مَسائلُ حَديثيّةٌ (56):
القيمةُ العلميّةُ للأحاديثِ الأفراد!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
المنشورُ السابق (55) أثارَ لديّ التساؤلَ الآتي:
كيف وقعَ عالمٌ بحجم صاحب المنشورِ، بهذه القسوةِ
على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي أرسله الله تعالى ليبيّن للناس ما
أُنزل إليهم من ربهم؟
كيف يبيّن لهم ما أُنزل إليهم من لدن الله تعالى،
وهو عرضةٌ لأن يخطئ في فهم ما أنزله الله إليه، حتى يكون في رعيّته وتلامذته من هو
أنبهُ منه، وأحسنُ فهماً؟
وجدتُ الجوابَ، الذي أظنّه صحيحاً، وهو أنّ وجودَ
الحديثِ في صحيح البخاريّ، أو في صحيح مسلمٍ؛ غدا يوحي للباحثين بأنّ هذا الحديثَ
مقطوعٌ في صحّته، فتفريعُ الأحكام بعد ذلك عليه؛ أمرٌ مفروغ منه!
وهذا الكلام من أبطلِ الباطل، وأبعدِ شيءٍ عن
الحقَّ!
(1)- ففي الصحيحين عددٌ قليل من الأحاديثِ
المتواترة، التي يروي أحدَها أكثرُ من ستّة صحابةٍ عن الرسول صلّى اللهُ عليه وآله
وسلّمَ، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ لذاتها، ولنفترض أن نسبةَ صحّة هذه الأحاديث
(100%).
(2) وفي الصحيحين عددٌ أكبرُ من الأحاديثِ
المشهورةِ، التي يروي أحدها عن الرسول أربعةٌ من الرواة، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ
لذاتها.
ولنفترض أن نسبة صحة هذه الأحاديثِ (90%).
(3) وفي الصحيحين عددٌ يسيرٌ جدّاً من الأحاديثِ
العزيزة، التي يروي أحدَها عن الرسول صحابيّان فحسب، بأسانيد صحيحةٍ أو حسنةٍ
لذاتها.
ولنفترض أن نسبة صحة هذه الأحاديثِ (80%).
(4) وفي الصحيحين (3500) حديثٍ تقريباً؛ هي من
الحديثِ الغريب، الذي لا يُروَى بإسنادٍ صحيح عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم،
إلّا من طريق صحابيٍّ واحدٍ، فحسب!
هذه الأحاديثُ الغرائبُ، التي تُكوّنُ جملةَ بِنيةِ
الكتابين الصحيحين؛ ليست على درجة واحدةٍ من الصحة!
(أ) فلو نظرنا إلى جهة الرواة عن الصحابيّ؛ نجدُ
بعضَ الأحاديثِ، رواها عن الصحابيّ عشرةٌ من تلامذته!
وبعضها رواه عن الصحابي، تسعةٌ، ثمانيةٌ، سبعةٌ،
ستّة، خمسةٌ، أربعة، ثلاثة.
هذا موجودٌ من دون شكٍّ، حسب تخريجاتي للصحيحين،
لكنه قليلٌ، بل قليلٌ جدّاً!
وأكثر الموجود من هذه الغرائب؛ هو الذي يرويه عن
الصحابيِّ تابعيٌّ واحدٌ فحسب، وهذا الذي يُسمّى عند المحدّثين «الفردَ المطلقَ»!
وهذا الفردُ المطلق نفسه؛ تتفاوتُ درجات الصحة فيه،
بحسب عددِ الرواةِ عن التابعيّ!
فبعضَ الأحاديثِ الأفرادِ المطلقةِ، رواها عن
التابعيّ عشرةٌ من تلامذته!
وبعضها رواه عن التابعيّ، تسعةٌ، ثمانيةٌ، سبعةٌ،
ستّة، خمسةٌ، أربعة، ثلاثة.
وبعضها لم يروه عن التابعيّ، سوى واحدٍ من أتباعِ
التابعين.
فكم نعطي نسبةَ صحّةٍ لهذه الأفراد المطلقة؟
(ب) ولو نظرها إلى الأفراد المطلقةِ، من جهة
نوعيّةِ الرواة ومنازلهم في الجرح والتعديل؛ رأينا أعداداً كبيرةً جدّاً منهم من
أصحاب مرتبة الاعتبار «لا يُقبل من الواحد منهم، إلّا ما توبِع عليه» وهذا الذي
توبع عليه؛ ما درجتُه؟
هل سنعطيه درجة صحيح لذاته؟
صحيح لغيره؟
حسن لذاتِه؟
كلّا وألفُ كلّا!
في كثيرٍ من الأحايين؛ سنعطيه درجة حسنٍ لغيره!
وهي مرتبةٌ لا يُبنى عليها إثباتٌ ولا نفيٌ، ولا
حلالٌ ولا حرام، كما مرّ معنا مرّاتٍ كثيرةً على هذه الصفحة!
وكما قال ابن حجر في كتابه النكت على علوم الحديثِ
لابن الصلاح (1: 402):
«فأمّا
ما حرّرناه عن الترمذيِّ من أنّه يُطلق عليه اسم «الحسن» من الضعيف والمنقطع إذا
اعتضد؛ فلا يتّجِه إطلاقُ الاتّفاق على الاحتجاج به جميعِه، ولا على دعوى الصِحةِ فيه،
إذا أتى من طرق!
ويؤيد
هذا قولُ الخطيب البغداديّ: «أجمع أهلُ العلم أنّ الخبرَ لا يجب قبولُه، إلا مِن
العاقلِ الصدوقِ المأمونِ على ما يُخبر به».
وقد
صرّح أبو الحسن ابنُ القَطانِ «الفاسيُّ» أحدُ الحفّاظِ النُقّاد من أهل المغرب في
كتابه «بيان الوهم والإيهام» بأنّ هذا القسم «من الحسن» لا يُحتجّ به كِلِّهِ، بل
يُعمل به في فضائل الأعمال، ويُتوقّف عَن العَمل به في الأحكام.
إلا
إذا كَثُرَتْ طُرُقُه، وعضَدَه اتّصالُ عَمَلٍ، أو مُوافقةُ شاهدٍ صحيحٍ، أو عضده ظاهرُ
القرآن.
وهذا حَسَنٌ قَويٌّ رائِقٌ، ما أظنُّ مُنصِفاً
يأباه، والله الموفق».
فأنتَ - أيها الباحثُ المسلم - عندما تتناوَل أحدَ
الأحاديثِ التي في الصحيحين؛ يجب أن تستحضر المعانيَ السابقةَ التي ذكرتُ لك، فلا
تهجُم على الحديثِ، وكأنّه آيةٌ قرآنيّة مقدّسة!
لا يا أخي لا!
بين ثُبوتِ آياتِ القرآن العظيم، وثبوتِ الروايات
الحديثيّة من القوّة، كما بين المشرقِ والمغربِ!
ويكفي أن تعرف بأنّ في رواة الصحيحين:
(200) راوٍ ترجمهم ابن حِبّان في كتابه المجروحين!
(143) راوٍ، قال فيهم ابن حجر: «مقبول» والمقبول من
يُقبَل حديثه عند المتابعةِ في درجة «حسن لغيره».
(43) راوٍ، وصفهم الحفّاظ بالجهالة!
مئاتُ الرواةِ، وصفهم ابن حجر بقوله: «صدوق» وما
يتفرّد به الصدوق، فمن دونه؛ يُعَدّ منكراً!
فإذا كنت لا تعرف هذه الأمور نظريّاً وتطبيقاً؛
فكيف تجوّز لنفسك أن تحتجَّ بحديثٍ في صحيح البخاريّ، أو صحيحٍ مسلمٍ، هكذا على
سواء؟!
خِتاماً: أنصح إخواني طلبةَ العلمِ والمثقفين أن
يَكُفّوا عن الطَعنِ في الصحيحين، وعن التعصّب للصحيحين معاً، فالطرفان في درجة
الجهل بالصحيحين سواء!
ولا تلتفتوا إلى دعاوى الإجماعِ على صحّة ما في
الصحيحين، فهي دعوى فارغة، لا تساوي حتى بصلة!
وقد خرّجت من صحيح البخاريّ (1394) حديثاً
متسلسلةً، من أحاديثِ الأحكام، فكانت نسبة «الحسن» منها (63%).
ولستَ في حاجةٍ - أخي المسلم - إلى أن تُعرّض نفسَك
إلى سخطِ الله تعالى، فتَشغل نفسك فيما لا تحسنه، ولا يحسنه شيوخُك ولا شيوخُ
شيوخك أيضاً!
إنّ «علم نقدِ الحديثِ» علم مُغلقٌ مُقفَلٌ، لا
يحسنه في كلّ عصرٍ إلّا أفرادٌ، أمضوا أعمارَهم في تعلّمه، والتنقير عن خباياه
التي لا تنتهي!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق