مَسائلُ حَديثيّةٌ (54):
قصّةُ حاطِبِ بن أبي بلتَعَةَ !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحد الإخوة الأكارم عن صحّةِ قصّةِ حاطبِ بن
أبي بلتعة، وهل هي واقعةُ حالٍ، أو يحقّ للحاكم المسلم أن يعفوَ عن الجاسوس أو
الخائن؟
بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الجهاد من
صحيحه، باب الجاسوس (3007) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِالله
«المدينيّ»: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ «بن عيينة»: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ «بن
عليّ بن أبي طالبٍ» قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ،
قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً،
وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا
حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا
أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا:
لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ
عِقَاصِها.
فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: «مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى
أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا)؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ،
إِنِّي كُنْتُ امْرَءاً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا،
وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ
بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ
النَّسَبِ فِيهِمْ؛ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً، يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي،
وَمَا فَعَلْتُ كُفْراً، وَلاَ ارْتِدَاداً، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ
الإِسْلاَمِ!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ)!
قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ
عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ!
قَالَ رَسُولُ اللهِ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً،
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ رَسُولُ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ
بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)
قَالَ سُفْيَانُ «بن عيينة»: وَأَيُّ إِسْنَادٍ
هَذَا !» تعجّباً من جلالته وثقةِ رواته!
قال الفقير عداب:
مدار حديثِ الباب على الإمامِ عليّ، عليه السلام،
رواه عنه:
عبدالله بن حبيبٍ أبو عبدالرحمن السلميّ المقرئ،
عند البخاري (3081، 6259) ومسلم (2494).
وعُبيدالله بن أبي رافعٍ، عند البخاريّ (3007، 4890)
ومسلم (2494).
وللحديث شاهدٌ من حديثِ جابر بن عبدالله؛ أخرجه
مسلم في صحيحه (2495) وأحمد في مسنده (14774) والترمذيّ (3864) وقال: حديث حسن
صحيح.
وله شاهدٌ آخر من حديثِ أبي هريرة، عند أحمد (7941)
والدارميّ (2761) وأبي داود (4654) وغيرهم.
والحديثُ يحتملُ من التخريج أكثرَ ممّا ذكرتُه،
لكنْ ما دام الحديثُ صحيحاً؛ فلا حاجة بنا إلى التطويل.
قال
أبو الحسن بنُ بطّال (ت: 449 هـ) في شرحه على صحيح البخاريّ (5: 162): «قال الطبريُّ:
فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقهِ؛ أن الإمام إذا ظهر مِنْ رَجلٍ من أهلِ الستر
على أنّه قد كاتب عَدواً من المشركين، يُنذرهُم ببعضِ ما أَسرَّه المسلمون فيهم، مِن
عَزْمٍ، ولم يَكن الكاتبُ مَعروفاً بالسَفَه والغِشِّ للإسلام وأهله، وكان ذلك مِن
فِعلِه هَفوةً وزَلّةً، مِن غيرِ أنْ يَكون لها أخوات؛ فجائزٌ العفوُ عنه كما فعله
الرسول بحاطب من عفوه عن جُرمِه، بعدما اطّلَع عليه من فعله.
وهذا
نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال: فإنْ ظَنَّ ظانٌ أنّ صفحه صلى
الله عليه وسلم إنما كان لما أعْلَمَه اللهُ مِن صِدقِه، ولا يَجوز لمَن بَعدَ
الرسول أن يَعلمَ ذلك؛ فقد ظن خَطأً؛ لأنّ أحكام الله فى عباده، إنّما تجري على ما
ظَهَر منهم.
وقد
أخبرَ اللهُ نبيَّه عن المنافقين الذين كانوا بين ظَهرانَي أصحابه مُقيمين، مُعتقدين
الكفرَ، وعرّفه إيّاهم بأعيانهم، ثم لم يُبِحْ له قتلُهم وسبيُهم، إذْ كانوا يُظهرون
الإسلام بألسنتهم!
فكذلك
الحكمُ في كلِّ أحدٍ مِن خَلقِ اللهِ أنْ يُؤخَذَ بما أظَهرَ، لا بما أبطن».
وقال
أيضاً (5: 163): « وفيه جوازُ العَفوِ عن الخائنِ للهِ ورسولهِ في تَجَسُّسٍ، أو غَيرِه».
وقال
أبو عبدالله المازريّ (ت: 536 هـ) في كتابه المعلِم بشرح صحيح مسلم (3: 281): «اختلفَ
المذهبُ «المالكيّ» في المسلم، يُطَّلَع عليه
أنّه جاسوس على المسلمين!
فقال
مالك: يجَتَهِد فِيه الإمام.
وقال
ابنُ وهب: يُقتَلُ، إلاَّ أن يَتوبَ.
وقال
ابن القاسم: يُقتلُ، ولا أعرفُ له توبةً.
وفرَّق
عبدُالملكِ «بن حبيب، صاحب الواضحة» بَينَ مَن عُرفَ
بالغَفلَةِ، وكانت منه مَرّةً، وليس من أهل الطّعن على أهلِ الإسلام، وبين المُعتادِ
لذلك، فَقَتَلَ مَن اعتاد ذلك وَنُكّلَ الآخر.
وقال
سُحنون: قال بعض أصحابنا: يُجلدُ جَلداً، مُنَكَّلاً، ويُطالُ حَبْسُه وَينفَى مِن
مَوضع يَقرُب فيه مِن المشركين.
واختار
بعض شيوخنا اعتبارَ ما كان عن فعلِه:
-
فإنْ قُتِل المسلمون بفعلِه، ولولاه لم يقتلوا؛ قُتِل، وإنْ لم يُقْتَلوا عوقِب.
وإنْ
خُشِيَ أن يعود لمثلها؛ خُلِّد في السِّجن.
ومَذهبُ
الشّافعي التّجافي عَن ذِي الهيئة غيرِ المُتَّهم، الفاعل ذلك بجهالةٍ.
ويُحتَجُّ
في مثل هذه الصورة بحديث حاطِبِ.
ولعلّ
مَن أمَر بقتله من أصحابنا؛ رآه كالمحاربِ، الذي طال أمرُه، وأراقَ الدِّمَاءَ،
لعظم ضرر هذا بالمسلمين، فَيُقتَل إلاّ أن يتوب.
ومَن
لم يُثْبتْ التوبةَ له؛ يَراه كالزنديق والساحرِ، لماّ كانا مُسرَّين لفعلِهما؛ لم
تُقبَل توبتُهما فكذلك هذا لمَّاَ كان مُسِرّاً لفعله.
ومَن
لم يَر قتلَهم واقتصر على التَّنكيلِ؛ لم يَره كالمحارب؛ لأنّه لم يباشرِ الفِعلَ،
وإنما صار كالمُغْري بذلكَ، أو الآمرِ بذلك مَن لاَ تلزمُه طاعتُه، فلا يَستوجب
القَتلَ.
ومَن
فرّق بين المعتاد وغيره؛ رأى أنّه باعتياده يَعظم جرمُه، ويَشتَدّ ضررُه فَيَحسن
قياسُه عَلىَ المحَارِبِ، وإذا كانت منه الفَلتةُ؛ لم يَحْسُنْ قِياسُه على
المحارب».
والذي
يَظهرُ لي أنّ حديث حاطبٍ، لا يَستقلُّ حُجةً فيما نحن فيه؛ لأِنّه اعتذر عن نفسه
بالعذر الذي ذَكر فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صَدَق) فقطع على صِدقِ حاطبٍ
لتَصديقِ النبيّ صلى الله عليه وسلم له، وغيرُه مِمّن يَتجسَّسُ؛ لا يُقطَع على سَلامةِ
باطنِهِ، ولا يُتيقن صِدقُه فيما يَعتذرُ به، فصار ما وَقع في الحديث قَضيّةً مَقصورةً،
لا تَجري فيما سِوَاها، إذ لا يُعْلَم الصِدقُ فيه، كما علم فيها».
ختاماً:
حديث خيانةِ حاطبِ بن أبي بلتعة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ صحيحةٌ، وعَفوُ رسولِ الله
صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه؛ واقعة حالٍ، ولا يصحّ تعميمُ مثل هذا الحكم في كلّ
خائنٍ، له سوابقُ حسنة، وإلّا كثرت الخيانةُ في ذوي الهيئاتِ!
وللحاكم
الشرعيِّ أن يختارَ الأصلحَ في حقّه، وفي حقّ الأمّةِ.
فإنْ
رأى الحاكم الشرعي أن يقتله؛ فله ذلك.
وإن
رأى أن يسجنه؛ فله ذلك.
وإن
رأى أن يضربه حدَّ الفِريةِ تعزيراً؛ فله ذلك.
وإن
أراد أن يعفو عنه عفواً تامّاً؛ فله ذلك، وإن كنت لا أختارُ هذا الرأيَ في عصرنا
الذي كثر فيه الفسادُ وقلّة الدين.
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق