مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (13):
كيفَ تَكون حادثةُ الإفكِ
خيراً للمسلمين ؟!
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ
الرَحيمِ
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
في حوارِ مع أحدِ الإخوةِ الكرام؛ قال لي: يتعين
عليك يا شيخ عداب؛ أن تجمع الآياتِ التي يُشكل فهمها على كثيرٍ من الناس، وتعالجها
معالجةً ميسَّرةً، يفهمها سائرُ الناس، في منشوراتٍ متواليةٍ، غيرَ متباعدةِ
الزمن، ثمّ تجمع في كتابٍ يستفيد منه من شاء الله تعالى له الاستفادة.
قلت له: مَثّل لي بآيةٍ مشكلةٍ الفهم عندك أنت،
وليس لدى عامّة الناس؟
فقال: مثل قول الله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ؛ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ!
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
[النور].
كيف يكون هذا الاتّهام الكاذبُ، الذي عكّر قلبَ
الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقلوبَ أبي بكرٍ وأسرته، وقلوب المؤمنين
جميعاً وآذاهم وأحزنهم، كيف يكون خيراً للمؤمنين؟
كيف يكون خيراً للمؤمنين، ولا تزال طائفةٌ من
المسلمين يرمون أمّ المؤمنين بالفاحشة، بشبهاتٍ قامت لديهم، سببها هذا الإفكُ
الخبيث»؟
أقول وبالله التوفيق:
الإِفكُ المقصودُ في الآيةِ الكريمةِ؛ هو اتّهامُ
بعضِ المنافقين وبعضِ الصحابةِ أمَّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها بالفجور.
ولكي نفهم كيف تكون هذه التهمةُ خيراً للمؤمنين،
وشرّاً للمنافقين؛ عليها أن نفهم الآية منفردةً، ثمّ نفهمها في ضوء ما سيقت فيه من
آياتٍ!
أوّلاً: هذه الآية الكريمةُ حوتْ جملةً من المواقف
والأحكام على النحو الآتي:
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ؛ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ)...(لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).
فهم جماعةٌ من مجتمع الصحابةِ، فيهم حسّانُ بن
ثابتٍ، ومِسْطَحُ بن أثاثةَ، وحَمْنةُ بنت جحشٍ، وغيرهم.
فهؤلاء من المسلمين، والمسلم ليس معصوماً عن قذف
أخيه المسلم - وإن كان محرّماً عليه قذفُه - ومتى ثبت أنه قذفه؛ أقيم عليه حدّ
القذف!
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
فمن تاب منهم؛ كان هذا الحدُّ كفّارةً لإثمه.
(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ
عَذَابٌ عَظِيمٌ).
والذي عُني بإشاعةِ الإفك، وحرّض غيره عليه؛ له
عذابٌ عظيم!
وقد وردت جملةُ (عَذَابٌ عَظِيمٌ) في القرآن العظيم
أربعَ عشرةَ مرّةً، جميعها يشير إلى عذابِ الآخرة.
وفي هذا إشارةٌ إلى المنافق عبدالله بن أُبيّ بن
سلول؛ لأنّه كان من المسلمين في الظاهر، لكنه منافق في الباطن، ومن مات منافقاً؛
فهو من أهل النار!
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
مِنَ النَّارِ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) [النساء].
والآن يأتي قول الله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ
شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بياناً بأنّ ما ظاهره الشرُّ؛ قد يكون هو
الخيرَ في المآل، أو يكون ظاهرُه الشرَّ، وباطنه هو الخيرَ المحض!
قال الله تعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ.
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
وَاللهُ يَعْلَمُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(216) [البقرة].
(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا
كَثِيرًا (19) [النساء].
وهذا يعني أنّ الله تعالى أعلم بمآلات الأمور، وعلى المؤمن أن يسعى إلى الخير والطاعات، فإن أصابه ما ظاهره الشرّ والسوء؛ فعليه الصبرُ الجميل، حتى تظهر له المآلات، أو يصبرَ حتى ينالَ رضا الله تعالى في الآخرة.
فالدنيا بالنسبة إلى الآخرة؛ لا شيء، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) !
قال أبو بكر ابن العربي المالكي في أحكام القرآن (3:
363):
« قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ
الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ؛ مَا
زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ.
وَأَنَّ خَيْراً لَا شَرَّ فِيهِ؛ هُوَ الْجَنَّةُ،
وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ؛ هُوَ جَهَنَّمُ!
وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى
الْأَوْلِيَاءِ خَيْراً؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنْ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا،
وَخَيْرُهُ - وَهُوَ الثَّوَابُ -كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ.
فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ
مَاثَلَهَا، مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ حَدِيثِ الإفكِ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ
مِنْهُ ليس بشَرٍّ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ، عَلَى مَا وَضَعَ اللهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ
عَلَيْهِ فِي الدُّنْيا، مِنْ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ،
وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ
الشَّرِّ».
وبعضَ هذا الكلام قال الطبري والجصّاص والماوردي
والرازي، وغيرهم.
أمّا الإمامُ القشيريُّ الصوفيّ؛ فكلامُه في مقامٍ
آخر، مختلفٍ تماماً عن كلام ابن العربي!
قال في لطائفه (2: 596): «بيّن اللهُ سبحانَه أنه
لا يُخلي أحداً مِن المحنة والبلاء في المحبة والولاء، فالامتحانُ مِن أقوى أركانه
وأعظم برهانِه وأصدق بيانه!
قال الله تعالى:
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2). وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ (3) [العنكبوت].
كذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أَشَدُّ
النَّاسِ بَلَاءً؛ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى
الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ.
فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً؛ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ،
وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ.
فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى
يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) أخرجه جمع من
المصنفين، منهم أحمد والدارميّ وابن ماجه، والترمذيّ في جامعه (2398) وقال: «هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
ويقال:
إنّ اللهَ سبحانه؛ غيور على قُلوبِ خَواصِّ عبادِه، فإذا حَصلت مُساكنةُ بعضٍ إلى
بعضٍ؛ يُجري اللهُ ما يَردّ كلَّ واحدٍ منهم عن صاحبه، فيردّه إلى نفسه!
وإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمّا قيل له: أيُّ
الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة!
فأجرى
اللهُ حديثَ الإفك، حتى ردّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها إلى الله، وردّ
قلب عائشة عنه إلى الله!
حيثُ
قالت لمّا ظهرتْ براءةُ ساحتها: «بحمد اللهِ، لا بحمدك»!
ويقال:
إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسةَ المؤمن؛ فإنّ المؤمن ينظر بنور
الله) مَرويٌّ عن عبدالله بن عمر، وأبي سعيدٍ الخدريّ، وعن أبي أمامةَ، وسأفرد
لهذا الحديثِ منشوراً خاصّاً.
فإذا كانت الفراسةُ صفةَ المؤمن؛ فأولى الناس
بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لَم تَظهر له بحكم الفِراسةِ براءةُ
ساحتها، حتى كان يقول: (إنْ كنت فعلتِ شيئاً؛ فتوبي).
والسبب في ذلك؛ أنّه فى أوقات البلاءِ، يَسدّ اللهُ
على أوليائه عيونَ الفِراسةِ، إكمالا للبلاء» انتهى كلامه بتصرّف يسير ببعض
الألفاظ لتُفهَم.
أمّا ما يتعلّق ببعض المسلمين الذين ما يزالون
يتّهمون عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فهم أفرادٌ سفهاءُ أوغاد، ينتسبون إلى الشيعة
الإماميّةِ، من أمثال ياسر الحبيب، وأمير القريشي، وقليلين غيرِهم في عصرنا، عليهم
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين!
وهم إنما استندوا إلى رواية في تفسير القُميّ «أنّ
عائشة زوّجت نفسها من طلحة بن عبيدالله، في طريقهم إلى البصرة، وأنّ المهدي
المزعوم، سيخرجها من قبرها ويحييها، ثم يقيم عليها حدَّ الزنا؛ لأنه محرّم عليها
الزواج بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقد بيّنت في منشور سابق أنّ السيد محمد رضا
السيستاني أوضح بأنّ هذا التفسير غير ثابتِ النسبة إلى القميّ، وأنه لا يُعتمَد
عليه في قَبول الروايات!
وبتبنّي مثل هذه الفريةِ التي أبطلها الله تعالى؛
يتبيّنُ أنّ هؤلاء من أتباع عبدالله بن أُبيّ بن سلول، زعيم المنافقين في العهد
النبويّ.
أمّا مذهب الشيعة الإماميّة؛ فخلاصته أنّ الله
تعالى عصمَ جميعَ زوجات الأنبياءِ عليهم السلام، من ارتكاب فاحشةِ الزنا.
بل إنّ كثيراً من علماء الشيعة، لا يرون أنّ هذه
الآياتِ نازلةٌ في براءة عائشة، إنما هي في براءة مارية القبطيّة أمّ «إبراهيم بن
الرسول» صلى الله عليه وآله وسلّم.
قال
السيّد الطباطبائيُّ في الميزان (15: 45): «الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى
أهلُ السنّة أنّ المقذوفةَ في قصّة الإفك؛ هي أم المؤمنين عائشة، وروت الشيعةُ
أنّها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم و كلٌّ مِن الحديثين لا يخلو عن شيءٍ، على ما سيجيء في البحث
الروائي الآتي».
وقال السيّد الطباطبائيُّ في موضع آخر من الميزان
(15: 52): «إنّ تَسرب الفَحشاءِ إلى أهل النَبيِّ؛ يُنفّر القلوبَ عنه.
فمن الواجبِ أن يُطهّر اللهُ سبحانه ساحةَ أزواجِ
الأنبياءِ عن لوثِ الزنا والفحشاءِ، وإلّا لَغَت الدعوةُ.
وتثبت بهذه الحجّة العقليةِ عفتُهُنّ واقعاً، لا
ظاهراً فحسب، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم أعرفُ بهذه الحجة منّا، فكيف جاز
له أن يرتاب في أمر أهلِه، برمْيٍ مِن رامٍ، أو شيوعٍ مِن إفك» كما تقول الروايات؟
ختاماً: إنّ الخيرةَ فيما اختاره الله تعالى، وممّا
اختاره جلّ وعزّ اختبار المؤمنين وابتلاؤهم بالأمراض النفسيةِ والجسمية
والاجتماعيّة؛ ليختبر صبرهم وصدقهم وإيثارَهم الآخرة على الأولى.
ولو لم تكن حادثةُ الإفك هذه؛ لما نالت أمّ
المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها شرفَ إكرامِ الله تعالى بإنزاله في حقّها قرآناً
يتلى إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.
ومن الخير للمجتمع؛ ظهور عددٍ من المنافقين وضعاف
النفوسِ، ممن لا ينظرون بتعظيم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا
يوقّرون نساءَه أمهات المؤمنين، عرفهم المسلمون بعد هذه الحادثة.
ومن الخير أن يتنبَّه المجتمعُ المسلم إلى خطورةِ
شيوع ظاهرة القذف بين الناس.
ومن الخير في هذا الاتّهام؛ أن لا يتشكك المسلم
الصالحُ، إذا ابتلي ببعضِ الابتلاءات الصعبةِ!
والله
تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق