مَسائلُ حَديثيّةٌ (57):
الأحاديثُ المدلّسةُ في صحيح البخاريّ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
علّق أحدُ تلامذتي الأحبّةِ العراقيين على منشور
(56) بقوله: «قبل مدة كشف السيد كمال الحيدريّ عن أطروحة دكتوراه، لأحدِ طلبةِ
العلم في علم الحديث، عنوانها «التدليس في مرويات البخاريّ» وخرَج الباحث بخلاصةٍ
علميّة مفادها وجودُ أربعةِ آلافِ حديثٍ مدلّس، في صحيح البخاري، ما رأيكم؟).
أقول وبالله التوفيق:
جميعُ أحاديثِ صحيح البخاريّ مع التكرار (7563)
حديثاً، وهي من دون تكرار (2560) حديثاً، فحسب!
بعضُ هذه الأحاديثِ كرّرها البخاريُّ في صحيحه
أكثرَ من عشرين مرّةً، وبعضها لم يخرّجها في صحيحه سوى مرة واحدة.
ومن أوائل هذه الأحاديثِ التي لم يخرّجها سوى مرّة
واحدةٍ في صحيحه (120، 127، 442، 470، 695).
فإذا نحن أردنا أن نفهم كلامَ هذا الباحثِ فهماً
دقيقاً، بعيداً عن الاتّهام والمجازفة؛ فعلينا أن نقول: إنّ الحديثَ المدلَّسَ
الذي أخرجه البخاريُّ في صحيحه في عشرين موضعاً؛ عدّه الباحثُ عشرين حديثاً.
فإنْ كان هذا ما فعله؛ فهو ليس بطالبِ علمِ حديثٍ
أبداً، إنما يكون باحثاً أراد أن يصل إلى نتيجة مسبقةٍ، في التقليل من شأنِ صحيح
البخاريّ، وهذا ليس سبيلَ أهل العلم!
إنّ من أبرز خصائص المحدّثين حقيقةً؛ أنهم يقولون
في أحبابهم؛ مثلُ الذي يقولونه في خصومهم، مع وجود بعضِ المواقفِ المتحيّزةِ، من
دون شكّ!
خذ هذا المثال:
ترجم الذهبيُّ سفيانَ بن سعيدِ بن مسروقٍ الثوريّ
(ت: 161 هـ) في سير أعلام النبلاء (7: 229) فكان ممّا وصفه به «هُوَ شَيْخُ
الإِسْلاَمِ، إِمَامُ الحُفَّاظِ، سَيِّدُ العُلَمَاءِ العَامِلِيْنَ فِي
زَمَانِهِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الثَّوْرِيُّ، الكُوْفِيُّ، المُجْتَهِدُ، مُصنِّفُ
كِتَابِ «الجَامِعِ».
قُلْتُ:
أَجَلُّ إِسْنَادٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ: سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو
عَاصِمٍ، وَيَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَغَيْرُهُم:
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ
فِي الحَدِيْثِ».
قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ الآجُرِّيُّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُوْلُ:
لَيْسَ
يَخْتَلِفُ سُفْيَانُ وَشُعْبَةُ فِي شَيْءٍ، إِلاَّ يَظفرُ بِهِ سُفْيَانُ،
خَالَفَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِيْنَ حَدِيْثاً؛ القَوْلُ فِيْهَا قَوْلُ
سُفْيَانَ.
وَعَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، قَالَ: مَا خَالَفَ
أَحَدٌ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ؛ إِلاَ كَانَ القَوْلُ قَوْلَ سُفْيَانَ.
وقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَصْحَابُ الحَدِيْثِ
ثَلاَثَةٌ: ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ،
وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ.
ونقل الذهبيّ عن معاصرٍ لسفيان قَالَ: قَدْ كَانَ
سُفْيَانُ رَأْساً فِي الزُّهدِ، وَالتَّأَلُّهِ، وَالخَوْفِ، رَأْساً فِي
الحِفْظِ، رَأْساً فِي مَعْرِفَةِ الآثَارِ، رَأْساً فِي الفِقْهِ، لاَ يَخَافُ
فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، مِنْ أَئِمَّةِ الدِّيْنِ»!
هذا كلامٌ عالٍ راقٍ في حقّ سفيانَ الثوريّ، رحمه
الله تعالى، فما ذا بعد؟
قال الذهبيّ: اغْتُفِرَ لَهُ غَيْرُ مَسْأَلَةٍ
اجْتَهَدَ فِيْهَا، وَفِيْهِ تَشَيُّعٌ يَسِيْرٌ، كَانَ يُثَلِّثُ بِعَلِيٍّ،
وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ بَلَدِهِ أَيْضاً فِي النَّبِيذِ، ويقال: رجعَ عن ذلك!
وَكَانَ يُدَلِّسُ فِي رِوَايَتِهِ، وَرُبَّمَا
دَلَّسَ عَنِ الضُّعَفَاءِ».
وقال ابن حبّان في مقدمة كتابه المجروحين (1: 159):
«الجنس الثاني من أجناس الضعفاء؛ أقوام كانوا
يروون عن أقوام ضعفاء كذابينَ، ويكنونهم؛ حتى لا يعرفوا.
فربما أشبهَ كنيةَ كذّاب،
فيتوهم المتوهم أن راوي هذا الخبر ثقةٌ، يتحمّلون عنه.
وليس ذلك الحديث من حديثه.
ومن أعملهم بمثل هذا، من هذه
الأمة؛ الثوريُّ، رحمه الله.
كان يحدّث عن الكلبيّ ويقول:
حدثنا أبو النضر، فيتوهم المستمعُ أنه أراد به سعيد بن أبي عروبة، أو جرير بن حازم،
لا يجوز الاحتجاج بأخبارهم.
فما لم يقل المدلس - وإن كان ثقة - حدثني أو
سمعت؛ فلا يجوز الاحتجاج بخبره، وهذا أصل الشافعي رحمه الله ومن تبعه من شيوخنا»
انتهى المراد.
إنّ سفيانَ الثوريّ مدلّسٌ
إذن، فإذا قال: «عن» خشينا تدليسَه، وتوقفنا عن قبول حديثه حتى نجده صرّح بالسماعِ
في موضعٍ آخر!
هذا الكلام على إطلاقه هكذا؛
لا يستقيم أبداً، إذ إنّه سبيلٌ إلى ردّ (90%) من روايات سفيان؛ لأنّ جميعَ
المتقدّمين كانوا يقولون: «عن» المدلّسون وغيرُهم سواء!
أخرج البخاريّ في جامعه
الصحيح من طريق سفيانَ الثوريّ (353) روايةً مكررة!
الحديث الأول برقم (34) كرره
البخاري مرتين (2459، 3178).
الحديث الثاني برقم (68) كرره
البخاري مرتين (70، 6411).
الحديث الثالث برقم (90) كرره البخاريّ أربع مرّات
(702، 704، 6110، 7159).
فهؤلاء الأحاديث الثلاثةُ؛ هم أحدَ عشر حديثاً، من
بنية صحيح البخاري مع التكرار.
علينا أن ننظر كيف خرّج البخاريّ هذه الأحاديث
لسفيان؟
الحديث الأول (24) حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ
عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا
خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ
النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ
وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ».
يعني تابعَ شعبةُ سفيانَ في روايته هذا الحديثَ عن
الأعمش!
مكرّره (2459) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ
أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا
حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ
فَجَرَ).
مكرّره (3178) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنْ كُنَّ
فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ
أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ
خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا).
لو أننّا كلّما رأينا «سفيان عن» عددنا هذا الحديثَ
في صحيح البخاريّ مدلّساً، وضعّفناه بالتدليس؛ كنّا جاهلين بمنهج البخاريّ في
التخريج للمدلسين، وكنا ظالمين للحديثِ النبويّ ذاته، إذ كنّا سنُخرج منه كثيراً
من الأحاديث الصحيحة، بسبب جهلنا!
الإسناد الأول: سفيان عن سليمان بن مهران الأعمش،
وسفيان مدلّس!
الإسناد الثاني: شعبةُ بن الحجّاج عن سليمان بن
مهران الأعمش، وشعبة يقول: لأن يزني أحبّ إليه من أن يدلّس!
والإسناد الثالث: جَرِيرُ بن عبدالحميد الضبيّ عَنْ
الْأَعْمَشِ، وجريرٌ لا يدلّس!
فتيقّنا بهذا من أنّ سفيان الثوريَّ - وإن قال في
حديثه: «عن الأعمش» - لكنّه لم يدلّس ههنا.
الحديث الثاني (68) حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ
عَلَيْنَا) فهذا حديث دلّسه سفيان بقوله: «عن الأعمش».
مكرره (70) حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ
ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي
أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ
السَّآمَةِ عَلَيْنَا).
ففي هذا الإسنادِ لا وجودَ
لسفيان الثوريّ، ولا لشيخِه الأعمش.
إنما رواه جرير بن عبدالحميد
عن قرينِ الأعمش منصورِ بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة!
مكرّره (6411)
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللَّهِ إِذْ جَاءَ يَزِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا أَلَا تَجْلِسُ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَدْخُلُ
فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَإِلَّا جِئْتُ أَنَا فَجَلَسْتُ فَخَرَجَ
عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ أَمَا إِنِّي
أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا
بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا).
في هذا الإسناد يقول حفص بن غياثٍ النخعيّ: حدّثنا
الأعمش قال: حدثني شقيق!
فأثبت تصريح الأعمش بسماعه الحديثَ من شقيق بن
سلمة.
فلم يعد في عنعنة سفيانَ هذا الحديثَ أيّ إشكالٍ أو
توقّف.
هذا أنموذج لتخريج البخاريّ أحاديثَ المدلّسين في
صحيحه!
فمن لا يعرف مثلَ هذا؛ فليربع على ظلعِه، وليسكت،
فالبخاريّ أعظم أسطوانةٍ في علم الحديثِ النبويّ على الإطلاق!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق