مسائل فكريّة (23):
بينَ محمد بن عبدالوهّاب، ومحمد ناصر الألباني
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
عَدَدٌ من الإخوةِ
المتابعين؛ أرسلوا إليّ ما معناه: أنتَ تجاملُ الشيخ الألباني؛ لأنّ تلامذته
كثيرون، يمكن أن يشوّشوا عليك، بينما تتحامل على الشيخ ابن تيمية والشيخ محمّد بن
عبدالوهّاب؛ لأنّ زمنهما مضى وانقضى!
أقول وبالله التوفيق:
الشيخ محمد ناصر الألباني
رحمه الله تعالى؛ لا أعرفه، ولم أجتمع به خمسَ دقائقَ في حياتِه الطويلة كلّها.
وليس الشيخ الألباني أحبَّ
إليّ، أو أعزّ عليَّ من شيوخي الذين ربَّوْني وتعلّمتُ على أيديهم.
بل ليس أحدٌ منهم أحبَّ
إليّ من سيّدي ووالدي رضي الله عنه، وقد تكلّمت عنه كثيراً، كما تعلمون، وآخر
كلامي عنه كان أوّلَ أمس!
وتلامذةُ الشيخ الألباني -
قلّوا أم كثُروا - لا يخطر أحدٌ منهم على بالي أبداً، عندما أمدحُ الشيخ الألباني،
أو أنتقده.
مِنذُ أرشدني سيّدي الشريف
محمد الحافظ التجّاني رضي الله عنه، عام (1976) إلى كتب الشيخ الألباني، وقرأتُ
تحت نظره وإشرافه ما كان موجوداً منها في مكتبة السيّد الحافظ، وإلى عام (1985م)
كنت أقول: لا تطلع شمسُ يومٍ أو تغربُ؛ إلّا وللشيخ الألبانيّ في عنقي منّةٌ
جديدة!
بعد العام (1986) انتقلتُ
خطوةً مديدةً، من مرحلة التقليدِ والمتابعةِ في الحديث وعلومِه الكثيرة؛ إلى
مرحلةِ التمييز والترجيح!
فغدوتُ قادراً على التمييز
بين صوابِ الشيخ الألباني وخطئه، وبين صواب غيره وخطئه، كائناً مَنْ كان، بَدْءاً
من الصحابةِ رضي الله عنهم، وانتهاءً برجال عصرنا اليوم!
ولهذا فقد عدّلتُ كثيراً
في كتابي «منهج ابن حبّان في الجرح والتعديل» وفي كتابي «الرواة
المسكوت عليهم» وفي أكثرِ أبحاثي القديمة التي كتبتها منذ العام (1977 - 2009م).
عندما أقمتُ في
الحجاز؛ كنت أقول: الشيخ محمّد بن عبدالوهّاب جاهل، ليس عالماً بأيّ فنٍ من فنون
الشريعة، وقد قلت في إحدى محاضراتي بكلية التربية - فرع الطائف ذلك، وبرهنتُ عليه،
فسألني أحد الطلاب: شيخَنا تعني أنت أعلمُ منه؟
قلت له باللهجة
السورية: ويلاك فلان: أنتَ أعلمُ منه!
لكنّني غيّرتُ رأيي
فيما بعد، وغدوتُ أقول: هو في مستوى علماء عصره من مشايخنا!
قرؤوا على أشياخهم
عدداً من المتون، ثم أجيزوا، فصاروا علماء، بينما هم في الحقيقة قرّاء متون، وفي
أحسن الأحوال؛ هم حفّاظ متون!
أمّا الشيخ الألبانيّ؛
فرجلٌ عالم في مذهبه الحنبليّ على أقلّ تقدير، وهو محدّث كبيرٌ على مدى خمسين سنةً
من عمره.
صحيحٌ أنّه يحكم على
ظاهر الإسناد، ولا يخوض في التعليل، إذا لم يُسبَقْ إليه، لكنْ مَن هو هذا
المجتهدُ في النقدِ، منذ خمس مائة سنة، وإلى اليوم؟
على طالبِ العلم أن
يكون منصفاً، مُقرّاً بالتقدّم لمن هو أهلٌ له، بمعزلٍ عن الدوافع السياسيّة
والمذهبيّة الظالمة.
إذا قلنا: الشيخ
الألباني؛ ليس بعالمٍ، وعلومُه منتشرةٌ في أصقاع الدنيا؛ فمن العالم؟
إنّ كلّ فقيه غير
محدّث، وكلّ مفسّر غير محدّث، وكلّ متكلّم غير محدّث؛ اجتهاداته مهزوزة، عرضةٌ
للإسقاط، متى حضر المحدّث!
كنتُ واقفاً مع أحد
كبار أساتذة علم الكلام، في كلية العلوم الإسلامية، بجامعة بغداد، وكان يَفْرِد
ريشَه علينا، ويُظهر لنا بأنّ علمَ الكلام؛ أشرف العلوم، وأنّ علينا أن نتفرّغ
سنةً كاملةً لدراستِه وحدَه، رحمه الله تعالى.
في هذه الأثناء، أقبل
طالبٌ من طلبة الكليّة، وسأل الأستاذَ عن حديثٍ أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها
أنها كانت تدفئ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بطريقةٍ فجّة قبيحة!
فراحَ أستاذنا يلفّ
ويدور، حتى قال له ولنا: يصير بين الرجل وزوجته أكثرُ من هذا!
لكنْ لم يكن من حقّ
عائشة أن تقول هذا، هذه أسرارٌ تبقى بين الزوجين الحبيبين داخل غرفة النوم، ثمّ
ذهب يستطرد، فذكر ما قاله ابن عبّاس، وما قاله الحَجّاج.
ههنا تدخّلت أنا، وقلت
له: يا مولانا، رضي الله عنك: هذا حديثٌ انفرد به أبو داود البصريّ، وهو حديث ضعيف
الإسنادِ، منكر المتن!
لكنّ النواصب؛ لا
يستطيعون إلّا أن يسيؤوا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته، قصدوا
أم لم يقصدوا.
أرأيت يا سيّدنا كيف
أنّ علم الحديثِ قاضٍ على جميع العلوم ومهيمنٌ عليها؟!
ختاماً: أنا أجلّ
وأحترم عدداً من الإخوة الذين نشأوا في تلك البيئة الوهّابية، تخصّصوا في علوم
الحديث، وقدّموا لنا دراساتٍ رائعةً مباركةً، تدلّ على صبرهم وصدقهم وعدم تحيّزهم.
مع أنّني قلت لشيخي
ابن باز رحمه الله تعالى: يا جناب الشيخ: أنا لست حنبليّاً في الاعتقاد، ولست
حنبليّاً في الفقه، والشيخ محمد بن عبدالوهّاب لا أحبّه أبداً، فهو إنسان دمويّ
قاتل مجرم!
أنا لا أتذكر بأنني
ترحمت على ابن عبدالوهّاب مرّةً واحدةً في حياتي، وأسأل الله تعالى أن يعامِلَه
بعدله.
لكنني أستغفر للشيخ
الألبانيّ، وأترحّم عليه، وأرجو له من الله تعالى العفو والمغفرة ورفعة الدرجة، مع
أنني لم أكن أحبّه في حياته، أو أرغب بلقائه أيضاً.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحَمْدُ للهِ على كلِّ
حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق