مَسائلُ حَديثيّةٌ (51):
حديثُ (الأذان جزم) !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
سألني أحدُ الإخوةِ عن ضبطِ كلمة «أكبر» في قول
المؤذّن «الله أكْبر.. الله أكْبر»؟
قال: وما صحّةُ حديثِ (الأذانُ جَزْمٌ) ؟!
أقول وبالله التوفيق:
بإسنادي
إلى الإمام الترمذيّ في كتابه الجامع الكبير المختصر (297) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَهِقْلُ بْنُ
زِيَادٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (حَذْفُ
السَّلَامِ سُنَّةٌ).
قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ: «يَعْنِي أَنْ لَا يَمُدَّهُ مَدًّا».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ،
وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ أَنَّهُ
قَالَ: «التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، وَالسَّلَامُ جَزْمٌ».
وأخرجه أحمد في مسنده (10885) من طريق محمد بن يوسف
الفريابيّ عن الأوزاعيّ، به مثلَه، إلّا أنّه جعله عن أبي هريرة، عن الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم مرفوعاً قال: (حَذْفُ السَّلَامِ سُنَّةٌ)!
ومن طريق أحمد؛ أخرجه أبو داود في سننه (1004) به
مثلَه، ثم قال عقبه:
«قَالَ عِيسَى بن حطّان الرقاشيّ: نَهَانِي
عبداللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ».
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَبَا عُمَيْرٍ عِيسَى بْنَ يُونُسَ الْفَاخُورِيَّ الرَّمْلِيَّ قَالَ: لَمَّا رَجَعَ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ مَكَّةَ؛ تَرَكَ رَفْعَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: نَهَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ رَفْعِهِ».
ومن طريق الفريابيّ عن الأوزاعيّ به مرفوعاً؛ أخرجه
ابن خزيمة في صحيحه (734)
وفي الحديث (735) حكى الخلافَ في إسنادِ الحديثِ،
ورجّح الموقوفَ على أبي هريرة.
وأخرجه البزار في مسنده المعلّل (7905) قال:
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَال: حَدَّثنا عَبد الرحمن «بن مهديّ»
قَال: حَدَّثنا ابن المبارك عَن الأَوْزاعِيّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أَبِي
سَلَمَة، عَن أَبِي هُرَيرة، قال: «حذف السلام سنة».
ثمّ قال عقبه: «وقد روى هذا الحديثَ غيرُ ابن
المبارك عَن الأَوْزاعِيّ، عن قُرّةَ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أَبِي سَلَمَة، عَن
أَبِي هُرَيرة».
وأخرجه الحاكم في المستدرك (842) من طريق قُرّة بن
عبدالرحمن، مرفوعاً، ثم قال: « «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ،
فَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِقُرَّةَ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ
كِتَابِهِ،
وَقَدْ
أَوْقَفَ عَبْدُاللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ»
يعني: من روايته هو عن الأوزراعيّ، وساق حديث ابن المبارك (843).
قال عداب: وقفت لقرّة بن عبدالرحمن على حديث واحدٍ
عند مسلم (1591) وهناك رجل آخر اسمه قرّة بن خالد؛ أخرج له مسلم أحاديث منها (93،
640، 705) فربما اشتبه على الحاكم.
وقد أورد المنذريّ الحديثَ في مختصر سنن أبي داود
(966) وقال: «في إسناده قُرّةُ بن عبد الرحمن بن حَيْويل المصري، قال الإمام أحمد
بن حنبل: قرة بن عبد الرحمن صاحب الزهري: مُنكر الحديث جداً».
فحديث «حذف السلام سنّة» ضعيفٌ مرفوعاً، والصواب
أنه موقوفٌ على أبي هريرة.
قال ابن الأثير في نهاية الغريب (1: 356): «هُوَ
تَخْفِيفُهُ وتَرْك الْإِطَالَةِ فِيهِ».
أمّا قول إبراهيم النخعيّ المعلّق عند الترمذيّ؛ فوصله عبدالرزاق في مصنّفه (2553) فقال: عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ؛ أُكَبِّرُ مَكَانِي، أَوْ حِينَ يَفْرُغُ؟ قَالَ: «أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ» قَالَ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «التَّكْبِيرُ جَزْمٌ» يَقُولُ: «لَا يُمَدُّ».
أما لفظ «الأذان جزم» فلم أجده في شيءٍ من كتب
الرواية!
بيد أنّ السخاويّ في المقاصد الحسنة (ص: 263) قال: «حَدِيث:
التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، لا أَصْلَ لَهُ فِي الْمَرْفُوعِ، مَعَ وُقُوعِهِ فِي
الرَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، حكاه
الترمذي في جامعه عنه عقب حديث: «حذف السلام سنَّة» فقال ما نصه: وروي عن إبراهيم
النخعي أنه قال: (التكبير جزم، والتسليم جزم).
وعن إبراهيمَ رواه سعيد بن منصور في سننه، بزيادة: «والقراءة
جزم، والأذان جزم» وفي لفظ عنه: «كانوا يجزمون التكبير».
ولجهل الفقهاءِ بالحديثِ؛ فقد نسبوا قولَ إبراهيم
النخعيّ هذا؛ إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ بنوا أحكاماً فقهية عليه!
قال شمس الأئمة السرخسيّ الحنفيّ (ت: 483 هـ) في
كتابه المبسوط (1: 23):
«وَيَحْذِفُ التَّكْبِيرَ حَذْفاً، وَلَا
يُطَوِّلُهُ» لِحَدِيثِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفاً، وَمَرْفُوعاً:
«الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ، جَزْمٌ وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ»
وقال علاء الدين الكاساني الحنفيّ (ت: 587 هـ) في بدائع الصنائع (1: 150):
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ جَزْماً،
وَهُوَ قَوْلُهُ: (اللهُ أَكْبَرْ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(الْأَذَانُ جَزْمٌ).
وقال ابن نجيم المصريّ (ت: 970 هـ) في البحر الرائق
(1: 271):
«سِيَاقَ كَلَامِ «الْمُبْتَغَى» يَقْتَضِي أَنَّ
الْمُرَادَ مِنْهُ تَكْبِيرُ الصَّلَاةِ وَلَفْظُهُ، وَلَوْ قَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ)
بِالرَّفْعِ يَجُوزُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْجَزْمُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، وَالتَّسْمِيعُ جَزْمٌ).
والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لا علم له بمقولة:
(الأذان جزم) أو (التكبير جزم) أو (التسميع جزم) أبداً!
بقي أن نفسرَ إصرارَ مؤذّني الحنفيّةِ على قولهم في
الأذان والإقامةِ (اللهُ أكبرَ اللهُ أكبرْ).
فأقول: لمّا أفهمهم فقهاؤهم أنّ الأذان الشرعيّ هو
(اللهُ أكبَرْ اللهُ أكبَرْ) لم يجعلوا وصلَ الجملة الأولى بالثانية على أصل
الإعراب (اللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرْ) إنّما تفاصحوا فقالوا: لمّا التقى ساكن
(أكبرْ) مع ساكن (الْـ) وكان الفتحُ أخفَّ الحركاتِ؛ حرّكنا الراء ففتحناها
(أكبرَ) لالتقاء الساكنين، فنقول: (اللهُ
أكبَرَ اللهُ أكبَرْ).
ختاماً: إذْ لا يصحّ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
(الْأَذَانُ جَزْمٌ) ولا قال: (التَّكْبِيرُ جَزْمٌ) ولا قال: (التَّسْمِيعُ
جَزْمٌ) فيعودُ كلُّ شيءٍ إلى أصلِه اللغويّ، فتقول عند الوقف: (اللهُ أكبرْ) وتقول
عند الوصل (اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرْ) ولا يصحّ لغةً أن تحرّك الراء الأولى بالفتح،
إذ لا يوجد مسوّغٌ لغويٌّ لذلك.
كما لا يجوز فقهاً أن تقول: (الله أكبرَ اللهُ
أكبرْ) إذ لم يثبت عن الشارع صلّى الله عليه وآله وسلّم شيءٌ من ذلك، والمسألة
دائرة بين جهل الفقهاء بالحديث، وجهل أتباعهم المركّب بالفقه والحديثِ، على حدٍّ
سواء!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق