مَسائلُ حَديثيّةٌ (48):
النظر في وجه عليّ عبادة!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
ممّا يلتحق بالمنشور السابق، عن الحاكم
النيسابوريّ، صاحب المستدرك؛ أنّ الصحفيَّ الناصبيَّ الجاهل، يستدلّ على رفض
الحاكم وكذبه ووضعه لأحاديثَ على لسان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أنّه
خرّج في كتابه المستدرك (4683) حديثَ عبدالله بن مسعود (النظر إلى وجه عليّ عبادة)
وقد فهم هذا الجاهلُ أنّ الحاكم يدعو إلى عبادةِ الإمام عليّ!
أقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: كي يسوغَ لنا أن نتّهم راوياً بوضعِ حديثٍ
ما، ونحن في القرن الخامس عشر الهجريّ؛ يجب أن يتحقّق لنا ثلاثةُ أمورٍ:
الأوّل: أن يكون الحديث الموضوع؛ لم يعرفه علماءُ
الحديثِ ونقّاده، إلّا من طريق الراوي الذي نريد أن نتّهمه به.
الثاني: أن لا يكون الحديثُ مخرّجاً عند غيره، من
طريق صحابيٍّ آخر، فإن كان مخرّجاً من حديث صحابيٍّ آخر؛ فيمكن أن يكون أحدُ
الرواة وَهِم، فنسبه إلى ذاك الصحابيّ، فأنكر عليه.
الثالث: أن يكون أحدُ علماء الحديث سبقنا في اتّهام
ذاك الراوي بعينه بوضع هذا الحديث؛ لأنّ بيننا وبين الحاكم مثلاً (1039) سنة، فنحن
لا يمكننا الحكم عليه بأنه وضّاع، إلّا بنقلِ ذلك عمّن عاصره، أو جاء بعده بقليلٍ
أو كثير!
ثانياً: يحسن أن أسوق سند الحاكم بهذا الحديث، ثمّ
أخرّجه من المصادر الأخرى!
بإسنادي إلى الإمام الحافظ أبي عبدالله محمد بن
عبدالله بن محمّد النيسابوريّ القاضي (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك (4681) قال
رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ السِّجْزِيُّ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْجُعْفِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
رَبِّهِ الْعِجْلِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّظَرُ
إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
قال أبو عبدالله الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ
الْإِسْنَادِ، وَشَوَاهِدُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ صَحِيحَةٌ» وساق
شواهده كالآتي:
(4682) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ
الْحَافِظُ: حدّثنا صَالِحُ بْنُ مُقَاتِلِ بْنِ صَالِحٍ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ بْنِ عُتْبَةَ: حدّثنا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ: حدّثنا
يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ.
(4683) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْقَارِيُّ: حدّثنا الْمُسَيِّبُ بْنُ زُهَيْرٍ
الضَّبِّيُّ: حدّثنا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ: حدّثنا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَخَعيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ النخعيِّ، عَنْ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
قال عداب: علينا أن ننظر إلى حديثِ عمران بن حصين،
هل أخرجه أحدُ المصنّفين قبل الحاكم؟
فإنْ أخرجه أحدٌ قبل الحاكم، أو أخرجه أحدٌ غير
الحاكم، من غيرِ طريقِه؛ فقد برئت ذمّة الحاكم من وضع الحديثِ، إنْ كان الحديث
موضوعاً!
وقد وجدنا المحدّث عثمانَ بن أحمدَ ابن السمّاك (ت:
344 هـ) قال في فوائده المعروفة (18) قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: حدّثنا عِمْرَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ طَلِيقٍ عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّظَرُ إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
ووجدنا
المحدّث أَبا بكر التميمي الأبهري المالكي (ت: 375هـ) في فوائده الحسان (58) حدثنا
محمد: حدثنا إسماعيل بن موسى: حدثنا الحسن بن القاسم عن بكار بن العبّاسِ، عن خالد
بن الطفيلِ، عن ابنِ عمران بن حصين , عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (النظر إلى علي عبادة).
فهذا
محدّثان سبقا الحاكمَ في الوجودِ والحياةِ؛ أخرجا هذا الحديثَ، فبرئت ذمّة الحاكم
من أن يكون وضعَ حديثَ عمرانَ بن حصين!
أمّا
عن حديث عبدالله بن مسعود؛ فإليك التقرير الصحيح:
بإسنادي
إلى الإمام سليمان بن أحمد الطبرانيّ (ت: 360 هـ) في كتابه المعجم الكبير (10006)
قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ:
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ الْيَامِيُّ: حدثنا يَحْيَى بْنُ عِيسَى عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ مسعودٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ
عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
وبإسنادي
إلى الإمام أبي حفص بن شاهين (ت: 385 هـ) في كتابه شرح مذاهب أهل السنة (103) قال
رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ
الرَّبِيعِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُتْبَةَ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ سَالِمٍ الْقَزَّازُ: حدثنا يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ
عَلِيٍّ عِبَادَةٌ) تَفَرَّدَ عَلِيٌّ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ، لَمْ يَشْرَكْهُ
فِيهَا أَحَدٌ» انتهى.
وبإسنادي
إلى المحدّث أبي الحسن السكّريّ (ت: 386 هـ) في جزئه الحديثيّ (34) قال رحمه الله
تعالى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ: حدثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَهُوَ ابْنُ
الصَّلْتِ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ: حدثنا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي
الأَسْوَدِ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبراهيم , عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن
مسعودٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: (النَّظَرُ إِلَى
وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ).
فهؤلاء
ثلاثةُ محدّثين ثقاتٌ، أخرجوا حديثَ ابن مسعودٍ، قبل الحاكم، فهو بريء من وضع
الحديثِ واختلاقه، رحمه الله تعالى.
يبقى
ههنا سؤال آخر: هل حديث (النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ) من شرطِ الصحيح؟
قال
أبو الفرج بن الجوزيّ في الموضوعات (1: 358): فِيهِ عَن أبي بكر الصّديق،
وَعُثْمَان، وَابْن مَسْعُودٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر بن
عبدالله، وَأبي هُرَيْرَة، وَأنس بن مالكٍ، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وَعمْرَان بن حُصَيْن، وَعَائِشَة أمّ المؤمنين.
وقد
أخرج طرق هذه الأحاديثِ كلّها، ثمّ قال (1: 361): «هذا حديث لا يصحّ من جميع
طرقه».
وأورده
الذهبيّ في تلخيص موضوعات ابن الجوزيّ (ص: 97) ثم قال: «حديثُ «النّظر إِلَى عَليّ
عبَادَة» أوردهُ ابن الجوزيّ من حَدِيث أبي بكر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود وَابْن
عَبَّاس ومعاذ وَجَابِر وَأنس وَأبي هُرَيْرَة وثوبان وَعمْرَان وَعَائِشَة،
ووهّاها كلَّها.
ثم
قال: «قلت: الْمَتْرُوك وَالْمُنكر، إِذا تعدّدت طرقه؛ ارْتقى إِلَى دَرَجَة
الضعْف الْقَرِيب بل رُبمَا ارْتقى إِلَى الْحسن!
وَهَذَا
الحديثُ ورد من رِوَايَة أحدَ عشرَ صحابيّاً، بعدة طرقٍ، وَتلك طُرقُ عِدَّةِ
التَّوَاتُر فِي رَأْيِي».
وقد
تناول الذهبيّ هذا الحديثَ في عددٍ من كتبه، وضعّفه في جميع المواضع، فلا تغترَّ
بجملة «وَتلك طُرقُ عِدَّةِ التَّوَاتُر فِي رَأْيِي».
وفي
كتابه موضوعات المستدرك (18) قال: «قُلْتُ: بِئْسَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ
لَهُ، كِلاهُمَا مَوْضُوعٌ، وَصَالِحٌ كَذَّابٌ خَبِلٌ».
خِتاماً:
لو صحّ هذا الحديثُ؛ فليس معناه الدعوةُ إلى عبادةِ عليّ، كما فهم ذاك الجاهل
الغبيّ، إنّما معناه أنّك قد ترى مؤمنا منوَّر الوجه، يجذبك نور وجهه وهيبته في
قلبك؛ لتقول: سبحان الله، ما شاء الله، وهذا ذِكرٌ، وذكر الله عبادة!
وهذا
مثل ما ورد عن عددٍ من التابعين أنّهم قالوا: «النظر إلى البيت العتيق عبادة».
بل
قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: « النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الْأُمِّ عِبَادَةٌ،
فَكَيْفَ بِرُّهَا» أخرجه الحسين بن حرب في البرّ والصلة (117).
فهل
النظر إلى الكعبةِ، وإلى الوالدة؛ عبادةٌ لهما؟
الله المستعان.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق