مسائل فكرية (46):
الحكم
الشرعي في مظاهر زيارةِ أربعينية الحسين!؟
بسم
الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا،
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
علّق الدكتور السيّد كاظم
عبدالرزاق الحسينيّ على المنشور (45) بقوله:
- (هل
تُفتي بحرمة السفر مشياً لزيارة بيت الله، أو ضريحِ سيّد الأنبياءِ، أو ضريح
ريحانة النبي، بقصد التعظيم والمحبّة؟
ما هو دليلكم من الكتاب
والسنّة على الحرمة؟
- (هل تفتي بحرمة إطعام السائرين مشياً أو
الزائرين من قبل أناس يقفون على
الطريق متطوعين يتقربون الى الله باطعام الطعام
وسقي الماء؟
ما دليلكم من الكتاب والسنّة؟
قال بعض المتخصصين: الغلو
سلوك مذموم يتجاوز به صاحبه معيار الشرع
هل يقال لمن تطوّع شوقاً لزيارة ضريح سيد
الشهداء سيراً على القدمين أو بالسيارة أنّه غلا في دينه وتحاوز حدود الشريعة؟
كيف وما هو الدليل؟
ذكر أرباب التراجم كالذهبي في الاعتدال
والنبلاء وابن سعد في طبقاته وغيرهم عدة ممن حجّ ماشيا الى بيت الله كالحسن
والحسين عليهما السلام وان ابن عباس كان يأسى لأنّه لم يحج ماشياً.
أقول وبالله التوفيق:
إنّ النظرَ إلى مفرداتِ
هذه الزيارة المبتدعةِ شيءٌ، والنظر إلى هذه الظاهرة شيءٌ آخر!
وللإجابةِ على كلام السيّد
الكاظمي؛ لا بدّ من المقدمات الآتية:
(1) قال الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي
عِيداً، وَصَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ).
أخرجه جمعٌ من المصنفين،
منهم أحمد في مسنده (8449) وأبو داود في السنن (2042) وإسناده صحيح.
(2) قال الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ).
قَالَتْ عَائِشَةُ:
«لَوْلَا ذَلِكَ؛ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً» أخرجه
البخاري في صحيحه (4441) وهذا لفظه، ومسلم (531) وهو مشهور عن أمّ المؤمنين.
ولا يظهر في الحديث شأنٌ
خاصٌّ بعائشة، يجعل بعضهم يتوقف فيه.
(3) عن أبي الهيّاج حيّان
الأسديّ قال: قال لي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب:
«أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى
مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
أَنْ لَا تَدَعَ
تِمْثَالًا، إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْراً مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ».
(4) أخرجه مسلم في صحيحه
(969) والترمذيّ في جامعه (1049) ثمّ قال:
حَدِيثُ عَلِيٍّ؛ حَدِيثٌ
حَسَنٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ أَنْ
يُرْفَعَ الْقَبْرُ فَوْقَ الْأَرْضِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ:
أَكْرَهُ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ، إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ قَبْرٌ
لِكَيْلَا يُوطَأَ، وَلَا يُجْلَسَ عَلَيْهِ».
(5) أخرج الإمام مسلم من
حديث عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ
فَيَقُولُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ).
(6) قال الرسول صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ
تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ،
إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).
قالت زينب بنت أمّ سلمة:
ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ
بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ
أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ
يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ
عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
أخرجه البخاري (1282)
ومسلم (1486) والترمذي (1197) وقال: حديث حسن صحيح.
وقد استشهِد الحمزةُ بن
عبدالمطلب يومَ أحد؛ فلم نقرأ أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم عقدَ له مجلسَ
عزاء، ولو مرة واحدةً، فضلاً عن تكرار ذلك في كلّ عام!
وقد استشهد جعفر بن أبي
طالب يوم مؤتة، فحزن عليه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، وبكى لفقده، وقال
للمسلمين: (اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا
يَشْغَلُهُمْ) أخرجه أبو داود (3132) والترمذي (998) وهذا لفظه، وقال:
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ،
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى أَهْلِ
الْمَيِّتِ شَيْءٌ لِشُغْلِهِمْ بِالْمُصِيبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ».
وتوفّيت بناتُ رسول الله
صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتوفي ولده إبراهيم عليهم السلام.
ولم ينقَل إلينا أنّ
الرسول صنعَ قبّةً مذهبةً لولده إبراهيم مثلاً، ولا أرّخ يومَ وفاته، ولا ندب
المسلمين إلى زيارته في كلّ عام!
هذه الأحاديثُ كلّها
صحيحةٌ في نقدِ الفقير عداب، وهي بمجموعها تكوّن هديَ المصطفى صلّى الله عليه وآله
وسلّم، في التعامل مع المتوفّين من المسلمين.
- فالبناء على القُبورِ
غير مشروعٍ أصلاً؛ لأنّ الأمرَ بالشيء؛ نهيٌ عن ضدّه.
والرسول أمر عليّا بهدم
القبور المُشرفة، فبناء القبور المشرفة غير مشروع.
- الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم خيرٌ من الحسين، وأعظم جهاداً واجتهاداً في عبودية الله تعالى، ومع ذلك
نهى أن يُبرَزَ قبره، كما نهى أن يجعلَ المسلمون زيارته (عيداً) معتادةً في كلّ
زمنٍ معيّن.
فإقامة المشاهدِ على أضرحة
شهداء آل البيت؛ خلاف الهدي النبويّ جزماً.
- سنّ رسولُ الله صلّى
الله عليه وآله وسلّم للمسلمين أن يتفقّدوا أهل الفقيدِ المتوفى بطعامٍ يوم وفاة
فقيدهم؛ لأنهم في حزن وأسىً قد يمنعهم حتى من إطعام صغارهم الذين لا يعقلون ذاك
الحزن.
ولم يشرع لهم زيارةً
سنويةً ولا أربعينية، تهدر فيها الأموال والأوقات، بلا معنى!
- ليس في كتب أهل السنة،
ولا في كتب الشيعة؛ حديثٌ واحدٌ صحيح في نَدب المسلمين إلى زيارةِ أيّ قبر، لا
قبرِ الرسول، ولا قبر الحسين.
وزيارة القُبور معلّلة
(لأنها تذكّر بالآخرة) أمّا زيارةُ القبور لتعظيم الميّت، وعدّ ذلك قربةً وعبادةً؛
فغير مشروعٍ البتة!َ
- ليس في كتب الشيعة
والسنة حديث صحيح واحدٌ في شيءٍ، اسمه «زيارةُ الأربعين» ولو لمرّة واحدة، فكيف بتكرارها
(1400) مرّة؟!
- ليس من هدي الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلّم إظهار الجزع والحزن أكثر من ثلاثةِ أيّام، ثمّ تنتهي مظاهر
الحزن على المتوفى إلى الأبد!
فليس في الإسلام زيارة أبي
حنيفة في اليوم الفلاني، وزيارة الجيلاني في اليوم الفلاني، وزيارة الكاظم في اليوم
الفلاني، وزيادة الشهيد زيد في اليوم الفلاني، هذه كلّها عاداتٌ مخترعةٌ، لا علاقة
لها بالدين من قريبٍ أو بعيد!
- وأخيراً: ما المقاصدُ
الشرعيّة التي تبتغى من وراء هذه البدعة الكبيرة (زيارة الأربعين)؟
هل فيها مصلحة لأمة
الإسلام، لا تتحق إلا بهذه الزيارة؟
- هل في تعطيل عشرة أيام
من محرّم، من أجل عاشوراء، وتعطيلِ شهرٍ كاملٍ من أجل الأربعين مصلحة شرعية لا
تتحقق إلا بهذه الزيارة المخترعة؟
- هل في إنفاق تلك الأموال
الطائلة على زيارةٍ بدعيّة أصلاً؛ ثوابٌ من الله تعالى؟
- هل استنفار عشرين ألف
جندي، وعشرة آلاف رجلِ أمنٍ من أجل هذه الزيارة البدعية يحقق لنا مقصداً شرعيّاً،
لا يتحقق إلّا بها؟
- هل وقعةُ كربلاء كلّها،
من بدايتِها إلى نهايتها، حقّقت مقصداً شرعيّاً، ينبغي اتّخاذه أسوةً تتكّرر في
كلّ عام؟
أو هو واقعةُ حالٍ
اضطراريّة، امتُحن فيها الإمام الحسين عليه السلام، فأصاب أو أخطأ؟
هل من النظر السياسيِّ
الذي يتعامل به جميع الخلق اليوم؛ أنّ قائداً خذلته عشيرتُه وأمّتُه، لم يناصره
منهم إلّا نفرٌ يسير؛ يجمع أطفاله وأطفال إخوانه ونساءه ليتعرّضوا لمثل هذه الميتة
المأساة؟
لم يكن بنو أميّةَ - على
ظلمهم وطغيانهم وصلفهم - يتعرضون للحُرَمِ والأطفال غير المحاربين، ومَن يقول غير
ذلك؛ فكذّاب!
فما كانت حاجةُ الحسين لأن
يصطحب معه أولئك النسوة الضعفاء، والصبية الصغار؛ ليذوقوا ما ذاقوه من قتلٍ وأسرٍ
وتشريد؟
- ثبت عندي أنّ معاوية -
عليه غضب الله - أرسل إلى الحسين رسالةً، يحذّره فيها من الثورة عليه، وقال له
فيها: «إنْ تكِدْني؛ أكدْك» فأجابه الحسين بجواب طويل: «وإني والله لا أجد لي
عذراً بترك جهادك».
فما الفرق بين معاويةَ
وكلبِه يزيد؟
إذا كان الحسين مضطرّاً
للصبر عن جهاد معاوية بقلّة الناصر؛ فهو مضطرٌّ لو أنّه صبر عن جهاد يزيد للسبب
نفسه!
ثمّ هل يقبلُ عسكريٌّ
اليومَ أن يثورَ على حاكمه الظالم المجرم، مثل يزيد، بناءً على مكاتباتٍ جاءته من
بلدانٍ، خذلت أباه وقتلته، وطعنت أخاه الخليفة؟
أنا أقول هذا الكلام؛
لأنني لا أعتقد بعصمة الإمام الحسين ولا الحسن ولا حتى عليّ بن أبي طالب، عليهم
السلام!
وأرى حركةَ الحسين -
بصورتها التي ذكرتُ - موقفاً اضطراريّا محضاً، لا يمكن أن يكون صواباً، في نظر أقلّ
قائدٍ عسكريٍّ ثائر!
ختاماً: لما تقدّم كلّه
أقول:
- ليس الاحتفال بذكرى
عاشوراء مشروعاً أبداً!
- ليس تعيين أيّام
لزياراتِ الأئمة والأولياء والصالحين مشروعاً أبداً.
- ليس جعل قبر أيّ عظيم
عيداً (معتاداً بوقتٍ) مشروعاً أبداً.
- ليست زيارة القبور
لتقديس الموتى وتعظيمهم مشروعةً أبداً، إنما المشروع؛ هو الزيارة الاتّفاقية، من
غير تعيين، للعبرة والعظة وتذكّر الآخرة.
- ليس في الإسلام شيءٌ
اسمه زيارة الأربعين، فهذا تقليد فرعوني وبابليّ وثني قديم.
وهؤلاء الوثنيون كانوا يعملونه
مرّةً واحدةً، ورافضة اليوم جعلوه عيداً سنويّاً تكرر ربما أكثر من ألف مرّةٍ حتى
اليوم!
خلاصة الكلام: إذا كانت
زيارةُ الأربعين غيرَ مشروعةٍ، فلا يسعنا أن نقول: إنّ الزائر مأجور على تلك
الزيارة، سواء مشى على قدميه أم ركب في السيارة.
ولا أرى مقصداً شرعيّاً
واحداً يتحقق من هذه الزيارة البدعيّة الكبيرة، بل أراها تفرز كثيراً من المفاسد
الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأمنيّة، بغير هدىً من الله تعالى، أو من سنّة
رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق