مَسائلُ حَديثيّةٌ (53):
كيفَ نَحكُم على الروايةِ الحَديثيّةِ بالوَضْعِ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قرأتُ واستمعتُ إلى عددٍ من هُواةِ المعرفةِ، أو
الشهرةِ، أو أهل الأهواء؛ أنّ محمد بن بردزبة «البخاريّ» كذاب، وأنّ مسلمَ بن
الحجّاج كذّاب، وأن الحاكم النيسابوريّ كذاب وضّاع رافضيٌّ خبيث!
ومن الظاهر على هذه الأصناف من المغرضينَ؛ الجهلُ
المطبقُ بعلومِ الشريعةِ عامّة، وبعلومِ الحديثِ خاصّةً، ولا شيءَ أضعب على
العالمِ من محاورةِ الجاهلِ؛ إذ ليس بين العالم والجاهل مرتكزاتٌ مشتركةٌ يرتضيها
الطرفان عند الحوار!
ولا أريدُ الذهابَ بكم بعيداً في الإنشاءِ وتزويقِ
الألفاظ، إنّما ننتقلُ مباشرةً إلى ساحةِ علوم الحديث!
أوّلاً: أصحاب الكتب الستّة (البخاري ومسلم وابن
ماجه وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ) اشتهرت كتبُهم أكثر من الكتب التي تقدّمت
عليهم، هذا صحيح!
لكنّ هؤلاء الأئمة الستّة؛ لم يؤلّفوا كتبَهم من
رواياتٍ شفويّة، نقلوها عن شيوخهم أبداً!
هذا جهلٌ فاحشٌ بمسيرة تأليف الكتب الستّة وغيرها،
من الكتب المصنّفة في جمع السنة النبويّة والروايات الحديثيّة.
إنما هم جميعاً اختاروا أحاديثَ كتبهم من مصنّفاتٍ
سبقتهم في التأليف بخمسين سنة أو مائة سنة، أو أكثر!
وإليك توضيح ذلك:
إنّ ما وصلَ إلينا، وطُبِع من المصنّفاتِ
الحديثيّة؛ أقلُّ من المصنّفاتِ المخطوطة التي لم تُطبَع بعد!
وما وصل إلينا من المصنّفات الحديثيّة مطبوعاً
ومخطوطاً؛ أقلُّ من المصنّفات التي فُقِدتْ بسببِ أحداثِ الدهر على الأمة
الإسلاميّة.
وإذا كان الاستقصاءُ غير ممكنٍ في منشورٍ على
الانترنيت؛ فيكفي أن أُمثّل بستّة كتبٍ صُنّفت قبل جميع الكتبِ الستة بخمسين سنة، أو
مائة سنة، وقد استقى كلّ واحدٍ من أصحاب الكتب الستة كثيراً من أحاديثه منها.
1- جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) صنّفه
الإمام معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً.
2- مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) برواية
تلميذه أبي داود الطيالسيّ، المتوفى (204 هـ).
3- جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) برواية محمد
بن يوسف الفريابي، عنه.
4- موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ)
صنّفه الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً.
5- موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197
هـ) صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً.
6- مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد
صنّفه قبل عام (170 هـ) تقريباً.
هذه ستّة
مصنّفات موجودةٌ بين أيدينا، يمكن لكلّ باحثٍ أن يراجعها، حتى لو كان في المرحلة
الإعداديّة من الدراسة!
ثانياً: سأذكر لبعض أصحاب الكتبِ الستة عددَ
الأحاديثِ التي أخرجها من مصنفات هؤلاء الأئمة المصنفين الثقات المتقدمين:
(أ) البخاري:
1- أخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252
هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام معمر قبل عام
(130 هـ) تقريباً (263) روايةً، منها (4، 6، 7، 27، 42).
2- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه (252 هـ) من
مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف كتابه قبل (130 هـ) (795)
روايةً، منها (10، 13، 15، 17، 21).
3- وأخرج البخاريُّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح
(252 هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه قبل عام (130
هـ) (353) روايةً، منها (34، 68، 90، 111، 157).
4- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح
(252 هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه الإمام مالك
قبل عام (150 هـ) تقريباً (644) روايةً، منها (2، 19، 22، 24، 29).
5- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح
(252 هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) والذي صنّفه ابن
وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً (136) رواية منها (71، 89، 114، 202، 210).
6- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح
(252 هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170
هـ) تقريباً (120) روايةً، منها (42، 135، 278، 398، 416).
(ب) مسلم بن الحجاج:
- أخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257
هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام معمر قبل عام
(130 هـ) تقريباً (300) روايةً، منها (24، 36، 57، 83، 95).
2- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه (257 هـ) من مصنّف
شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف كتابه قبل (130 هـ) (590) روايةً،
منها (1، 5، 13، 17، 22).
3- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257
هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه قبل عام (130 هـ) (235)
روايةً، منها (21، 49، 55، 57، 58).
4- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257
هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه الإمام مالك قبل
عام (150 هـ) تقريباً (346) روايةً، منها (11، 52، 71، 98، 115).
5- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257
هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) والذي صنّفه ابن وهبٍ
قبل عام (160 هـ) تقريباً (544) رواية منها (7، 21، 24، 40، 47).
6- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257
هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170 هـ)
تقريباً (399) روايةً، منها (18، 24، 36، 57، 83).
وهكذا هي الحالُ مع بقية الكتب الستّة، لا أحتاج
إلى مزيدٍ من الأمثلة.
ثالثاً: سأنتقل مباشرةً إلى الحاكم أبي عبدالله
النيسابوري، المتوفى (405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي أنجز مسوّدته عام (405 هـ)
ولم يتسنّ له تنقيحُه ومراجعته، إذ جرى في الآونة الأخيرة حملةٌ حقيرةٌ ضدّه، رحمه
الله تعالى.
فأقول:
- أخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي
صنّفه عام (405 هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام
معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً أكثرَ من (100) روايةً، منها (33، 35، 87، 97، 152).
2- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك،
الذي صنّفه عام (405 هـ) من مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف
كتابه قبل (130 هـ) (328) روايةً، منها (3، 20، 26، 43، 44).
3- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك،
الذي صنّفه عام (405 هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه
قبل عام (130 هـ) أكثرَ من (100) روايةً، منها (94، 108، 128، 129، 142).
4- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي
صنّفه عام (405 هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه
الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً، أكثر من (60) روايةً، منها (74، 140، 375، 446،
472).
5- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك،
الذي صنّفه عام (405 هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ)
والذي صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً، أكثر من (200) رواية، منها (4،
59، 84، 119، 206).
6- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك،
الذي صنّفه عام (405 هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه
قبل عام (170 هـ) تقريباً أكثرَ من (200) روايةً، منها (35، 78، 104، 130، 131).
فإذا روى (البخاريّ، أو مسلم، أو ابن ماجه، أو أبو
داود، أوالترمذيّ، أوالنسائيّ) أو روى الحاكم النيسابوريّ في المستدرك، أو غيره من
كتبه، حديثاً في سنده معمر بن راشد، أو مالك بن أنس، أو شعبة بن الحجاج، أو سفيان
الثوري، أو عبدالله بن وهب، أو عبدالرزاق الصنعاني، وظهر أنّ الحديثَ موضوعٌ، أو
منكر، أو ضعيف، جدلاً؛ فلا يُتَّهم بوضعه واختلاقه البخاريُّ أو مسلمٌ، أو أيُّ
واحدٍ من أصحاب الكتب الستة، أو الحاكم!
إنّما يجب أن يتوجّه الطعنُ مباشرةً إلى صاحب
الكتابِ الأوّل!
فإنْ كان صاحب الكتاب الأوّل ثقةً حافظاً؛ فيجب أنْ
نبحثَ عن شيخه أو شيخ شيخه في هذا الحديث، فإذا وجدنا شيخَه ضعيفاً؛ اتّهمناه بوضع
الحديثِ تعمُّداً أو وهماً!
وفي الجملةِ؛ يُلصق الحديث الموضوعُ أو الضعيفُ
بأضعف راوٍ في الإسنادِ، إلّا أن يقوم دليلٌ ظاهرٌ على خطأ أحد الثقات به!
ختاماً: إنّ جملة (جمع وصنّف) تعدُّ من أعلى درجات
التوثيق عند العلماء، إذ ليس كلّ ثقةٍ يقوى على التأليف، كما هو معلوم لكلّ طلبة
العلم.
وقد وصف ابن حباّن أكثرَ من ثلاثين محدّثاً بهذه
الصفة (جمع وصنّف) في كتاب الثقات، منهم:
أحمد بن زهير، تلميذ بن المبارك (8: 11).
أحمد بن سفيان النيسابوريّ (8: 28).
أحمد بن الفرات الرازي (8: 36).
أحمد بن السميدع الشيبانيّ (8: 53).
أحمد بن عمرو بن خيثمة البغدادي (8: 55).
وقال في ترجمة حسين بن عليّ الكرابيسيّ (8: 189) ما
نصّه:
«حُسَيْن بن عَليّ الْكَرَابِيسِي أَبُو علي، من
أهل بَغْدَاد.
يروي عَن يزِيدَ بن هَارُون والعراقيين.
حَدَّثنا عَنهُ الْحسنُ بن سُفْيَان.
كَانَ مِمَّن جمع وصنف، مِمَّن يحسن الْفِقْه
والْحَدِيث!
وَلَكِن أفْسدهُ قلَّة عقله!
فسبحانَ من رفع من شَاءَ بِالْعلمِ الْيَسِير،
حَتَّى صَار علما يقْتَدى بِهِ، وَوضع من شَاءَ مَعَ الْعلم الْكثير، حَتَّى صَار
لَا يلْتَفت إِلَيْهِ»!؟
وقلّة عقلِ الحسين الكرابيسيّ؛ هي معارضته لأحمد بن
حنبلٍ في مسألة خلق القرآن!
وههنا إشارة إلى منهج ابن حبّان في مصانعة الناس،
وعدم معارضتهم، وقد أكّد في كتابه «روضة العقلاء» كثيراً على ضرورة مجاملة الناس،
وعدم مواجهتهم!؟
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق