَ اللَّهُ: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) وهذا
إسنادٌ صحيح، ومعه قصّة أيضاً!
ختاماً: لا يخفى على أحدٍ أنّ أنسَ بن مالكٍ خادم
الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو أكثر الناس ملازمةً للرسول، عند وضوئه!
ولهذا يرى الفقير عداب أنّ القرآن الكريم جاء
بالمسح فحسب، وأنّ غسلَ القدمين جاء في عددٍ من الأحاديثِ الصحيحة عن الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم!
ويُشرَع للمسلم أن يغسل قدميه، أو يمسحهما، لا فرق
بين هذا الفعل وذاك!
لكنْ أيُّهما أفضل؟
بحسب الأحاديثِ التي رواها أهل السنّة، وأعرضوا
عمّا يخالفها؛ فالغَسل أفضلُ لأنهم نقلوا مداومةَ الرسول عليه!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق