مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (5):
ابن تيميةَ شيخ الضلال!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحدُ الإخوة مقطعاً صوتيّاً للدكتور
الشيخ يُسري جبر - حفظه الله تعالى - وقال: «أعرف أنّ وقتك
ضيّق، وأخبرتني سابقاً بأنك لا تستمع إلى المقاطع الصوتية، لكنني أرجو أن تستمع
دقيقةً واحدةً من هذا المقطع، ثم تعطي رأيك للناسِ، فأنت في موضعٍ من العلم، لا
يَجهلُه منهم أحد»!
أقول وبالله التوفيق:
استمعتُ إلى كلماتِ الشيخ يسري جبر، التي يقول
فيها: «يعتقدون في ابن
تيمية أنه شيخ الإسلام، والحقيقةُ أنّه شيخُ الضلالِ!
فإذا رأيتَ إنساناً يوقره؛ فاعلم أنه مبتدع!
إذا وقفت في مكانٍ، ورأيت إنساناً يلبس زيّ
العلماء، ويقول: ابن تيمية شيخ الإسلام؛ فاعلم أنّه من أهل البدَع»!
قال الفقير عداب: لم يسبق لي لقاءُ الدكتور يسري
جبر، ولم أقرأ له شيئاً من مؤلفاته، وقد قرأت من تلامذته ثناءً كثيراً عليه.
وهذا الكلام الذي قاله في حقّ الشيخ ابن تيمية رحمه
الله تعالى؛ قاله كثيرون غيرُه، وما زلتُ أسمعه مذ عرفتُ طلبَ العلم!
ولا يخفى على طلبةِ العلم الصراعُ الطويلُ الذي جرى
بين ابن تيمية وعلماء عصره!
ذلك الصراع الذي قادَ ابنَ تيميةَ إلى أن يموت في
سجن السلطان المملوكيّ في دمشق!
الشيخ ابن تيمية ضالٌّ مضلٌّ عند الأشاعرة
والماتريديّة، وهم لا يعذرون المجتهدَ المخطئَ في الاعتقاد!
وعلماءُ الأشاعرة والماتريدية؛ ضالّون مضلّون عند
الحنابلةِ على مدار تاريخهم الطويل، ولا يعدّونهم من أهل السنّة والجماعة، بل يَقصرون
هذا اللقبَ المقدّسَ على الحنابلة ومن يوافقهم في عقائدهم وحسب!
في عام (1401 هـ) زار الملك فهد بن عبدالعزيز
الجامعةَ الإسلامية في المدينة المنورة وخطب هناك خطبة قصيرةً، ثم أجاب على أسئلةٍ
محضّرةٍ سلفاً في تقديري!
كان ممّا سئل عنه: موقفه من الشيخ ابن تيمية؟
فقال ما معناه: إنّ حكومتنا الرشيدةَ وضعت شيخ
الإسلام في موقعٍ لا يبلغُه أحدٌ غيره، وهو مكان لا يستحقّه غيره!
وما دام الناس على دين ملوكهم؛ فقد غدت أقوال ابن
تيمية في الجامعاتِ السعودية؛ هي المعيارَ الفارقَ بين الحقّ والباطل، وبين الصواب
والخطأ!
وكان طلّابنا يحاكمون اجتهادات المتقدمين: أبا
حنيفةَ ومالكاً والشافعي وغيرهم، إلى أقوال ابن تيمية!
ولم أكن أنا بعيداً عن الإعجاب بالشيخ ابن تيمية
أبداً، بل إنني كنت مولعاً، نهماً في قراءةِ كتبه، وقراءةِ ما كُتب عنه، على حدٍّ
سواء!
وكنتُ أظنّ نفسي أعرف بالشيخ ابن تيمية من جميع
السلفيين؛ لأنني كنت أعدُّ نفسي أعلمَ وأفهمَ منهم أجمعين، وأستغفر الله العظيم من
جموح الشباب!
كان شيخنا الدكتور «حسن ضياء العتر
الحلبي» يبغض ابنَ تيميةَ، ويبغض الشيخَ الألبانيَّ، رحمهم الله تعالى، أكثر، ومع
يقينه بأنني لست وهابيّاً، إلّا أنه كان لا يرضى مني الثناءَ على ابن تيمية، ولا
على الشيخ الألبانيّ، ويراهما ضالّين بيقينٍ، ولدى كلٍّ منهما أقوالٌ مكفّرة!
طلبَ مني تخريجَ عددٍ من الأحاديثِ، وتسجيل
أحكامِ ابن تيمية وابن القيم والألباني على تلك الأحاديث - إنْ وجد لأحدهم حكم -
وما كنت أحسب أنه اختارها عمداً!
خرّجتُ الأحاديثَ، وكانت في حدود عشرةِ
أحاديثَ، ليس أكثرَ، ونقلت أقوال هؤلاء العلماء الثلاثة في أكثرها، ثمّ درستُ
الأحاديثَ بنفسي، في ضوء ما تعلّمتُ من قواعد علم الحديثِ؛ فلم تعجبني أحكامُ ابن
تيمية ولا أحكام ابن القيّم، ولا أحكام الألبانيّ، إضافةً إلى اختلافهم هم فيما
بينهم!
لم أعطِ تخريجَ الأحاديثِ للدكتور العتر، بل
ذهبتُ إلى نجّار صديقي، من آل «الروّاس» الحمويّ، وجّه الله له الخير، إن كان حيّاً،
ورحمه الله تعالى بكلّ حال، وطلبت منه أن يصنع لي مكتبةَ أدراج بحجم بطاقاتٍ
متنوعة الأحجام.
ثمّ أعطيت تخريجاتي للشيخ العتر، وأخبرته أنني
بصددِ قراءةٍ واعيةٍ لكتب ابن تيمية!
ورحتُ أقرأ الشيخ ابن تيمية من جديد، حتى جمعتُ
أكثر من (500) بطاقةٍ مستنكرةٍ لديّ من أقواله تحتاج إلى ردّ ومناقشة، في
الاعتقادات والأفكار والفلسفة والمنطق والفروع!
وأهمّ نتيجةٍ خلصت إليها من هذه القراءةِ
الواعية التي استمرت أكثر من سنتين من التفرغ التامّ؛ هي أنّ ابن تيمية حافظٌ
لآلاف الأحاديثِ، لكنه ليس ناقداً حديثيّاً، ولا يعتمد عليه في نقد حديثٍ واحد، لم
يُسبَق إلى نقده، وأنّ تلميذه ابن القيّم أقعدُ منه في الفقه والحديث!
إنّ ابن تيميةَ عالمٌ موسوعيٌّ كبير، وإنّ ابن القيّم
عالم موسوعيّ كبير، وإنّ السبكيّين عالمان موسوعيان كبيران، وإنّ علاء الدين
البخاري الحنفيّ عالم أصولي وفقيه كبير!
ويسعنا أن نقول: إنّ مدرسةَ ابن تيمية في القرن
الثامن الهجريّ؛ خرّجت علماءَ حنابلةً كباراً!
وإنّ مدرستي الأشاعرة والماتريدية؛ خرّجتا علماء
كباراً، لا يستهان بأحدٍ منهم!
وإذْ أنا الفقير لست حنبليّاً في الاعتقادِ ولا
في الفقه، كما قلت لشيخي عبدالعزيز ابن باز رحمه الله تعالى.
وإذْ لست أشعريّاً ولا ماتريديّاً أيضاً، وإن
وافقتهم في كثيرٍ مما أعتقده؛ فيسعني أن أقول: ليس ابن تيميةَ ضالّاً ولا إمام
الضلالِ، وليس علاء الدين البخاريّ ضالّاً ولا إمام الضلال!
وأنتم يا أتباع هذه المدارس الثلاثِ، لا يسعكم
إلّا إعذارَ المجتهدين فيما يتوصّلون إليه، مهما اختلفتم معهم، وفيما بينكم، في
نتائج الاجتهاد في المسائل الخلافية، سواءٌ كانت عقدية أم فكرية أم فروعيّة!
وأنا أعتقد - ولا أظنّ - أنّ جميع علماء الأمة
منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم؛ ليس فيهم مجتهدٌ واحد، لا ابن تيمة، ولا ابن القيم،
ولا السبكيان، ولا الذهبيّ، ولا ابن حجر!
لماذا هذا الجنوح؟
أمّا أوّلاً: فلأنّ جميعهم مقلّدةٌ في نقد
الحديث، وكلّ من يقول: جميع ما في الصحيحين صحيح؛ هو مقلّد صرف؛ لأنّ أكثر من نصف
أحاديث الصحيحين (2000) حديثٍ لا تتجاوز درجة الحسن، وفيهما قرابة (500) حديثٍ
ضعيف!
وجميعُ من ذكرتُ وغيرهم يفرّعون على أحاديثِ
الصحيحين، كما يفرعون على القرآن الكريم!
وأمّا ثانياً: فلأنّ هؤلاء الكبار كانوا
مذهبيين في الأصول، فالحنفيّ منهم ملتزم بأصول مذهبه القديمة، وكذلك المالكي
والشافعيّ والحنبليّ.
وأمّا ثالثاً: فلأنّ جميعهم يطالبون الباحث
بالاجتهادِ في العقائد، لكنهم يضلّلونه أو يبدّعونه وقد يكفّرونه إذا توصّل
باجتهاده إلى مخالفتهم!
فهم علماءُ كبار في مذاهبهم إذنْ، وليسوا
مجتهدين!
فلا تَغترَّ بكثرةِ الألقابِ والعناوين، واجتهد
لتكون صاحب رأيٍ مستقلٍّ، واعذر الآخرين باجتهادهم، أو قلْ: بتقليدهم، وإن كفّروك
(ذلك مبلغهم من العلم)!
بقيت مسألة مهمةٌ لا بدّ من بيانِها، لما لها من
أثرٍ كبيرٍ على كثيرٍ من علماء عصرنا وكتّابهم، وإنْ كان جميعهم أو أكثرهم يجبنون
عن التصريح بها!
ارتبط الفكرُ السلفيّ القديمُ بالوهابية المعاصرة -
وليس العكس - وكانت الوهابية وما تزال خادمةً للنظام الاستبداديّ الوراثيّ
السعوديّ، مع إيمان كثيرين من السلفيين اليوم بأنّ عبدالعزيز آل سعود وأكثر ذريّته؛
لا علاقةَ لهم بالدين والتقوى، لكنهم يسمحون للسلفيين بممارسة دعوتهم، كما حدثني
شيخي عبدالعزيز ابن باز !؟
فجميع الناقمين على آل سعود؛ يبغضونهم، ويبغضون معهم
السلفيةَ والوهابيةَ الدمويّة والسلفيين!
والأشرافُ من أهلِ السنةِ، ومن غير أهل السنّة؛
يبغضون آل سعود، ويبغضون السلفية والوهابية الدمويّة؛ لأنها كانت وما تزال الخطرَ
الأكبرَ عليهم!
إذا لم تفهم هذه المعادلةَ - أخي القارئ - فلن
تتوصّل إلى تفسيرٍ صحيحٍ لما تراه من تطاحنٍ بين الوهابية المعاصرةِ، وبين خصومهم
من الأشعرية والماتريدية!
أمّا موقفي أنا الفقير إلى الله تعالى مما سبق
كلّه؟
فأنا أبغض آل سعودٍ، وأبرأ إلى الله تعالى من
موالاتهم ونصرتهم، وإنّ من فضلِ الله علينا أنّ جدودي من «آل كنعان» الأشاوسَ،
ممّن ردّوهم على أعقابهم خاسرين، في معركة «عين قصّارين» شرقيَّ
مدينة حماة، كما حدّثني جدي السيد إبراهيم، رحمهم الله تعالى!
وأنا أبغض جميعَ حكّام العرب في الله تعالى، لا
تستثن أحداً منهم، وأبرأ إلى الله تعالى من موالاتهم ونصرتهم، فهم جميعاً منافقون
- نفاقاً عمليّاً في الحدّ الأدنى - وجميعهم أهل دنيا، ولا يعنيهم الإسلام في
قليلٍ ولا كثير، وإن ركبوا جوادَه في بعضِ الأحايين!
لهذا تجدني لا أتحسّس من وصف الشيخ ابن تيمية
بشيخ الإسلام، ووصف غيره بهذا اللقب وإنْ كان لي وقفةٌ عندَ إطلاقِه من الأساس!
رحمَ الله علماءَ الإسلام المتقدمين والمتوسطين
والمتأخرين والمعاصرين، المقلّدين منهم والمرجّحين، والمجتهدين، ورحمنا الله معهم،
وتجاوز عنا وعنهم أجمعين، حتى غيلان الدمشقيّ والجعد بن درهم والجهم بن صفوان،
آمين أمين!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق