مَسائلُ حَديثيّةٌ (49):
حَديثُ الثَقَلين (1)!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
وممّا اتَّهمَ به ذاك الصحفيّ الغبيُّ الحاكمَ
النيسابوريّ أنّه وضع حديثَ الثقلين، الذي يجعل كلام عليٍّ أو الحسن أو الحسين
مثلَ كلام الله تعالى، وأهمَّ من كلام الله في بعض الأحيان، بفهم سقيم لئيمٍ لجملة
(أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَعِتْرَتِي)!
بإسنادي إلى الإمام الحافظ أبي عبدالله محمد بن
عبدالله بن محمد النيسابوريّ القاضي (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك (4576) قال
رحمه الله تعالى:
- حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ الْحَنْظَلِيُّ، بِبَغْدَادَ: حدّثنا أَبُو قِلَابَةَ
عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيُّ: حدّثنا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ.
- وقال الحاكم: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ بَالَوَيْهِ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَزَّارُ
قَالَا: ثنا عَبْدُاللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنِي أَبِي: حدّثنا
يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ.
- وقال الحاكم أيضاً: وَحدّثَنَا أَبُو نَصْرِ
أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ، بِبُخَارَى: حدّثنا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ: حدّثنا خَلَفُ بْنُ سَالِمٍ الْمُخَرِّمِيُّ: حدّثنا
يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ: حدّثنا أَبُو عَوَانَةَ الوَضّاحُ عَنْ سُلَيْمَانَ
الْأَعْمَشِ قَالَ: حدّثنا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ؛
أَمَرَ بِدَوْحَاتٍ فَقُمِنَّ، فَقَالَ: (كَأَنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ،
إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ،
كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَعِتْرَتِي،
فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى
يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ).
ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْلَايَ،
وَأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ).
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
فَقَالَ: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ؛ فَهَذَا وَلِيُّهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ
وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
قال أبو عبدالله الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِطُولِهِ، شَاهِدُهُ حَدِيثُ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَيْضاً، وهو صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِهِمَا».
قال الفقير عداب:
انتبه أخي القارئ الكريم إلى دقّةِ صنيع الحاكم في
تخريجِه هذا الحديث!
فقد ساقَه من ثلاثِ طرقٍ إلى يحيى بن حمّادٍ، فجعلَ
يحيى مدارَ هذا الحديث، رواه عنه عنده:
أحمد ابن حنبل.
وخلف بن سالم المخرّميّ.
وعبدالملك بن محمد الرقاشيّ.
ومن طريق يحيى بن حمّاد هذا؛ أخرجه الإمام النسائيّ
(ت: 303 هـ) في السنن الكبرى (8092) والطحاويُّ (ت: 321 هـ) في مشكل الآثار (1765).
أمّا طريقُ أبي الطفيل عامر بن واثلة؛ فأخرجها ابنُ
أبي عاصم (ت: 287 هـ) في كتاب السنة (1555) والنسائيّ في الكبرى (8092، 8410)
والطحاويّ في مشكل الآثار (1765) والآجريّ (ت: 360 هـ) في كتاب الشريعة (1706)
بمثل لفظ الحاكم.
نستنتج مما سبق أنّ الحاكم لم ينفرد بتخريج حديثِ
زيد بن أرقم، حتى يتّهمه الجاهل الرويبضة بوضعه، بل هو مسبوقٌ بعشراتِ السنين، فقد
أخرجه بمثله ابن أبي عاصم والنسائيّ والطحاويّ والآجريُّ، وجميعهم قبل الحاكم
بعشرات السنين!
وحديثُ زيدِ بن أرقم متواترٌ عنه، مع اختلافٍ في بعض
ألفاظه.
1- فمن حديث حبيب بن أبي ثابتٍ عن زيد بن أرقم؛
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1555) والترمذيّ في جامعه (3788) وقال: حديث حسن
غريب، وإنما استغربه الترمذيّ؛ لأنه من روايةِ حبيب بن أبي ثابتٍ عن زيدٍ،
والمشهور عن حبيب عن أبي الطفيل، عن زيدٍ.
2- ومن حديث أبي الطُفيل عامر بن واثلة عن زيدٍ؛
أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة (1555) والطبرانيُّ في المعجم الكبير (4969،
4970).
3- ومن حديث عطيّة العوفيّ عن زيدِ بن أرقم؛ أخرجه
أبو طاهر السِلفيّ في الطيوريات (420).
4- ومن حديث عليّ بن ربيعةَ الوالبي عن زيد بن
أرقم؛ أخرجه أحمد (18508) والطبرانيُّ الكبير (5040) وابن بِشران في أماليه (1071).
5- ومن حديث أبي الضحى مسلمِ بن صُبيح عن زيد بن
أرقم؛ أخرجه البزار في مسنده (4325) والطبرانيّ في الكبير (4980، 4981، 4982)
والحاكم في المستدرك (4711) وابن عساكر في معجمه (1026).
6- ومن حديث ميمون أبي عبدالله عن زيدِ بن أرقم؛
أخرجه أحمد في مسنده (19325) والطبراني في الكبير (5092)
7- ومن حديثِ يحيى بن جعدةَ عن زيدِ بن أرقم؛ أخرجه
الطبراني في المعجم الكبير (4986) والحاكم في المستدرك (6272)
8- ومن حديث يزيدِ بن حيّان التيميّ عنه؛ أخرجه ابن
أبي شيبة في مصنفه (514، 30078) وأحمد في مسنده (19265) والدارميّ في سننه (3316)
ومسلم في صحيحه (2408) وابن حبّان في صحيحه (123).
فهؤلاء ثمانيةُ رواةٍ، روَوا هذا الحديثَ عن زيدِ
بن أرقم، فهو متواترٌ عنه عندي!
والمتواتر يفيد العلم الاستدلاليّ، فكيف يكون
الحديثُ موضوعاً؟!
والصحفيّ الجاهل الغبيّ، فَهِمَ مِن هذا الحديث
الصحيح المتواتر عن زيدِ بن أرقم رضي الله عنه (تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَعِتْرَتِي) أنّ كلام الله تعالى
يكون أعظمَ في بعض الأحيانِ، ويكون كلامُ واحدٍ من العترة أعظمَ في بعض الأحيان!
ولو كان يفهم في العلوم الشرعيّة شيئاً؛ لكان عَلِمَ
أنّ أكثرَ الأحاديثِ مرويةٌ بالمعنى من الحِفظِ، وهذا يدفعه إلى البحث عن رواياتِ
الحديث، حتى يتوضّح له ما أشكل عليه مما لم نسمع أبداً أنه أشكل على غيره، وهذا
يدلُّ على أنّه موغلٌ في الغباء!
فقد أخرج الإمام مسلم في كتاب الفضائل (2408) من
طريق يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ
وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ:
(أَمَّا بَعْدُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا
أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ
فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ،
فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ.
فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ،
ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ
اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي).
قال المباركفوريّ في تحفة الأحوذيّ (10: 178) ما
نصّه:
«عِتْرَةُ الرَّجُلِ؛ أَهْلُ بَيْتِهِ وَرَهْطُهُ
الْأَدْنَوْنَ، وَلِاسْتِعْمَالِهِمُ الْعِتْرَةَ عَلَى أَنْحَاءَ كَثِيرَةٍ؛
بَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (أَهْلَ
بَيْتِي) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ نَسْلَهُ وَعِصَابَتَهُ
الْأَدْنَيْنَ وأزواجه.
وقال علي القارىء: وَالْمُرَادُ بِالْأَخْذِ بِهِمُ؛
التَّمَسُّكُ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِمْ، وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِمْ،
وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَخْذَ السُّنَّةِ مِنْ
غَيْرِهِم».
ختاماً: حديثُ الباب متواترٌ عن زيدِ بن أرقم،
عندي، وهو مشهور عند جميع المحدّثين.
وليس هو فرداً في بابه، بل وردَ عن عددٍ من
الصحابةِ، سأخرّج أحاديثهم في منشور تال إن شاء الله تعالى.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق