مَسائلُ حديثيّةٌ (13):
الفَرقُ بين المتواتر الحديثيّ والأصوليّ!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
بعد المنشور الذي خصصته للشيخ ابن تيمية الحرّاني؛
كتب إليّ قارئٌ يقول: لعلّ الشيخ ابنَ تيميةَ أطلق كلمةَ «المتواتر» بهذه الكثرةِ،
على منهج الأصوليين والفقهاء، وليس على منهج المحدّثين، حبّذا لو أوضحت لنا الفرقَ
بين منهج المحدثين ومنهج الأصوليين في الحديث المتواتر!
أقول وبالله التوفيق: تقدّم في منشوراتٍ متعدّدة؛
أنّ أهل الحديث يقسمونه إلى قسمين: حديث صحيح مقبول، وحديث ضعيف مردود.
والحديث الصحيح مراتب متعدّدة، والحديث الضعيف
أنواع كثيرة، أوصلها ابن حبّان إلى خمسين نوعاً، وشرّها الحديثُ الموضوع.
وهناك من متقدّمي أهل الحديثِ من يقسم الحديث إلى
ثلاثةِ أقسامٍ:
الحديث الصحيح، والحديث الحسن، والحديث الضعيف،
وغدت هذه القسمة هي المعتمدة لدى المصنّفين في علوم الحديث!
وتعريف الحديث الصحيحِ؛ يقعُ على الدرجة الدنيا من
الصحّةِ، وليس كما يفهم من عبارة بعض أهل الحديث!
الحديث الصحيح: هو الحديث الذي يتّصل إسناده من
المصنِّفِ إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بنقل العدل الضابط عن مثله، من
غير شذوذٍ ولا علّة قادحة!
وهذا يعني أنّ مدار الحديثِ هنا على المصنّف ذاته!
فإذا كان شيخُ المصنّف هو المدار؛ فيكون الحديث أقوى!
وإذا كان المدارُ شيخَ شيخِه؛ فهو أقوى!
وإذا كان المدار على التابعيّ الثقة؛ فهو أقوى مما
سبق!
وإذا كان مداره على الصحابيّ، ورواه عنه اثنان
ثقتان؛ فهو العزيز، الذي ارتقى عن كونه غريباً، وإذا رواه عن الصحابيّ ثلاثةٌ؛ فهو
مستفيض، وهو أقوى من جميع ما سبق، إذ لا يخفى أنّ الغرابة والتفرّد علّتان، لكنّ
المحدّثين يقبلان التفرّد تارةً، ويرفضونه أخرى!
هذا أقصى ما يشتغل به المحدّثون!
أمّا الأصوليون؛ فيشتركون مع المحدّثين في ضرورة
اعتماد الإسنادِ في خبر الواحد!
فإذا تعدّدت طرقُ الحديث، وكثرت؛ أسقطوا اعتبار
عدالةِ الراوي وضبطه، واكتفوا عنها بالكثرة مع التوافق بلفظ الحديث أو معناه!
ولنمثّل بحديثٍ متواتر عندي (مَن كنت مولاه؛ فعليّ
مولاه) عليه السلام.
يقول الأصوليون والفقهاء: رواه عن الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلم أكثرُ من ثلاثين صحابياً، منهم عليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي
وقاص، وجابر بن عبدالله، وعمّار بن ياسر، وزيد بن أرقم، وبريدة بن الحصيب،
وعبدالله بن عباس، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ،
وأسامة بن زيد، ومالك بن الحويرث، وغيرهم رضي الله عنهم.
فهؤلاء ثلاثةَ عشر صحابيّا، كلّهم عدولٌ عند
المحدّثين!
ومن البدهيّ أنّ تلامذة هؤلاء؛ ثلاثةَ عشر تابعيّاً
أو أكثر!
وتلامذة التابعين ثلاثة عشر أو أكثر!
وطبقة شيوخ المصنفين ثلاثة عشر أو أكثر!
والمصنفون الذين أخرجوا الحديث أكثر من ثلاثين
مصنّفاً!
- منهم إسماعيل بن جعفر (ت: 180 هـ) في أحاديثه
(471، 472).
- ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة (ت: 235 هـ) في مصنفه
(32072، 32073، 32078، 32091، 32092، 32118، 32132) وهذه أسانيد متنوعة، وليست
إسناداً واحداً.
- ومنهم أحمد ابن حنبل في فضائل الصحابة (959، 989،
991، 992، 1016، 1021، 1048، 1093، 1206).
- وفي مسنده الكبير (641، 950، 961، 1311، 18479،
19279، 19328، 22945، 23107، 23143).
- والبخاري في التاريخ الكبير (290، 694) كما في
تخريج الأحاديث المرفوعة في التاريخ.
- وابن ماجه في السنن (121).
- والترمذيّ في جامعه (3713) وقال: حسن غريب.
- وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2357، 2358).
- وابن أبي عاصم في كتاب السنة له (1354، 1355،
1356، 1357، 1358، 1359، 1360، 1362، 1364، 1365، 1366، 1368، 1369، 1370، 1371،
1372، 1373، 1374، 1375، 1376).
- والبزار في مسنده (4298، 4299، 4334، 4352، 9655،
9659).
وغيرهم وغيرهم كثير!
فهذه الكثرةُ في الطرق، وكثرة المخرّجين للحديث؛ هي منهج الأصوليين والفقهاء
في قَبول الحديث المتواتر.
أمّا المحدّثون فيدرسون إسانيدَ حديث عليّ منفردةً،
وأسانيد حديث سعد بن أبي وقاصٍ على حدتها، وأسانيد حديث زيد بن أرقم عن حدتها،
ويحكمون على كلّ حديثٍ بعينه!
ومع أنّ صنيعَ الشيخ ابن تيمية يدلُّ بوضوحٍ على
اعتماده منهج الأصوليين والفقهاء في استعمال مصطلح التواتر، إلّا أنه يخالف هذا
المنهج تماماً، إذا تعلّق الأمر بفضائل الإمام عليّ عليه السلام!
ففي
رسالة طبعت مفردة من مجموع الفتاوى، تحت عنوان رسالة في الخلفاء الراشدين (ص: 43)
يقول: «وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار).
فهذا الحديث ليس في شيء من الأمهات؛ إلا في الترمذي
وليس فيه إلا: (من كنت مولاه؛ فعليٌّ مولاه» وأما الزيادة فليست في الحديث، وقد
سئل عنها الإمام أحمد فقال: الزيادة كوفية. ولا ريب أنها كذب لوجوه»...
أليس هذا تدليساً وتلبيساً من ابن تيمية على
قرّائه؟
أليس مسند الإمام أحمد ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن
ابن ماجه، وجامع الترمذي، ومسند البزار، وسنن النسائي الكبرى، وغيرها وغيرها، من
الكتب الأصول؟
وقال
بعد قليل (ص: 47): «وأما قوله: (من كنت مولاه؛ فعلي مولاه) فمن علماء الحديث من
طعن فيه، كالبخاريِّ وغيره!
ومنهم
مَن حّسّنه كأحمدَ ابن حنبل والترمذي وغيرهما».
وهذا
كلام باطل، فللحديث عشراتُ الطرق، وربما مئات!
تكلّم
البخاريّ على ثلاثِ طُرقٍ منها!
-
فقد ترجم عمرو بن ذي مُرٍّ الهمْدانيّ في التاريخ (6: 329) وقال:
«عَمْرو
بْن ذي مُرٍّ الهمداني، يُعَدّ في الكوفيين، سمع عليّاً رضي الله عَنْهُ، روى
عَنْهُ أَبُو إِسْحَاق الْهَمَدَانِيّ وحده، لا يعرف».
نقل
كلام البخاريّ هذا العقيليُّ في الضعفاء (1276) ثم قال:
وَمِنْ
حَدِيثِهِ: مَا حَدَّثَنَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّهْمِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُخَوَّلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ الْحُرِّ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرٍو ذِي مُرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ) وَقَدْ رُوِيَ
هَذَا الحَديثُ بِإِسْنَادٍ أَصْلَحَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ».
- وفي ترجمة إسماعيل بن نشيط العامري (1: 375) قال
البخاريّ: « قال لي عُبيدٌ: حدثنا يونسُ «أنه» سمع إسمعيل «يحدث» عَنْ جَمِيلِ
بْنِ عَامِرٍ؛ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ «عمّن» سَمِعَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدَيرِ خُمٍّ: (مَنْ كُنْتُ
مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ) قَالَ أَبُو عَبْداللَّه: «فِي إسناده نظر».
- وفي ترجمة سهم بن حصين الأسديّ (4: 193) ساق
البخاريُّ الحديث ذاته من طريق سهم، ثم قال: «سَهمٌ مَجهولٌ، ولا يُدْرَى» من هو؟!
ولا ريب في أنّ أسانيد الأئمة الذين ذكرناهم؛ لم
تعتمد على هؤلاء المجهولين!
فترْكُ جميع الأسانيد الصحيحة والحسنة المتكاثرة،
وادّعاء أنّ البخاريَّ ضعّف الحديثَ؛ قاده إليه عصبيّته الحنبليّة الإقصائيّة، وكم
يصنع الهوى بأهله!
قال الشيخ ناصر الألبانيّ في سلسلة الأحاديث
الصحيحة (4: 343):
«وللحديث
طرقٌ أخرى كثيرة، جمع طائفةً كبيرة منها الهيثميُّ في مجمع الزوائد (9: 103 - 108).
وقد
ذكرت وخرجت ما تيسّر لي منها، مما يَقطعُ الواقفُ عليها، بعد تحقيق الكلام على أسانيدها
بصحة الحديث يقيناً.
وإلا
فهي كثيرة جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد.
قال
الحافظ ابن حجر: منها صحاحٌ، ومنها حسان.
وجملة
القول أنّ حديثَ الترجمة حديث صحيحٌ بشطرَيه، بل الشطر الأول منه (من كنت مولاه؛
فعليٌّ مولاه) متواتر عنه صلى الله عليه وسلم، كما ظهر لمن تَتبّع أسانيدَه وطرقه،
وما ذكرت منها كفاية».
وقال
بعد قليل (4: 344): «إذا عرفت هذا، فقد كان الدافعُ لتحرير الكلام على الحديث
وبيان صحته؛ أنني رأيت شيخَ الإسلام ابن تيمية، قد ضَعّف الشطر الأول من الحديث.
وأمّا
الشطر الآخر؛ فزعم أنّه كذبٌ، وهذا من مبالغته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تَضعيف
الأحاديثِ قَبلَ أن يجمع طرقها ويدقق النظر فيها، والله المستعان».
وقال فيها أيضاً (5: 264): « هذا كله من بيان شيخ
الإسلام، وهو قوي متين كما ترى، فلا أدري بعد ذلك وجهَ تكذيبه للحديثِ، إلا
التَسَرُّع والمبالغةُ في الرَدّ على الشيعةِ، غَفَر اللهُ لنا وله».
ختاماً: ما دام عمدةُ الوهّابية والسلفيّة
والنواصبِ «الشيخ الألبانيّ» رحمه الله تعالى، حكم على حديثِ الموالاة
بالتواتر؛ فما بنا من حاجةٍ إلى التطويل!
وليس لديّ رغبةٌ في الإساءة إلى الشيخ ابن
تيمية، فقد قرأت كلّ ما هو مطبوع من كتبه مرّاتٍ ومرّاتٍ، وغدوت من أعرف الخلق
بدقائقها وخباياها، ولهذا قيل عني: سلفيّ!
بل إنني جمعت قرابة (500) بطاقةٍ من سائر كتبه،
للردّ عليه، ثمّ لا أدري مصير هذه البطاقات!
واللهُ تَعالى أعْلمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق