مَسائِلُ حديثيّة (39):
من فقه الدعاءِ!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
نحن المسلمين ندعو الله تبارك وتعالى على الدوامِ،
وليس في المواسمِ المشهودةِ فحسب!
فنحن ندعو الله تعالى في الصلاة، وقبل الصلاة وبعد
الصلاة، وقبل النوم وبعد النوم!
وندعو الله إذا أكلنا، وإذا شربنا، وإذا ركبنا
دابّةً أو أيَّ مركبٍ!
حياتنا كلّها تواصلٌ مع الله تعالى بالدعاء!
نحن ندعو الله تعالى امتثالاً لأمره لنا بالدعاء،
إذ قال الله تعالى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ (60) [غافر].
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) [البقرة].
ونحن ندعو الله تعالى طمعاً برحمته، وخوفاً من
عقابه؛ لأننا خطّاؤون، فقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا
الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16).
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة].
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) [الأعراف].
إنّ قول الله تبارك وتعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ
مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
يغنينا عن جميع أعداد ومكاييل الثواب الواردةِ في الأحاديث الصحيحة، فضلاً عن
الأحاديث الضعيفة والموضوعة!
وقد نشر أحدهم على صفحته في «الفيسبوك» بشرى سارّة
للمؤمنين بمزيدٍ من الثواب والأجر في هذا اليوم الكبير العظيم يومَ عرفه!
فساق لهم الحديث الآتي من كتاب شعب الإيمان (5:
502) [3780] إذ يقول الإمام البيهقيّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ
الْحَافِظُ قال: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ الْحَافِظُ بِهَمَذانَ قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّيَالِسِيُّ. عَلَّانُ الْحَافِظُ قال:
حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُحَارِبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ
بِالْمَوْقِفِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [مِائَةَ مَرَّةٍ].
ثُمَّ يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُ) [مِائَةَ
مَرَّةٍ].
ثُمَّ
يَقُولُ: (اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ) [مِائَةَ مَرَّةٍ].
إِلَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا مَلَائِكَتِي،
مَا جَزَاءُ عَبْدِي هَذَا؟
سَبَّحَنِي، وَهَلَّلَنِي، وَكَبَّرَنِي،
وَعَظَّمَنِي، وَعَرَفَنِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّي؟
اشْهَدُوا «يا» مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ
لَهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا لَشَفَّعْتُهُ
فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ كُلِّهِمْ) انتهى الحديث!
قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ البيهقيّ: «هَذَا مَتْنٌ
غَرِيبٌ، وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْوَضْعِ، وَاللهُ
أَعْلَمُ» ومن طريق البيهقيّ أخرجه ابن عساكر في فضل يوم عرفة، رقم (15).
وأورده السخاوي في القول البديع (ص: 210) وقال: «قال
البيهقي في الشُعَب: هذا مَتنٌ غريب، ليس في إسناده مَن يُنسب إلى الوضع». قال
السخاويُّ: «كلّهم موثوقون، لكن فيهم الطلحيُّ وهو مجهول».
وساقه السيوطيّ من طريق البيهقيّ في اللآلئ
المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2: 106) وقال: «أوردهُ الْحَافِظ ابْن حجر فِي
أَمَالِيهِ، وَقَالَ: رُوَاته كلّهم موثوقون، إِلَّا الطلحيَّ، فَإنَّهُ مَجْهُول»
والمقصود بالطلحيّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، الذي روى هذا الحديثَ عن
عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ.
وقد ساق السيوطيّ في الموضع نفسه متابعةً
لعبدالرحمن الطلحيّ، عند الديلميّ وابن النجار، من طريق أحمد بن ناصح البغداديّ عن
عبدالرحمن بن محمد المحاربيّ.
قال الفقير عداب: في هذا الحديث علل شتّى:
الأولى: أنّ عبدالرحمن بن محمد الطلحيّ مجهول،
ومعنى مجهول هنا: ليس له ترجمة مفردةٌ أوضحَتْ منزلته في الجرح والتعديل!
والثانية: أنّ متابِعَه أحمد بن ناصح هو شيخ
النسائيّ، وقد قال النسائيّ فيه: صالح، ومرة قال: لا بأس به، فهو مقبول الرواية
فيما توبع عليه، ممن تقبل متابعته.
وقد اختلفوا في كونه بغداديّاً، أم مصّيصيّاً، ولم
يذكروه في الرواة عن المحاربيّ، وليس له في الكتب التسعة عن المحاربيّ أيُّ حديث!
والثالثة: أنّ عبدالرحمن بن محمّد المحاربيّ نفسه،
قال فيه ابن حجر في التقريب:
«لا بأس به، وكان مدلّساً» وهو لم يصرّح
بسماعه الحديثَ من المحاربيّ!
يضاف إلى هذا أنّ المحاربيّ، عند ابن ماجه (3814)
وعند الترمذيّ (3434) وعندهما معاً، روى عن مالكِ بن مِغوَلٍ عن محمد بن سوقة، ولم
يرو عنه مباشرةً.
وأخرج له البخاريّ حديثاً واحداً في كتاب الجمعة
(966) قال فيه: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى أَبُو السُّكَيْنِ قَالَ
حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، الحديث.
وزكريا بن يحيى هذا، قال فيه ابن حجر: صدوق له
أوهام، ومن أوهامه تصريحُه بسماع المحاربيّ من محمد بن سوقة!
دليل ذلك أنّ محمد بن العلاء ومحمد بن طريف، عند
البيهقيّ في السنن الكبير (9784) في سياقة الحديث ذاته، قالا: «حدثنا
المُحارِبِىُّ عن محمدِ بنِ سُوقَةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ» فيكون الحديث منقطعاً
بين المحاربيّ ومحمّد بن سوقة.
وقد ذكرت مرّاتٍ عديدةً؛ أنّ الصدوق ومن لا بأس به،
فمن دونهما، إذا تفرد بحديثٍ؛ كان حديثه منكراً.
وهذا الحديث إسناده مدلَّس منقطع، ضعيف، ومتنه
منكر، ويكفي أن السيوطيَّ وابن عرّاقٍ أورداه في الموضوعات.
وأمّا الحديث الثاني؛ فقد قال الحافظ ابن عساكر في
تاريخ دمشق (9: 211) حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي إملاء قا قرئ على أبي الحسن
علي بن إبراهيم بن عيسى الباقلاني وأنا حاضر حدثنا أبو بكر بن مالك إملاء نا علي
بن الحسن القطيعي حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد بن زيد أنا عمرو بن عاصم حدثنا الحسن
بن رزين عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا
إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يلتقي الخضر وإلياس عليهما السلام في كل عام
من الموسم بمنى فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات سبحان
الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصلح السوء إلا الله ما
شاء الله لا قوة إلا بالله قال قال ابن عباس من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث
مرات أمنه الله من الغرق والسرق قال وأحسبه ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب.
وأخرجه في موضع آخر (16: 427) قال: أخبرنا أبو
القاسم بن الحصين أنا أبو طالب محمد بن محمد أنا أبو إسحاق المزكي نا محمد بن
إسحاق بن خزيمة نا محمد بن أحمد بن زيد أمله علينا بعبادان أنا عمرو بن عاصم نا
الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى
النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يلتقي الخضر وإلياس كل عام، وساق الحديث بنحوه،
ثمّ قال: قال الدارقطني حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ
«الحسن بن رزين» عنه.
وأخرجه المخلّص في جزئه (23) وقال: «قال الدارقطني
في المُزَكِّيات: حديث غريب من حديث ابن جريج، لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه» يعني
الحسن بن رزين.
وأخرج
ابن الجوزي ثلاثة أحاديث في اجتماع الخضر وإلياس وغيرهما، ثم قال: «هَذِهِ
الأَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ... وَأَمَّا حَدِيثُ الْتِقَاءِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ؛
فَفِي طَرِيقِهِ الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ.
قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ غَيْرُهُ.
قَالَ
الْعُقَيْلِيُّ: وَلَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ مُسْنَداً وَلا مَوْقُوفاً، وَهُوَ
مَجْهُولٌ فِي النَّقْلِ، وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: هَذَا حَدِيثٌ وَاهٍ
بِالْحَسَنِ بْنِ رَزِينٍ، وَالْخَضِرُ وَإِلْيَاسَ مَضَيا لِسَبِيلِهِمَا».
ختاماً: يجب على كلّ مَن ينشرُ للناس أحاديثَ
ليتعبّدوا الله تعالى بها؛ أن يكون ممن تخصّص في علوم الحديثِ ونقده!
فإن لم يكن كذلك، وأراد أن ينفع الناسَ؛ فليقتصر
على الأحاديثِ التي اشترط أصحابها الصحة فيما يروون، وهي: صحاح البخاريّ ومسلم
وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبّان!
أو مثل رياض الصالحين والأذكار للنوويّ، رحمهم الله
تعالى أجمعين.
ما لهؤلاء وتلك الروايات الغريبة، المذكورة أصلاً
في كتب الموضوعاتِ، ينسبونها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كذباً، ويضلّون
بها عباد الله تعالى.
والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث
المتواتر:
(إنّ كذباً عليّ؛ ليس ككذبٍ على أحدكم، فمن كذب
عليّ؛ فليلج النار).
واللهُ
تَعالى أَعلمُ
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق