اجتماعيات (64):
هَلْ حُبُّ الجمالِ فِطْرَة؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أخرج الإمام مسلمٌ في كتاب الإيمانِ (91) من حديث عبدالله
بن مسعودٍ، رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّ
الله جميلٌ يحبّ الجمال).
وإذا كان جمالُ الله تعالى المناسبُ لذاته المقدّسة
الغيبيّة يعني الجلال والكمال، والجمالُ المناسب لأفعاله؛ أنّه لطيفُ بنا، رؤوف
رحيم، لا يكلّفنا فوق طاقتنا، يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر؛ فإنّ حُبَّه
للجمال يعني حَثّه على بلوغِ الكمالاتِ في التقوى والأخلاق والسلوك.
وإذْ هو تعالى يحبّ الجمالَ؛ فقد خلق الإنسانَ في
أحسن تقويم، وخلق لنا جمال السماء وجمال البحار والأنهار، وجمالَ الينابيع
والعيون، وجمال الجبال الخضراء والحمراء والبيضاء والسوداء، وجمال الحقول
والبساتين، وجمال الحدائق والطيور، وجمال الأصواتِ والنغمات، وجمال الزهور والورود
والرياحين، وجمال الغِلالِ والثمارِ، وفطرنا على حبِّ الجمالِ.
وأعظم دليلٍ على هذه الفطرةِ؛ اشتراكُ جميع البشر
في حبّ ما تقدَّم كلّه، وسكونهم إليه، ورغبتهم في التمتّع به!
حبّ الجمال فطرة، والجمال: اسمُ جنسٍ يشمل جميعَ ما
يندرج تحته ممّا حثّ عليه الشرع ورغّب فيه وندب إليه.
وإذا كان من معاني الجمالِ؛ اكتمالُ صفاتِ الموصوف
بالجمال؛ فإنّ عظيمَ صنع الله تعالى في خلقه، وإبداعه كلَّ شيءٍ في هذا الوجودِ،
وَفق سنن معلومةٍ ونواميس مطّردةٍ؛ هو من أعظم الجمال.
ولعلَّ انصرافَ ذهن الإنسانِ - إذا ذُكِرَ الجمالُ
- إلى جمالِ الإنسان ذاتِه؛ فلأنّ الإنسانَ يَركنُ إلى الصور الحسنةِ، وينفرُ من
الصور القبيحة!
فإذا شاهدَ الإنسان مبتلىً من ذوي الإعاقاتِ؛
يصيبُه قَبضٌ وانزعاجٌ، وحتى لا يتحرّك في نفسه جانبَ الإنكار والاعتراض؛ ندبه
الشارع الحكيم إلى تذكّر نعمةِ الله عليه؛ ليقوم بحمده وشكره، فيقول: (الحَمْدُ للهِ
الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقَ تَفْضِيلًا) أخرجه جمع من المصنفين، من حديث عبدالله بن عمر، ومن حديث أبي
هريرة، منهم الترمذيّ في الدعوات (3431، 3432) وهو حديثٌ حسنٌ عندي.
قال الترمذيّ: «وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ «الباقر» أَنَّهُ قَالَ:
إِذَا رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ؛ يَتَعَوَّذُ، يَقُولُ
ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ».
وممّا يتعيّن الالتفاتُ إليه أنّ سنّةَ الله تعالى
في الحياة الدنيا مختلفةٌ عمّا في الآخرة، فقد جعل اختلاف الألوان في الدنيا لوناً
من ألوان الجمال الذي ابتدعه، وآيةً من آياتِ قدرته وحكمته، وإن ظنّه بعضهم محنةً
لبعض خلقِه به!
قال الله تعالى:
(وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) [النحل].
(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (69) [النحل].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ
الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
(27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) [فاطر].
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
[الزمر].
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِلْعَالِمِينَ (22) [الروم].
فقد عَدَّ اللهُ اختلافَ ألسنة البشر وألوانهم؛
آياتٍ وبراهينَ شاهدةً على حكمته وقدرته.
وما دام الأمر كذلك، فالناس بألوانهم وتقاطيعهم؛
متساوون في المنزلة، والتفاضل بينهم لا يكون بجمال الصورة الظاهرة، إنما بالتقوى!
قال الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[الحجرات].
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) [الحجّ].
ومسألةُ ألوان الناس يومَ القيامةِ - وربما ألسنتهم
أيضاً - مختلفةٌ عمّا هي في الدنيا.
قال الله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (107) [آل عمران].
وقال جلّ وعزّ: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) [سورة: طه] زرقاً: يعني
سوداً.
وهذا يعني أنّ أهل الجنّة يكونون يوم القيامةَ
بيضاً، بينما يكون أهل النار سودَ الألوان.
ولم تكن لدى أمّة العرب - وفي طليعتهم بنو هاشم -
مشكلةٌ أو أزمةٌ مع اللون الأسود أبداً، فقد كانت والدةُ جدّنا عليّ الرضا بن موسى
الكاظم جاريةً نوبيّةً سمراء!
إنّما كرّس حساسيةَ الألوانِ والتقاطيع؛ الاستعمارُ
الغربيّ الملحد المتوحّش، فغدا لدى الأفارقة السودِ حساسيةٌ من كلّ ذي بشرةٍ
بيضاء!
وقد ذكرت في منشور سابقٍ؛ أنّ عدداً من إخواننا
الأفارقة - من غير العرب - كان تَعلُّمُ تلاوة القرآن عليهم أشقَّ منّا، وكان
شيخنا الشريف محمد سليمان أحمد الشندويليّ، رضي الله عنه يعطيني من الوقتِ ما لا
يعطي أحداً غيري، ظنّا منه أنني سأكملُ القراءات السبعَ، وأكون من شيوخ تعليم
القراءات القرآنية!
ذات يومٍ كنت أقرأ عليه برواية ورش عن نافع، ونزل
عليه وعليّ من السكينة ما لم يحدثْ من قبل، فبكى هو، ودمعت عيناي، وكان هذا سبباً
في تأخّري على زملائي أكثرَ وأكثر، فنهضوا وهجموا عليّ، وضربوني ضرباً مبرّحاً،
وهم يقولون بصوت واحدٍ تقريباً: «أبيض، أزرق، كافر، ملعون» (ههه ههه ههه).
ثم تصالحنا، ودعوتهم إلى بيتي، وأكرمتهم، وأفهمتهم
أنّ المسألة ليست أثرةً مني، إنما هو تقدير شيخنا، فربما أنا أساعده مستقبلاً،
فأقرؤكم!
كان لنا في مجلس القرآن المبارك هذا زميلٌ حمويّ
يحبّ المزاح، فاجتمع ببعض الأفارقةِ وقال لهم: نحن نعرف جمال المرأة بكذا وكذا من
الصفات، فكيف تعرفون جمالَها أنتم؟
وسألهم سؤالاً آخر: هل ترغبون أن تتزوجوا من نساءٍ بيضٍ؟
حدّثني أنهم جميعاً رفضوا ذلك وقالوا: نحن نقرفُ من
هذا، قصارى ما نفعله هو النظر إليهنّ، وهذا يعني أنّ الأبيضَ يألفُ البيضاءَ،
والأسمر يألف السمراء!
وما دام البياض والسوادُ آيتين من آياتِ الله
تعالى؛ فأرى أنّ علينا المحافظةَ على بقاء هذا التمايز ظاهراً، فيتزوّج الأسمر من
السمراء، والأبيض من البيضاء، ليس من قَبيل العنصريّة - معاذ الله - وإنما لأنّ
شيوعَ زواج البيض من السود والعكس؛ سيجعل البشرية كلَّها سوداء؛ لأنّ اللون الأسود
غالب.
كان لي زميلٌ حمويٌّ مقرئٌ فاضل ضرير «أبيض، أزرق»
على حدّ قول إخواننا الأفارقة، تزوّج سودانيّة، وأنجب منها أولاداً وبناتٍ!
زارني في عمّان قُبيل إجراء عملية السرطان لي، في
أواخر عام (2011م) فقلت له:
أنت تزوجت سودانيّة، فأنجبت منها بناتٍ وأولاداً،
من سيتزوّج بناتك عندنا في سوريّا؟
قال: ربما لا أحد، لكن يتزوجهّن أهلهنّ في
السودان!؟
لم أشأ أن أحرجَه، فسكتُّ!
لكن انظر أخي القارئ الكريم: أولاده وبناته السودُ
هؤلاء، سيعيشون في بلدٍ بعيدةٍ حتى عن إخوانِهم من أبيهم، أناسٌ في السودان،
وأناسٌ في سوريّا، ومع الزمان؛ ستنقطع أواصر الاتّصال تماماً بين طرفي الأسرة
الواحدة، وأنا الفقير أستثقل مثل هذا الأمر، وأرفضه لذريّتي تماماً!
وقد أثّرت فكرتي هذه على بناتي، حتى إنّ بعضهنّ
جاوزن الثلاثين من أعمارهنّ إلى أن تزوجن، وهذا غير واردٍ لدى أسرتنا بتاتاً!
وذلك بسبب أنني لم أزوّجهنّ إلّا لشبابٍ حمويّين،
لا لمزايا خارقة لدى أولئك الحمويّين، أبداً أبداً، وإنما حتى تبقى الأخواتُ
قريباتٍ من بعضهنّ، ولا تتفكّك الأسرة بالتباعد، الذي يورث القطيعةَ والجفاء!
والكلام على مظاهر الجمالِ، وتعلّق النفس الإنسانيّة
به؛ يحتاج إلى منشوراتٍ عديدةٍ، هذا أهمّها في نظري.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله على كلّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق