التَصَوُّفُ العَليمُ (19):
تَوبةُ مالكِ بن دينارٍ الزاهد (ت: 131 هـ)!؟
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قصّت عليّ بنتي قصّة توبةِ الإمام مالك بن دينارٍ
رضي االله عنه، ثمّ سألتني: هل هذه القصة صحيحة؟
وإذْ إنني غدوتُ أنسى كثيراً، ولم أتذكّر شيئاً عن
القصّة؛ قلت لها: لا أظنّ هذه القصّةَ صحيحةً، لكن سأبحث لك عنها، وأوافيك
بالجواب!
أقول وبالله التوفيق:
وجدت في كتاب التوّابين لابن قدامة المقدسيّ (ص:
124) وفي كتاب الزواجر عن اقترافِ الكبائر لأحمد ابن حجَر الهيتميّ المكيّ (1:
269) وفي موسوعة الأخلاق والزهد لياسر عبدالرحمن «معاصر» (1: 28) أنّ توبةَ مالك
بن دينارٍ؛ كانت على النحو الآتي:
قال
ابن قدامة: «ورُوي عن مالك بن دينار أنّه سُئِل عن سبب توبته فقال:
كنتُ
شُرَطيّاً، وكنت منهمكاً على شُرب الخمر، ثم إنني اشتريت جارية نفيسةً ووقعت مني أحسن
موقعٍ، فولدت لي بنتاً، فشغفت بها، فلما دَبّت على الأرض ازدادت في قلبي حبّاً،
وألِفَتْني وألِفْتُها.
فكنتُ
إذا وضعتُ المُسْكِر بين يَديَّ؛ جاءت إلي وجاذبتني عليه، وهَرَقَتْه على ثوبي.
فلما تَمّ لها سنتان؛ ماتت؛ فأكمدني موتها حزناً.
فلما كانت ليلةُ النِصف من شعبان، وكانت ليلةَ
الجُمعةِ؛ بِتُّ ثَمِلاً من الخمر، ولم أُصَلِّ فيها عِشاءَ الآخرة!
فرأيت فيما يرى النائم كأنَّ القيامةَ قد قامت،
ونُفِخ في الصورِ، وبُعْثِرت القُبورُ، وحُشِرَ الخلائقُ وأنا معهم.
فسمعتُ حِسّاً مِن ورائي، فالتَفَتُّ، فإذا أنا بتنّينٍ
أعظمَ ما يكون أسودَ أزرقَ، قد فتح فاه مُسرعاً نحوي.
فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً مَرعوباً، فمررت في
طريقي بشيخٍ نَقِيِّ الثوبِ، طيّبِ الرائحةِ، فسلّمت عليه، فرَدّ السلامَ، فقلتُ:
أيها الشيخ، أجرني من هذا التنين، أجارك الله!
فبكى الشيخُ، وقال لي: أنا ضَعيفٌ، وهذا أقوى مني،
وما أقدر عليه، ولكن مُرَّ وأسرعْ، فلعلّ اللهَ أن يُتيحَ لك ما يُنجيك مِنه.
فولّيت هارباً على وجهي، فصعِدتُ على شُرُفٍ مِن شُرَفِ
القيامةِ، فأشرفت على طبقاتِ النيرانِ، فنظرتُ إلى هَولها، وكدتُ أهوي فيها، فزعاً
من التنين!
فصاحَ بي صائح: ارْجِع، فلستَ مِن أهلها، فاطمأننتُ
إلى قوله، ورَجَعت!
ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ
سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف ولكن سر إلى
هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك.
قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كُوىً مُخرّمةٌ
وستورٌ معلّقة.
على كل خَوخة وكوّة مصراعان من الذهب الأحمر، مفصلة
باليواقيت، مكوكبة بالدُّرّ
على كلّ مِصراعٍ ستر من الحرير.
فلمّا نظرت إلى الجبلِ؛ وليت إليه هارباً، والتنّين
من ورائي، حتى إذا قربت منه؛ صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع
وأشرفوا، فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه.
فإذا الستور قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرف عليَّ
مِن تلك المخرمات أطفالٌ بوجوه كالأقمار، وقَرُب التِنين منّي، فتحيرت في أمري.
فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلُّكم، فقد قَرُب
منه عدوه.
فأشرفوا فوجاً بعد فوج، وإذا أنا بابنتي التي ماتت
قد أشرفت عليَّ معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله!
ثم وَثبت في كفة من نورٍ، كرِمْيَةِ السَهم، حتى مَثُلَت
بين يَديّ، فمدّت يدَها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلّقت بها، ومدّت يدها اليمنى
إلى التنين فولّى هارباً.
ثم أجلستني، وقعدت في حجري، وضربت بيدها اليمنى إلى
لحيتي، وقالت:
يا أبت (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ [الحديد: 16] .
فبكِيتُ وقلت: يا بُنيةُ، وأنتم تَعرفون القرآن؟
فقالت: يا أبت، نحن أعرف به منكم.
قلت: فأخبريني عن التِنّين الذي أراد أن يُهلكَني؟
قالت: ذلك عملك السوء قَوّيتَه فأراد أن يُغرقَك في نارِ جهنم.
قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مَررتُ به في طريقي؟
قالت: يا أبت، ذلك عملك الصالحُ، أضعفتَه، حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء.
قلت: يا بنية! وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن
أطفال المسلمين، قد أُسكنّا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع
لكم.
قال مالكُ بنُ دينارٍ: فانتبهتُ فزِعاً، وأصبحتُ
فأَرَقْتُ المُسكِرَ وكسرتُ الآنيةَ، وتُبتُ إلى اللهِ عزّ وجلَّ، وهذا كان سبب
توبتي».
قال عداب تاب الله عليه: قصّة حزينةٌ مؤثّرةٌ،
بكيتُ غيرَ مرّةٍ، وأنا أقرؤها!
لكنْ ما صحّة نسبتها إلى الإمامِ العالم الزاهد
العابد الحكيم، مالك بن دينار؟
أوّلاً: عندنا كتبٌ مسندةٌ كثيرةٌ، أوردت كثيراً من
أخبار مالك بن دينار، من مثل:
- كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك (ت: 181 هـ)
- كتاب الزهد لأسد بن موسى (ت: 212 هـ).
- كتاب الزهد لأحمد بن حنبل (ت: 241 هـ).
- كتاب الزهد لأبي حاتم الرازي (ت: 277).
- كتاب الزهد والزاهدين لابن الأعرابيّ (ت: 340 هـ).
- كتاب الزهد الكبير للبيهقي (ت: 458 هـ) وغيرها
كثير!
ثانياً:
الكتب التي ترجمت لمالك بن دينار؛ كثيرةٌ جدّاً أيضاً، منها:
- طبقات ابن سعد (7: 180).
- طبقات خليفة بن خياط (1792).
- تاريخ البخاري الأوسط (1526).
- تاريخ البخاري الكبير (1321) ونصّ على أنّه كان
حارس عمر بن عبدالعزيز.
- الثقات للعجلي (1523).
- المعرفة والتاريخ للفسوي (2: 96).
- تاريخ الطبري (11: 646).
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (916).
- الثقات لابن حبّان (5: 383) وقال: «مَالك بن
دِينَار، مولى لبني نَاجِية بن سامة بْن لؤَي بْن غَالب الْقرشِي كنيته أَبُو يحيى
من أهل الْبَصْرَة.
يروي عَن أنس بن مَالك، وَكَانَ من زهاد
التَّابِعين والأخيار وَالصَّالِحِينَ، كَانَ يكْتب الْمَصَاحِف بِالْأُجْرَةِ
ويتقوت بأجرته، وَكَانَ يجانب الإباحات جهده، وَلَا يَأْكُل شَيْئا من
الطَّيِّبَات، وَكَانَ من المتَعَبِّدَةِ الصُّبُر، والمتقشفة الخُشُن.
مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَيُقَال سنة
ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَيُقَال سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَقد قيل: سنة
سبع وَعشْرين وَمِائَة، وَالصَّحِيح أَنه مَاتَ قبل الطَّاعُون وَكَانَ الطَّاعُون
سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة».
- وحلية الأولياء لأبي نعيم (2: 357).
وكثيرون غير هؤلاء، ترجموا لمالك بن دينارٍ، ولم
يذكروا هذه القصةَ العاريةَ عن الإسناد.
قال الذهبيّ في النبلاء (5: 362): «عَلَمُ
العُلَمَاءِ الأَبْرَارِ، مَعْدُوْدٌ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِيْنَ، وَمِنْ
أَعْيَانِ كَتبَةِ المَصَاحِفِ، كَانَ مِنْ ذَلِكَ بُلْغتُهُ».
ولعلّ ابنَ قدامةَ العالم الكبيرَ، إنّما روى هذه
القصّةَ العجيبةَ؛ لشاهد التوبةِ الغريبة الذي فيها.
وعلماؤنا من غير المحدّثين؛ تعنيهم العبرةُ من
القصّة، أمّا التفتيش عن الأسانيدِ؛ فليس من اهتماماتهم، وللأسف!
ختاماً: كان مالك بن دينار، كما وصفه ابن حبّان،
وكما وصفه الذهبيّ، وكان حارسَ عمر بن عبدالعزيز، ومِن المُحال أن يَقبل عمرُ بن
عبدالعزيز بحارسٍ سكّير، إنما جمع حوله خيارَ التابعين وأتباعهم.
وقد روَى مالكٌ الحديثَ أيضاً، لكنّ أكثرَ رواياتِه
موقوفةٌ على الصحابةِ، ومقطوعةٌ على التابعين، ورواياته غير المرفوعة هذه تزيد على
(250) رواية.
وكان له اختيارٌ في القراءات، نقلها عنه أصحاب كتب
الرواية؟
واللهُ تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق