مَسائلُ حَديثيّةٌ (32):
التَخْفيفُ عَن أبي طالب!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
مسألةُ مَوتِ سيّدنا أبي طالبٍ على الشركِ؛ تكادُ تكونُ
من مسلّمات أهل السنّة!
لكنهم يقولون: إنّ الرسول صلّى الله عليه وآله
وسلّم؛ شفعَ له عند موته، أو سيشفع له يوم القيامة؛ فخفّف الله بشفاعةِ الرسول
الأكرم عن أبي طالب، فهو في ضحضاح من النار، ولولا تلك الشفاعةُ؛ لكان في الدرك
الأسفل من النار!
وقد ورد في الصحيحين حديثان، يثبتان أنّ أبا طالبٍ
في النار، وكلاهما يثبت أنه في ضحضاح من النار، والضحضاح: الماء القليل الذي لا
يصل إلى منتصف الساق!
لكنْ ليس في حديثِ العبّاس بن عبدالمطّلب (يغلي
منهما دماغه) إنما غليان الدماغ في حديث أبي سعيد الخدريّ، ونعوذ بالله من الهوى
الجارف!
وقد أخرج هذين الحديثين جمعٌ غفيرٌ من أهل السنّة،
لكنّ مداره على عبدالملك بن عمير، رواه عنه جماعة.
فقد أخرج حديثَ العباسِ الإمامُ أبو بكرٍ البزّار
في مسنده المعلل (1311) وقال: « وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ
الْعَبَّاسِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْعَبَّاسِ».
فما دام مداره على عبدالملك بن عُمَير، وهو مرويّ
في الصحيحين عنه؛ فنقتصر على تخريجه من الصحيحين؛ لأنّ تخريجه في مصدرٍ واحدٍ أو
في ألفِ مصدَرٍ سيّان، ما دام مدارُس الحديث واحداً معيّناً.
أقول وبالله التوفيق:
بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في المناقب، باب قصّة
أبي طالب (3883) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى «بنُ
سعيدٍ القطّان» عَنْ سُفْيَانَ «بن سعيدٍ الثوريّ»: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ «بنُ
عمير اللخمي»: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ الْحَارِثِ «بنِ نوفلٍ المُطّلبي»: حَدَّثَنَا
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «أنّه» قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ،
فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ، وَيَغْضَبُ لَكَ»؟
قَالَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (هُوَ فِي
ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنا؛ لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ
النَّارِ).
وأعاده البخاريّ في كتاب الأدب من الجامع (6208) من
حديث أبي عوانةَ الوضّاح اليشكريّ عن عبدالملك بن عمير، به مثله.
وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه (209)
من طريق أبي عوانةَ الوضّاح عن عبدالملك بن عمير، به مثله.
وأخرجه البزّار في مسنده المعلل (1311) وقال: «
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ
بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْعَبَّاسِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ.
فَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَأَجَلُّ مَنْ رَوَى ذَلِكَ؛
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
قال الفقير عداب:
نقلتُ قولَ البزّارِ ليتأكّد القارئ الكريم أنّ
مدار الحديثِ على عبدالملك بن عُمَيرٍ اللخميّ قاضي الكوفة.
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (37: 53):
«عبدُالملك بن عمير اللخمي من أهل قرية نَوَى، من
قرى دمشق» ونَوى، وقد تُكتبُ نوا: هي القريةُ التي يُنسبُ إليها الإمامُ النوويّ.
المرادُ من نقل موطن ولادته؛ أنّ الرجل شاميُّ
الولادة والنشأة، وهم عندما ينسبونه كوفيّاً؛ فلأنه تولّى قضاء الكوفة، بعد موت
عامرٍ الشعبيّ.
وفي هذا الحديثِ؛ لا أحتاجُ إلى التنقير عن هوى
عبدالملك بن عميرٍ الناصبيّ، فلديه ما هو أطمّ، مما لا يخالفنا فيه أهل السنة!
ولا أريد أن أتوسّع في ترجمته، بل سأقتصر على ما
قاله الذهبيُّ الذي لا يُتَّهم بالتعصّب على أهل السنّة، إضافةً إلى أنّه يثني على
عبدالملك بن عمير!
قال الذهبيّ في تذكرة الحفّاظ (1: 102): «عبدالملك
بن عمير الإمام أبو عمر اللخمي الكوفي: وَلِي قضاءَ الكوفة بعد الشعبيِّ، وكان من
العلماء الأعلام.
قال النسائي وغيره: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس
بحافظ. وقال يحيى بن معين: هو مُخَلّط!
قلت: ما اختلط الرجلُ، ولكنه تغير تَغَيُّرَ الكِبَر،
وضعفه أحمد ابن حنبل لغلطه.
واحتج به الشيخان، عاش أزيد من مائة عام (ت: 136
هـ) وقيل: قبل ذلك!
قولُ الذهبيّ: «ما اختلط، وإنما هو تغير الحفظ من
الكِبَر» لا قيمةَ له البتّةَ من الناحية العمليّة لأمرين:
الأمر الأوّل: أنّ أولئك الحفّاظ أقربُ عصراً إلى
عبدالملك بن عمير، بقرون كثيرةٍ من الذهبيّ، وهم سادةُ المحدّثين في عصورهم.
الأمر الثاني: أنّ تغيّر الحفظِ؛ من أكبر أسباب
تضعيف الرواة، فتكون المحصّلة واحدةً!
وترجمه
في ميزان الاعتدال (2: 660) وقال: « الكوفي الثقة، كان من أوعية العلم، وِلِيَ
قضاء الكوفة بعد الشعبي، ولكنه طال عمره، وساء حفظُه.
قال
أبو حاتم: ليس بحافظ، تغير حفظه.
وقال
أحمد: ضعيف، يغلط.
وقال
ابن معين: مخلّط.
وقال
ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه.
وذكر
الكوسج، عن أحمد: أنه ضعفه جداً.
قال
عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن عبد الملك بن عمير، وعاصم بن أبي النجود؟
فقال:
عاصمٌ أقلّ اختلافاً عندي، وقدّم عاصماً.
قلت:
لم يورده ابن عدي، ولا العقيلي، ولا ابن حبان، في الضعفاء، وقد ذكروا فيها من هو
أقوى حفظاً منه.
وأما
ابن الجوزي فذكره فحكى الجرح، وما ذكر التوثيق».
قال
عداب: الإمام أحمد يضعّف عاصمَ بن أبي النجود، فعبدالملك أضعف منه عنده!
وكلام
ابن الجوزيّ لا غبار عليه، فليس الناقد مطالباً بذكر الجرح والتعديل، إذ الأصلُ في
الإمام العالم أن يكون ثقةً، فلمّا لم يكن كذلك؛ يقتصرُ الناقدِ على الأمور التي
خرجَ بها هذا العالم عن حدّ الثقة!
وترجمه
الذهبيّ في النبلاء (5: 438) وقال: « الكُوْفِيُّ الحَافِظُ !
قَالَ
عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: لَهُ نَحْوُ مائَتَيْ حَدِيْثٍ.
قَالَ
النَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
وَقَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: صَالِحُ الحَدِيْثِ، لَيْسَ بِحَافِظٍ، تَغَيَّرَ حِفْظُه قَبْلَ
مَوْتِه.
وَرَوَى
إِسْحَاقُ الكَوْسَجُ، عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، قَالَ: مُخَلِّطُ.
وَقَالَ
عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ الهِسِنْجَانِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ ابنَ حَنْبَلٍ
يَقُوْلُ: عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ مُضْطَرِبُ الحَدِيْثِ جِدّاً، مَعَ
قِلَّةِ رِوَايَتِه، مَا أَرَى لَهُ خَمْسَ مائَةِ حَدِيْثٍ، وَقَدْ غَلِطَ فِي كَثِيْرٍ
مِنْهَا.
وَذَكَرَ
إِسْحَاقُ الكَوْسَجُ، عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ ضَعَّفَه جِدّاً.
وَرَوَى:
صَالِحُ بنُ أَحْمَدَ ابنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: سِمَاكُ بنُ حَرْبٍ
أَصلَحُ حَدِيْثاً مِنْ عَبْدِالمَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ
المَلِكِ يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الحُفَّاظُ».
وترجمه
ابن حجر في التقريب، فقال: « ثقة فصيح عالم، تغيّر حفظُه، و ربما دَلّس».
قال
الفقير عدابٌ:
هل
يَثبتُ عندكم عقيدةٌ بحديث ينفرد بروايته راوٍ مثل عبدالملك بن عمير؟
أخرج البيهقيّ حديثَ العباس هذا في شعب الإيمان (1:
440) ثمّ قال:
«ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ خَيْرَاتِ
الْكَافِرِ؛ لَا تُوزَنُ لِيُجْزى بِهَا بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا تُوزَنُ قَطْعًا لِحُجَّتِهِ، حَتَّى
إِذَا قَابَلَهَا الْكُفْرُ؛ رَجَحَ بِهَا وَأَحْبَطَهَا!
أَوْ لَا تُوزَنُ أَصْلاً، وَلَكِنْ يُوضَعُ
كُفْرُهُ، أَوْ كُفْرُهُ وَسَائِرُ سَيِّئَاتِهِ فِي إِحْدَى كِفَّتَيْهِ، ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ طَاعَةٍ نَضَعُهَا فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى؟
فَلَا يَجِدُهَا، فَيَتَثَاقَلُ الْمِيزَانُ،
فَتَرْتَفِعُ الْكِفَّةُ الْفَارِغَةُ، وَتَبْقَى الْكِفَّةُ الْمَشْغُولَةُ
فَذَلِكَ خِفَّةُ مِيزَانِهِ، فَأَمَّا خَيْرَاتُهُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُحْسَبُ
بِشَيْءٍ مِنْهَا مَعَ الْكُفْرِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَقَدِمْنَا إِلَى
مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
سيقول بعضُ الإخوةِ: لكنّ للحديث شواهدَ، منها حديث
أبي سعيدٍ الخدريّ في الصحيحين أيضاً، أفلا يتقوّى هذا بذاك؟
أقول: إنّ إثباتَ العقيدةِ يَحتاجُ إلى حديثٍ
مشهورٍ، غيرِ معارَضٍ بآيةٍ من كتاب الله عزّ وجلّ، وليس إلى أحاديث متهالكةٍ
واهية، تعارض القرآن الكريم!
وسأعرض عليكم تخريجَ حديث أبي سعيدٍ الخدريّ وغيره
تِباعاً، حتى لا أثقل عليكم بتطويلِ المنشور أكثر مما طال!
ختاماً: حديث العباس بن عبدالمطّلب الذي ينصّ على
أنّ أبا طالب رضي الله عنهما في النار، لكنّه في ضحضاح منه؛ حديث باطلٌ، لا يقوى
على إثباتِ حقٍّ أو إبطال باطل!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق