مَسائلُ حَديثيّةٌ (55):
خطأُ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم في فهم آية!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحد علماءِ الحديثِ الأفاضل منشوراً
للشريف حاتم بن عارف العَوني، ينسب فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الخطأَ
في فهم آيةٍ قرآنية وتطبيقها.
بينما كان عمر أحسنَ فهماً لها من الرسول!
وسألني هذا الفاضل: «ما رأيكم بكلام الشيخ العَونيّ»؟!
أقول: يحسن أن أخرّج هذا الحديثَ، ثم أنتقل إلى
فهمه.
بإسنادي إلى الإمام البخاري في تفسير القرآن (4670)
قال رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؛ جَاءَ ابْنُهُ
عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ،
فَأَعْطَاهُ.
ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ
عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ
عَلَيْهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ، فَقَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُهُ عَلَى
السَّبْعِينَ!
قَالَ عُمر: «إِنَّهُ مُنَافِقٌ»!
قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ).
أعاد البخاريُّ الحديثَ في الجنائز (1269) وفي
التفسير (4672) وفي اللباس (5796).
وأخرجه مسلم في فضائل عمر (2400) وفي صفات
المنافقين (2774) والترمذيّ في التفسير (3098) وقال: حسن صحيح.
قال الشريف حاتم: «القصة مليئةٌ بالفوائد والعِبَر،
لكنْ استوقفني خطأ النبيّ صلّى الله عليه وسلم، في تفسير الآية (اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) مع ظهور معناها، حتى إنّ عمر رضي الله عنه فهمها
كما أراد الله تعالى.
لقد فهمها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أنّ
العددَ فيها مقصود، وأنّ الزيادةَ على سبعين استغفاراً قد تنفع، في حين أنّ المعنى
في الآية ظاهر، وأنّ العدد جاء للتكثير والتعجيز، وليس مقصوداً، ولذلك اعترض عمر»
إلخ كلامه المتهافتِ الذي يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليه على صفحته!
مَدارُ حديثِ الباب على عبيدالله بن عمر العمري،
رواه عنه جمعٌ من الثقات.
وهو يروي الحديثَ عن نافعٍ مولى عبدالله بن عمر، عن
عبدالله بن عمر، عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فالحديث بهذا اللفظ؛ فردٌ مطلقٌ غريبٌ، لم يروه عن
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا عبدُالله بن عمر، ولا عنه إلّا نافعٌ،
تفرّد به عبيدالله بن عمر العمريّ.
والمنطقُ العلميّ يقول: إذا كان في متن الحديثِ
لفظٌ مستنكَر؛ فإننا نلصقه بأضعف راوٍ في السنَد، ولا نرتفع به إلى الصحابيّ ما
أمكن، فضلاً عن رفعه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!
ونافعٌ هذا؛ مولىً من الموالي، وكان في لسانِه
لُكنةٌ، وكان لحّاناً في العربيّة!
ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام (3: 328) فقال:
قَالَ
ابن وهب: قَالَ مالك: كنتُ آتي نافعاً، وأنا حديث السنّ ومعي غلام لي، فيقعد
ويحدّثني، وكان صغيرَ النفس، وكان فِي حياة سالمٍ لا يفتي شيئًا.
ورَوى
مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه، عَنْ مالك قَالَ: كَانَ فِي نافع حِدَّة!
ثم
حكى أَنَّهُ كَانَ يلاطفه ويداريه، وقيل: كَانَ فِي نافع لَكْنَةٌ.
وقَالَ
إِسْمَاعِيل بْن أُمَّية: كُنَّا نرد عَلَى نافع اللَحْنَ، فيأبى.
أفمثلُ هذا الرجل الأعجميّ نقدّسُ روايتَه، ونخطّئ
بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
(سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)!؟
ولا أريد أن أرتفع إلى ابن عمر رضي الله عنهما، إذ
لم يكن هو الآخر من النابهينَ، أقوياءِ الحفظ!
فقد أخرج البخاري في الحجّ (1776) ومسلم في الحج
(1255) من حديث مجاهدٍ قال: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ
الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسٌ
إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ
الضُّحَى.
قَالَ مجاهدٌ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ؟
فَقَالَ: بِدْعَةٌ!
ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: أَرْبَعاً، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ!
قال مجاهد: فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ!
قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ عُرْوَةُ:
يَا أُمَّاهُ، يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أَلَا
تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ؟
قَالَتْ: مَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ،
إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ!
قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ،
مَا اعْتَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ عُمْرَةً، إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا
اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ»!!
أفما كان الأليق بذكاء الشريف حاتم أن يلصق الخطأَ
في فهم الآية - على حدّ تعبيره - بابن عمر، أو بتلميذه نافع، أو بهما معاً، بدلاً
من تخطئةِ الذي لا ينطق عن الهوى؟
وبإسنادي إلى الإمام البخاريّ في صحيحه، كتاب
الجنائز (1366) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ
دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ
عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ
وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَخِّرْ
عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إِنِّي خُيِّرْتُ
فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ
لَزِدْتُ عَلَيْهَا) الحديث.
وأعاده البخاريّ في التفسير (4671) بمثله في موضع
الشاهد!
وأخرجه أحمد في مسنده (91) والنسائيّ في سننه
(1966) والترمذي في جامعه (3097) جميعاً من حديث ابن شهابٍ الزهريّ عن عبيدالله بن
عبدالله بن عتبة المسعوديّ، عن عبدالله بن عباس، عن عمر، به مثلَه، وقال الترمذيّ:
حديث حسن صحيح غريب.
وهذا إسنادٌ فردٌ مطلقٌ أيضاً، لكنه خيرٌ من إسناد
الحديثِ السابق!
فعمر بن الخطّاب؛ أوعى من ابنه عبدالله، وأذكى
بأشواط، وكذلك عبدالله بن عباس ترجمان القرآن!
وعبيدُالله المسعودي؛ أحفظ من نافعٍ وأفقه، وهو
عربيّ هُذَليّ!
قال أبو العباس القرطبيّ في المفهم في شرح صحيح
مسلم (2: 741) بعد سياقته حديث عبدالله بن عمر: « والذي يظهر لي - والله تعالى
أعلم - أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقةً هي أتقن من هذه،
وليس فيها هذا اللفظ».
وقال
أيضاً في الموضع نفسه: «قلت: وهذا مساق حسن وترتيب متقن، ليس فيه شيء من الإشكال
المتقدّم، فهو الأولى
وقوله
صلى الله عليه وسلم «في حديث ابن عمر»: (سأزيد على السبعين) وعد بالزيادة، وهو
مخالفٌ لما في حديث ابن عباس، فإنّ فيه: (لو أعلم أني إن زدت على السبعين، غُفر
له؛ لزدت).
وقد
قلنا: إن هذا الحديث أولى.
وتخصيص
اللهِ تعالى العددَ بالسبعين؛ على جهة الإعْياء، وعلى عادة العرب في استعمالهم هذا
العدد في البعد والإعياء.
فإذا
قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنةً؛ صار عندهم بمنزلة قولهم: لا أكلمه أبدًا.
ولذلك
قال صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أني، إذا زدت، غفر له؛ لزدت) فقد علم أنه لا
يغفر له».
ختاماً:
في كلا الحديثين إشكالاتٌ، لكنّ الإشكالاتِ في حديث ابن عمر صارخة.
وإذ
إنّ عمر فهم ما أراده الشريفُ العوني؛ فإنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛
أعلم وأفهم وأبلغ من الشريف العونيّ، ومن نافعٍ الأعجميّ، ومن ابن عمر، ومن عمر
أيضاً.
فكان
الواجب على الشريف؛ أن لا يتسرّع هذا التسرّع القبيح، فينسب الخطأ إلى مَن أوتي
جوامع الكلم، بدلاً من أن ينسبه إلى أعجميّ، كان يلحن، ويأبى أن يصوّب لحنَه، أو
إلى عبدالله بن عمر المعروف بأنه ظلَّ عشرَ سنوات، حتى أنجز حفظ سورة البقرة!
أليس
هؤلاء أولى بسوء الحفظ، من نسبة سوء الفهم إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
اللهم
نعم وألف نعم!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق