مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (14):
كَيفَ نُوَفّق بين عِصمةِ
الأنبياءِ عن الذنوبِ، وبين نسبةِ الظُلْمِ إليهم؟!
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ
الرَحيمِ
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال الله تبارَكَ وتعالى:
(يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ
الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ؛
فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) [النمل].
نقل الطبريّ في تفسيره (18: 16) أقوالَ عددٍ من
العلماء المتقدمين، وأقوالَ بعض النحويين، ثم قال: «يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
فَمَنْ أَتَى ظُلْمًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَرَكِبَ مَأْثَمًا، ثُمَّ بَدَّلَ
حُسْناً.
يَقُولُ: ثُمَّ تَابَ مِنْ ظُلْمِهِ ذَلِكَ،
وَرُكُوبِهِ الْمَأْثَمَ؛ (فَإِنِّي غَفُورٌ).
يَقُولُ: فَإِنِّي سَاتِرٌ عَلَى ذَنْبِهِ
وَظُلْمِهِ ذَلِكَ، بِعَفْوِي عَنْهُ، وَتَرْكِ عُقُوبَتِهِ عَلَيْهِ (رَحِيمٌ)
بِهِ أَنْ أُعَاقِبَهُ، بَعْدَ تَبْدِيلِهِ» إلى الأحسن.
وناقش أبو جعفرٍ النحّاسُ في إعراب القرآن (3: 137)
النحويين بقولهم في معنى الاستثناء هنا، ثم قال: «المعنى أنّ موسى صلّى الله عليه
وسلّم لمّا خاف من الحيّةِ؛ قال له اللهُ جلّ وعزّ: (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).
عَلِم جلّ وعزّ أنّ مَن عَصى منهم يُسرّ الخيفَةَ،
فاستثناه، فقال: (إلّا مَن ظَلَم، ثمّ بدّل حُسْناً بعد سوء) أي: فإنّه يخاف، وإن
كنتُ قد غفرت له.
فإن قال قائل: فما مَعنى الخوفِ، بعد التوبة
والمغفرة؟
قيل له: هذه سبيلُ العُلماءِ باللهِ جلّ وعزّ؛ أن
يكونوا خائفين من مَعاصيهم، وَجِلينَ، وهم أيضاً لا يأمنون أن يَكون قد بقي من
أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به».
وقال
الرازي في مفاتيح الغيب (24: 545): «أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ
ظَلَمَ) مَعْنَاهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ.
وَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ أَوِ
الصَّغِيرَةِ.
وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضَ بِمَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى، وَهُوَ
مِنَ التَّعْرِيضَاتِ اللَّطِيفَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: كَانَ واللهِ مُوسَى
مِمَّنْ ظَلَمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ بَدَّلَ، فإنّه عليه السلام قال: (رَبِّ
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَغَفرَ له).
وقال القشيريّ في لطائفه (3: 27): «هذا يدلّ على
جواز الذّنب على الأنبياء عليهم السلامُ، فيما لا يَتعلقُ بتبليغِ الرسالةِ، بشرط
ترك الإصرار.
فأمّا مَن لا يُجيزُ عليهم الذنوبَ؛ فيُحمَل هذا
على ما قَبل النُبوّة».
ختاماً: ليس عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم،
ولا عن واحدٍ من أصحابه شيءٌ ثابتٌ في تفسير هذه الآية الكريمة!
وإذْ لا يوجَد؛ فحَملُ الآيةِ على معناها الظاهرِ؛
هو المتعيّنُ.
وقد لخّص الإمام القشيريُّ مذهبي العلماء في هذه المسألة،
وكلاهما حسنٌ.
والله
تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق