مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (3):
سَطوَةُ العَقْل الجَمْعيّ «عَقيّةُ القَطيعِ»!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
إخواني الأحبّة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جمعتكم مباركةٌ، سعيدةٌ في ظلالِ الإسلام العظيم!
أسألُ الله تعالى أن يديم عليكم العافية، وأن
يجنبكم عَوادي هذا الزمان!
حدّثني شيخي الشريف الشهيد مروان بن خالد حديد
الحمويّ، قال:
بعد ثورة عبدالناصر في مصر؛ قويت شوكةُ الاشتراكيين،
وغدت الاشتراكيّة هي الاتّجاه الأقوى بين شباب الأمة عامّةً، والشباب السوريّ على
وجه الخصوص، إذ كانت سوريّا تعاني أشدّ المعاناةِ من ظلم الإقطاعِ، واستئثارهم بخيرات
البلاد، ناهيك عن فساد كثيرين منهم سلوكيّاً وأخلاقيّاً.
فرأى الدكتور الشريف مصطفى السباعي الحسني الحمصيّ أن
يُفهم جيلَ الشباب بمحاسن الإسلام، وإنصافه للطبقات الفقيرة، وأخذه على أيدي
الظالمين المفسدين، فألّف كتابه الشهير «اشتراكيّة الإسلام» الذي استغلّه
عبدالناصر، وطبع منه عشرات الألوف من النسخ، وقيل: أكثر من ذلك، استغلالاً لعنوان
الكتابِ، بعيداً عن مضمونه!
ثار مشايخ سوريا «العلماء كما يسمَّون» وردّ عليه
عددٌ منهم، من بينهم شيخنا الكبير محمد الحامد الحمويّ.
حتى صَعِدَ بعضهم على المنابر، وفنّدوا كلام
الدكتور السباعيّ، وضلّله بعضهم، وفسّقه آخرون!
كان الدكتور السباعي عالماً كبيراً، وشاعراً
أديباً، وهاشميّاً شجاعاً، فماذا صنع مع مشايخ الشام ياترى؟
دعا إلى بيتِه في دمشق كبارَ مشايخِ سوريا، وخاصّةً
الذين ضلّلوه وفسّقوه، حتى اجتمع عنده أربعون شيخاً، وهذا ما أتذكّره!
صنع لهم الدكتور السباعي مشروبَ الشاي الساخن، ونحن
المشايخ مغرمون بالشاي!
وزّع بعضُ طلّابه الشاي على المشايخِ بكؤوس كبيرةٍ،
على عادة المصريين، ووضع جوار كلّ كأس شايٍ صحفةً فيها جزرة نظيفةٌ!
تعجّب الحاضرون من هذه الضيافةِ، إذ لم تجر العادةُ
أن يقدّم مع الشاي الجَزر، إنما يقدّم الناس مع الشاي «البسكويت» أو «الكاتوه»
ونحو ذلك.
فيمَ الدكتور السباعي يحاورهم، وهم يصرخون عليه؛
تبسّم وقال لهم: تفضّلوا!
ثم وضع الجزرةَ في كأس الشاي، ثم أكل منها قطعةً
وشرب على إثرها رشفةً من الشاي، فتابعه جميع المشايخ على ذلك!
ظلّ السباعي على هذه الحال، حتى انتهى المشايخُ من
أكل الجزرة وشرب الشاي!
سأل واحدٌ من أولئك المشايخ الدكتور السباعيَّ عن
هذه البدعة الجديدة «الجزر مع الشاي» ضاحكاً!
فتبسّم الشيخ السباعي وقال لهم: أليست هذه بدعةً
حسنة، هل فيكم أحد لم يأكل جزرته ويشرب كأس شايه؟
فلم يردّ عليه أحد!
قال لهم: يا مشايخنا الكرام: عصرنا يحتاج إلى
مجتهدين، قادرين على عرض الإسلام بصورة عصريّة، وليس بحاجة إلى شيوخ يقلّدون، من
دون أن يسألوا: أمقبولٌ ما نقلّد به أم لا!؟
[سمعت هذه القصّة من سيدي الشهيد مروان مرّاتٍ
عديدة، أوّلها في عام (1964) وآخرها في عام (1974) وهذا مضمونها، لا حروفها،
وأظنّني سمعتها من شيخنا الحامد أيضاً، عليهم جميعاً رحمةُ الله وبركاته].
أيها الإخوة المسلمون:
في المذاهب الإسلاميّة السنيّة والشيعية
والإباضيّة؛ مسائل كثيرةٌ لها في كلّ مذهب حكم واحد، يقال: ليس لهذه المسألة في
مذهبنا سوى قولٍ واحد!
وفي مسائل كثيرة، لها في كلّ مذهب قولان!
وفي مسائل أقلّ، لها في كلّ مذهبٍ ثلاثةُ أقوال!
وفي المذهب المخترعِ للإمام أحمد مسائل، لها عنه
خمسة أقوال، سبعة أقوال، وربما أكثر!
كما في كتاب الإنصاف للمرداوي!
ماذا يعني هذا الكلام؟
هذا الكلام الواقعيّ المزعج يعني أنّ سبع مائة
مليون مسلمٍ من السادة الحنفيّة؛ هم في الحقيقة ثلاثة علماء فحسب!
ونصف مليار من الشافعيّة؛ هم ثلاثة علماء أيضاً!
وأكثر مسلمي إفريقيّة من أتباع المذهب المالكي؛ هم
ثلاثةُ علماء أيضاً!
وهذا يعني أنّ ملياري نسمةٍ من المسلمين قطعانٌ
بشريّة تسير وراء عددٍ يسير من المشايخ!
تماماً مثل «المراييع» الذين في أعناقها أجراسٌ
تقود بها قطعان الأغنام!
هذا هو العقل الجمعيّ، الذي تستطيع إعلاميّة
مصبّغة، لديها شيءٌ من الجمال، وشيءٌ من الدلَع، وشيءٌ من عذوبة الكلام؛ أن تغدو
في شهرٍ واحدةٍ شيخةَ الشباب أجمعين!
علماء المذهب الحنفيّ!
علماء المذهب المالكيّ!
علماء المذهب الشافعيّ!
علماء المذهب الحنبليّ!
علماء المذهب الزيديّ!
علماء المذهب الإسماعيليّ
علماء المذهب الإماميّ!
علماء المذهب الإباضيّ!
علماء إيه ياخويهْ إنت؟! «دولهْ حفّاظ أقاويل،
وليسوا علماء، العالم هو المجتهد وحسب!»
ذهبت مرّةً إلى كليّة العلوم الإسلاميّة بجامعة
بغداد، فوجدت أكثر من عشرة طلّاب مجتمعين حول أستاذٍ قدير شهيرٍ من أساتذة
الكليّة، فوقفت خلفه لأستمع الحوار!
سأله أحد الطلّاب، والله أعلم بنيّته، قال: شيخَنا،
أخرج الإمام أبو داود السجستانيّ من حديث عائشة رضي الله عنها أنّ الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم قال لها في ليلة باردة: ادني مني ياعائشة!
قالت: إني حائض!
فقال: (وإنْ، اكشفي عن فخذيك) فكشفت فخذيَّ، فوضع
خدّه وصدره على فخذي، وحَنيتُ عليه، حتى دفئَ ونام)!
قال الطالب: هل من المعقول أن يضع الرسول خدّه في
ذلك الموضع، ورزوجته حائض!
احتار الأستاذ القدير بماذا يجيبه، ثمّ ختم كلامه
بقوله: «ونت ليه مستغرب هذا الأمر، يصير بين الرجل وامرأته أكثرُ من هذا»!
هنا تدخّلت أنا، وقلت له: أستاذي الفاضل هذا حديثٌ
واه الإسناد، منكر المتن!
أمّا ضعف إسناده؛ ففيه راويان متروكان، وثالثٌ
مجهول!
وأمّا نكارة متنه؛ فليس من كمال ذوق الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم؛ أن يصنع هذا الشيء، وليس من أدب عائشة أن تقول: إنّ الرسول
يستأنس حتى برائحةَ حيضها!
فقال أحد الطلاب: نحن لا يهمّنا تفسيرك هذا، لكن من
هم هؤلاء الرواة؟
قلت لهم: أخشى أن أحدّثكم من الذاكرة، فأخطئ، بعد
ساعةٍ آتيكم بهم على ورقة!
ثمّ دخلت إلى مكتبة الجامعة، وخرّجت الحديثَ بدقّة،
وأعطيته للإستاذ الذي حدّثني أنه قرأ تخريجي على الشُعَب التي درّسها في ذلك اليوم!
العالم: هو المجتهد، ومن ليس بمجتهد؛ فهو من جملة
هذه القطعان، أو هو أحد هذه المراييع التي تقود القطعان! [المراييع: جمع مفرده
مِرياع، وهو الكبش الكبير الذي يتقدم قطيع الأغنام، وهي تتلمّس خطاه].
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق