مَسائلُ حديثيّةٌ (10):
هل أخطأ السخاويُّ على الإمام الشافعيّ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
نقل
أحد أهلِ العِلمِ من السادةِ الحنفيّة أمسِ، عن الإمام السخاويّ، في كتابه فتح
المغيث (1: 350) قولَه: «وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ
بِالْقَبُولِ؛ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ
مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ.
وَلِهَذَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ، فِي حَدِيثِ: (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ):
إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ
بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ».
ولمعرفتي
الأكيدةِ بأصول الإمام الشافعيّ وعلومه؛ علّقت ثمّةَ مباشرةً بأنّ هذا الكلام لا
يقوله الشافعيّ، ربما كان من كلام السخاويّ!
ثمّ
أحببت أن أقف على جليّة الأمر، فتوصّلتُ إلى الآتي:
أوّلاً:
لم يستعمل الشافعيّ جملةَ (تلقّته العامّة بالقبول) أو (تلقّته الأمّة بالقبول) ولا
مرّةً واحدةً في سائرِ كتبه، ولم ينقله عنه الإمام البيهقيّ الذي عُني بعلوم
الشافعيّ أيما عنايةٍ، في أيّ واحدٍ من كتبه أيضاً.
ثانياً:
ليس في كتب أصول الشافعية المطبوعة، ولا في كتب الفقه الشافعيّ كلّها؛ جملة
(تلقّته العامّة بالقبول) والمقصود بالعامّة جماهير علماء الأمّة.
أمّا
جملة (تلقّته الأمّة بالقبول) فقد أورد الإمام الماورديّ الشافعيّ (ت: 450) في
كتابه الحاوي الكبير (9: 204) حديث أبي هريرة (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) من طريقين، ثمّ قال: «هَذَانِ
الْحَدِيثَانِ نَصٌّ وَالثَّانِي أَكْمَلُ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْ
وَاحِدٍ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ،
فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ، فلزم الخوارجَ العملُ به، وإن لم
يلتزموا أَخْبَار الْآحَادِ» انتهى.
وهذا
كلام فقيه، وقد قدّمت بأنّ فقهاء الإسلام عامّةً - من جميع المذاهب - ضعفاءُ في
نقدِ الحديثِ، وللأسف، والماورديُّ منهم!
ثم
وجدتُ الإمامَ العمرانيّ اليمانيّ الشافعيّ (ت: 558 هـ) في كتابه البيان (5: 204)
قال: «رويَ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرخص في بيع العرايا)
فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله».
ثم
وجدت الفقيهَ أبا عمرو ابنَ الصلاح (ت: 643 هـ) قال في الفتاوى (1: 231): «لَا
يجوز الْقِرَاءَة من ذَلِك، إِلَّا بِمَا تَوَاتر نَقله واستفاض، وَتَلَقَّتْهُ
الْأمة بِالْقبُولِ، كهذه «القراءاتِ» السَّبع؛ فَإِن الشَّرْط فِي ذَلِك
الْيَقِينُ وَالقَطْعُ على مَا تقرر فِي الْأُصُول».
هذا
يعني أنّ جملة (تلقّته الأمّة بالقبول) ليست من ثقافة المذهب الشافعيّ، ولا من
معتمداته!
ثالثاً: أوّل من نسب جملةَ (تلقّته العامّة
بالقبول) للإمام الشافعيّ؛ هو الإمام الزركشيّ الأصوليّ الفقيه (ت: 794 هـ) في
كتابه النُكت على علوم الحديث لابن الصلاح (1: 390) إذ قال:
«الثَّالِث:
أَن الحَدِيث الضَّعِيفَ، إِذا تَلَقَّتْهُ الْأمةُ بِالْقبُولِ؛ عُمِلَ بِهِ على
الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّه يُنَزّل منزلَةَ الْمُتَوَاترِ، فِي أَنه يَنْسَخ
الْمَقْطُوعَ بثبوته [لاحظ أخي القارئ، هذا كلام الزركشيّ نفسه].
وَلِهَذَا
قَالَ الشَّافِعِي فِي حَدِيثِ (لَا وَصِيَّة لوَارث) إِنَّه لَا يُثبتهُ أهلُ
الحَدِيث، وَلَكِن الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ، وَعمِلُوا بِهِ، حَتَّى
جَعَلُوهُ نَاسِخاً لآيَة الْوَصِيَّة للْوَارِثِ» انتهى.
فيكون
الإمام السخاويّ (ت: 902 هـ) نقل كلام الزركشيّ، من دون أن ينسبه إليه، كعادةِ
أكثر العلماء!؟
رابعاً: نسبةُ الزركشيِّ هذا الكلامَ كلَّه إلى الشافعيّ؛
خطأٌ محضٌ منه، أو ممّن نقلَ عنه، ولم يميّز كلامَه عن كلامِ الشافعيّ، والصواب ما
يأتي:
1- إنّ الشافعيّ لا يجوّز أن تَنسخَ السنّةُ
القرآنَ، فضلاً عن أن ينسخ الحديث الضعيف القرآن!
قال الشافعي في اختلاف الحديث (ص: 29 - 30) نسخة
الدكتور رفعت فوزي:
«وَالنَّاسِخُ مِنَ الْقُرْآنِ: الْأَمْرُ
يُنْزِلُهُ اللهُ، مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ يُخَالِفُهُ.
كَمَا
حَوَّلَ الْقِبْلَةَ، قَالَ الله تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)
[البقرة: 144].
وَقَالَ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ:
مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة: 142]
وَأَشْبَاهٌ كَثِيرٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
قَالَ الشافعيّ: «وَلَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللهِ،
إِلَّا كِتَابُهُ؛ لِقَوْلِ اللهِ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] وَقَوْلِهِ (وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ؛ قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101].
فَأَبَانَ «اللهُ تعالى» أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَأَبَانَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ
فَرَضَ عَلَى رَسُولِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَقَالَ: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ) [الأنعام: 106] وَشَهِدَ لَهُ بِاتَّبَاعِهِ، فَقَالَ
جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ)
[الشورى: 53] فَأَعْلَمَ اللهُ خَلْقَهُ أَنَّ «الرسولَ» يَهْدِيهِمْ إِلَى
صِرَاطِهِ.
قَالَ الشافعيّ: فَتُقَامُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ
مَعَ كِتَابِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؛ مَقَامَ الْبَيَانِ عَنِ اللهِ عَدَدَ
فَرْضِهِ، كَبَيَانِ مَا أَرَادَ بِمَا أَنْزَلَ عَامًّا: الْعَامَّ أَرَادَ بِهِ،
أَوِ الْخَاصَّ، وَمَا أَنْزَلَ فَرْضًا وَأَدَبًا وَإِبَاحَةً وَإِرْشَادًا.
لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ
يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَعْلَمَ
خَلْقَهُ أَنَّ رَسُولَهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ.
وَلَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ؛ نَاسِخٌ
لِكِتَابِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْسَخُ
الْقُرْآنُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَالسُّنَّةُ تَبَعٌ لِلْقُرْآنِ».
فما استنبطه الزركشيّ من كلام الشافعيّ في أنّ حديث
(لا وصيّة لوارثٍ) نسخ آيةَ الوصايا؛ باطل جزماً.
2- الشافعيّ لم يقلْ أبداً: إنّ حديثَ (لا وصيّةَ
لوارث) لا يثبتُه أهل الحديث، فهذا وهمٌ من الزركشيّ أيضاً، تابعه عليه السخاويُّ!
قال الشافعيّ في رسالته الأصوليّة (ص: 137) نسخة
أحمد شاكر:
«قال
الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا؛ وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ؛
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَاللهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) [البقرة] .
فأنزل
الله ميراثَ الوالِدَيْن، ومَن وَرث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ
الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها، فكانت الآيتان محتملتين:
-
لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا،
فيأخذون بالميراث والوصايا «معاً».
-
وكانت محتملةً بأن تكون «آيةُ» المواريث ناسخةً للوَصَايَا.
فلَمَّا
احتملتْ الآيتان ما وصفنا؛ كان على أهلِ العلم طَلَبُ الدِّلالة من كتاب الله، فما
لم يجدوه نصاً في كتاب الله؛ طَلَبُوه في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه:
فما
قَبِلُوا عن رسول الله؛ فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ «الله عليهم» مِن
طاعته.
ووَجدْنا
أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي، مِنْ قُريش
وغيرهمْ، لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ،
وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ). ويَأْثرونه عَمَّنْ حَفظوا عنه، مِمَّنْ
لَقُوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان
هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّةٍ، وكان أقوى في بعض الأمْرِ مِن نقْلِ واحدٍ عن
واحدٍ، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين [انتبه أخي القارئ].
قال
الشافعيُّ: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه
أنَّ بعضَ رِجاله مجهولٌ، فَرَوَيْناه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُنقطِعاً
[يعني مرسلاً في الاصطلاح].
أخْبَرنا
سفيان بن عيينةَ «المكيّ» عن سليمانَ «بن أبي مسلمٍ» الأحْوَلِ «المكيّ» عن مجاهدِ
«بن جبرٍ المكيّ» أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لاَ وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ).
وإنما
قَبِلْنَاه «مع انقطاعه» بما وَصَفْتُ مِن نقْلِ أهلِ المغازي وإجماعِ العامّة
عليه.
وإن
كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا، وإجماع
الناس.
فاستدللنا
بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ
(لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) على أنَّ «آيةَ» المواريث ناسخة للوصية للوالدين
والزوجةِ، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به» [فآية
المواريث هي الناسخة، والحديث مبيّن].
والذي
جعلَ الزركشيَّ يخطئ في فهم كلام الشافعيّ؛ توهُّمه أنّ قول الشافعيّ:
«رَوَى
بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه «أي: في الباب» أنَّ
بعضَ رِجاله مجهولٌ».
ظنّ
الزركشيّ أنّ هذا الكلام حكمٌ على حديث مجاهدٍ، وهذا خطأً محض، إنما هو حكمٌ على
حديثِ أبي أمامة الشاميّ!
قال أبو داود في سننه (2120): حدّثنا عليُّ بن حُجرٍ «السعديُّ» وهنّادُ «بن
السريّ التميميُّ» قالا: حدّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ
مُسْلِمٍ, عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: (إِنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ) الحديثَ بطوله.
إسماعيل
بن عيّاش: حمصيّ، وشُرحبيل بن مسلم دمشقيّ، وأبو أمامة شاميّ أيضاً.
فهذا
الحديثُ الذي عناه الشافعيّ بقوله: «لا يثبته أهل الحديث» فجعله الزركشيّ حكماً
على حديث مجاهد المكيّ؛ توهّماً من دون شكٍّ، وتابعه السخاويّ على وهمه!
وكأنّ الشافعيَّ يشير إلى أنّ شُرَحبيلَ بن مسلمٍ
الخولانيَّ مجهولٌ!
قال المزيّ في تهذيبه (12: 430): «رَوَى عَنه
إسماعيل بْن عياش (د ت ق) وثور بْن يزيد، وحريز بْن عُثْمَانَ، وأَبُو وهب عُمَر
بْن عبد الرحمن القيسيّ الشاميّون.
ويبدو لي أنّ رواياته التي وصلت إلى الإمام
الشافعيّ؛ كانت من طريق إسماعيل بن عيّاش الحمصيّ، إذ جميع رواياته في مسند أحمد،
وعند أصحاب السنن، من طريق إسماعيلَ عنه، وهو ضعيف عند أهل الحديث، فحكم الشافعيّ
بجهالته، والله تعالى أعلم.
أمّا مسألة تلقّي الأمةِ، أو تلقّي علماءِ الأمةِ،
أو تلقّي عامّة العلماء الحديثَ بالقبول؛ فلم أجد أحداً قالها من محدّثي الحنفيّة
والمالكية والشافعية والحنابلة، حتى انقضاءِ أربعةِ قرونٍ من تاريخ الإسلام!
وأوّل مَن أطلقها ممّن يحسب على المحدّثين؛ هو أبو
عمر بن عبدالبَرِّ (ت: 463 هــ) في كتابيه الاستذكار (2: 471) و(7: 163، 185، 289)
وفي جامع بيان العلم (1: 600) ولم يستعمل شيئاً من هذه المصطلحات في شرح الموطّأ
«التمهيد»!
ووجدت
نصّاً للإمام السمعانيّ الشافعيّ (ت: 489 هـ) في كتابه الانتصار لأصحاب الحديث (ص:
34) نسبه إلى سائر أهل الحديث، فقال: « إِذا صَحَّ الخَبَرُ عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَواهُ الثِّقَاتُ وَالْأَئِمَّةُ، وأسنده خَلفهم عَن
سلفهم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَلَقَّتْهُ الْأمة
بِالْقبُولِ؛ فَإِنَّهُ يُوجب الْعلم فِيمَا سَبيلُه الْعلم.
هَذَا قَول عَامَّة أهلِ الحَدِيثِ والمتقنينَ مِن
القائمين على السّنة».
وكلامُ السمعانيِّ؛ ليس في ساحة الدعوى «تلقي الأمة
الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به».
وجملة
(تلقته الأمّة بالقبول) حنفيّة المنشأ، وأوّل من وقفت عليه ممن استعملوها؛ الإمام
الشاشيّ (ت: 344 هــ ) في كتابه الأصول (ص: 272) قال: «الْمَشْهُور مَا كَانَ
أَوّله كالآحادِ، ثمَّ اشْتهر فِي الْعَصْر الثَّانِي وَالثَّالِث (وَتَلَقَّتْهُ
الْأمة بِالْقبُولِ) فَصَارَ كالمتواتر حَتَّى اتَّصل بك.
وَذَلِكَ
مثل حَدِيث الْمسْح على الْخُفِّ، وَالرَّجمِ فِي بَاب الزِّنَا !
ثمَّ
الْمُتَوَاترُ يُوجب العلمَ الْقطعِيَّ، وَيكون رَدُّه كُفراً.
وَالْمَشْهُور
يُوجب علم الطُّمَأْنِينَةَ، وَيكون رَدُّه بِدعَةً، وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء
فِي لُزُوم الْعَمَل بهما، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْآحَادِ!
فَنَقُولُ:
خَبرُ الْوَاحِدِ: هُوَ مَا نَقله وَاحِدٌ عَن وَاحِدٍ، أَو وَاحِدٌ عَن جمَاعَةٍ،
أَو جمَاعَةٌ عَن وَاحِدٍ، وَلَا عِبْرَة للعَددِ إِذا لم يَبلغْ حَدَّ
الْمَشْهُورِ.
وَخَبرُ
الواحِدِ: يُوجب الْعَمَلَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِشَرْطِ
إِسْلَام الرَّاوِي وعدالته وَضَبطه وعقله، واتصل بك ذَلِك مِن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الشَّرْط»!
قال
الفقير عداب: وكلام الإمام الشاشيّ رائقٌ لا غبار عليه أيضاً، فهذه شروطُ
المحدّثين لصحّة الحديثِ ذاتها، وليس هو في باب المسألة المطروحة «تلقي الأمة
الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به»!؟
خِتاماً:
أنا الفقيرُ إلى الله تعالى أؤمن بالتخصّص:
-
فإذا كانت المسألةُ في ثبوتِ الحديثِ؛ فالعبرةُ بكلام المحدّثين، دون غيرهم، أيّاً
كان هذا الغير!
-
وإذا كانت المسألةُ في القراءات؛ فلا عبرة بقولِ المحدّثين؛ لأنّ ما يتواتر عند
القرّاء؛ قد لا يعرفه المحدّثون غيرُ القرّاء!
ومسألة
«تلقي الأمة الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به» مسألةِ إثباتٍ
للحديثِ، فمردّها إلى أهل الحديثِ، ولا شأنَ للفقهاء بها، وكلامهم وعدمه في
القيمةِ سواء.
-
وكلام الحنفيّةِ حِيالَ هذه المسألةِ؛ يحتاجُ إلى بحثٍ خاصّ، من محدّثٍ محايدٍ؛
لأنّ علماء الحنفيّة ضعفاء في نقد الحديث، قديماً وحديثاً، بَدْءاً من الإمام أبي
حنيفةَ وأبي يوسفَ ومحمد بن الحسن، رحمهم الله تعالى، وإلى يومِنا هذا.
ولذلك
راحَ بعضُ المتأخّرين من علمائهم يخترعون لنا قواعدَ في علوم الحديثِ، وفي الجرح
والتعديل، وفي قَبولِ العَملِ بالحديثِ الضعيفِ؛ ليسوّغوا اجتهاداتِ فقهائهم
المتقدّمين، الذين لا خبرةَ لديهم بنقد الحديث!
ولا
يَغترنَّ أحدٌ بانتشارِ المذهب الحنفيّ، أكثرَ من أيِّ مذهبٍ آخر في العالم
الإسلاميّ، فقد ظلّت السلطنةُ العثمانيّة تحكم العالم الإسلاميَّ أكثر من أربعة
قرون، كان المذهبُ الحنفيُّ فيها المذهبَ الرسميَّ للدولةِ، والناس على دين
ملوكهم!
واللهُ تَعالى
أعْلمُ
(رَبَّنا:
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى
الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على
كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق