مَسائل حديثية (39):
مكانةُ أبي حنيفةَ في علم
الحديثِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
السادةُ الحنفيّةُ يَعتقدون -
ولا يظنون - أنّ المحدّثينَ ظلموا الإمام أبا حنيفةَ رضي الله عنه، بتضعيفهم إيّاه
وتركهم الرواية عنه، ويظهر هذا جليّاً في ترجمته عند البخاريّ في الضعفاء (388)
وأبي زرعة في الضعفاء (2: 570، 718) والنسائي في ضعفائه (586) والعقيلي في ضعفائه
(1876) وابن حبّان في المجروحين (3: 60) إذ قال: «كَانَ رجلا جدلاً، ظَاهرَ
الْوَرع، لم يكن الحَدِيثُ صناعتَه، حدّث بِمِائةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثاً مَسانيد
«يريد: متّصلةَ الأسانيد» مَا لَهُ حَدِيث فِي الدُّنْيَا غَيرها، أَخطَأ مِنْهَا
فِي مائَة وَعشْرين حَدِيثاً، إِمَّا أَن يكون أقلبَ إِسْنادَه، أَو غيّر مَتنَه،
مِن حَيْثُ لَا يَعلَمُ، فَلَمَّا غلب خَطؤُهُ على صَوَابِه؛ اسْتحقَّ ترك
الِاحْتِجَاج بِهِ فِي الْأَخْبَار.
وَمن جِهَة أُخْرَى، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ؛
لِأَنَّهُ كَانَ دَاعياً إِلَى الإرجاءِ، والداعيةُ إِلَى الْبِدَع؛ لَا يجوز أَن يُحْتَجَّ بِهِ عِنْد أَئِمَّتنَا
قاطبةً، لَا أعلم بَينهم فِيهِ خلافًا على أَن أَئِمَّة الْمُسلمين وَأهل الْوَرع
فِي الدَّين فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَسَائِر الأقطار؛ جَرحوه، وأطلقوا عَلَيْهِ
الْقدح، إِلَّا الْوَاحِدَ بعدَ الْوَاحِدِ، قد ذكرنَا مَا رُويَ فِيهِ من ذَلِك،
فِي كتاب «التَّنْبِيه على التمويه» فأغنى ذَلِك عَن تكرارها فِي هَذَا الْكتاب».
وابن عديٍّ في كامله (8: 235 -
246) وختم ترجمته بقوله: «أَبُو حنيفة لَهُ أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه غَلطٌ
وتَصاحيف وزياداتٌ فِي أسانيدها ومتونها وتصاحيف فِي الرجال، وعامة ما يرويه كذلك.
ولم يصحَّ له فِي جميع ما يرويه إلا بضعةَ عشر
حديثاً، وقد روى من الحديث لعله أرجح من ثلاثمِئَة حديثٍ، من مشاهير وغرائب، وكله
على هَذِهِ الصورة؛ لأنه ليس هُوَ من أهل الحديث، ولاَ يحمل عَنْ مَن تكون هَذِهِ
صورته الحديثُ».
أمّا الخطيب البغداديّ؛ فترجم
له أطول ترجمةٍ في تاريخه كلّه (15: 444 - 573) وفي ختام ترجمته نقل أقوال أئمة
الحديث في تضعيفه من جهة حفظه ومعرفته بعلم الحديث، ومن الغريب أنّهم نقلوا
تضعيفَه عن تلميذه عبدالله بن المبارك!
كما نقلوا تضعيفه عن الحسن بن
صالح بن حيّ، وعن سفيان الثوري، وعن سفيانَ بن عيينة، وعن عبدالله بن نمير، وعن
الحجاج بن أرطاه، ويحيى بن سعيد القطّان، وغيرهم، وغيرهم.
وفي رسالتي لدرجة الماجستير
(1: 385 - 416) ناقشت أقوال العلماء في موقفهم من أبي حنيفة من جهة آرائِه
الكلاميّة، ومن جهة مكانته في علم الحديث وخلصت (1: 398) إلى أنّ الإمام أبا حنيفة
علمٌ من أعظم أعلامِ هذه الأمة، وهو عدلٌ فاضلٌ صالحٌ ورعٌ، من كبار العلماءِ الذين
وُضع لهم القَبول في الأرض، ولا أزكيه على الله تعالى.
لكنّ ضبطَه للحديثِ فيه نظر،
وهو لم يطلب الحديثَ على طريقةِ المحدّثين، ولا تصرّف فيه تصرّفهم، فلم يعجبهم ذلك
منه، وأهل الحديث عامّةً لا يغوصون وراء النصوص غوصَ الفقهاء.
ثمّ إنّ القولَ بضعفِ أبي
حنيفةَ في علم الحديثِ، أو ثقته فيه؛ لا يعني اليومَ كبيرَ شيء، إذ أسقط المحدّثون
رواياته من مصنّفاتهم، حتى إنك لا تجد له حديثاً واحداً مرفوعاً في الكتب الستة
الأصول!؟
بل ليس له في الكتب التسعة،
سوى حديث واحد عند أحمدَ ابن حنبل في مسنده (23027) حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا أَبُو فُلَانَةَ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: «كَذَا قَالَ
أَبِي، لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى عَمْدٍ!؟
وَحَدَّثَنَاهُ غَيْرُهُ فَسَمَّاهُ - يَعْنِي أَبَا حُنَيْفَةَ - عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَاهُ: (اذْهَبْ؛
فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ).
كتبت هذا الكلام في عام (1403 هـ) ما عدا حديثَ
أحمد!
ثمّ وقفتُ بعد ذلك على مسندِ أبي حنيفةَ برواية أبي
نعيمٍ الأصبهانيّ، ونسختُه، وصنعت له فهارِسَ متعدّدةً، ثمّ رأيتُه مطبوعاً،
فتكاسلتُ عن تكميله!
وبعد صدور «القرص المدمج» للمكتبة
الشاملة؛ غدا استقراءُ أحاديث أبي حنيفة رحمه الله تعالى بواسطتها ميسوراً،
وعَقِبَ الجمع؛ يكمن تصنيفُ أحاديثه إلى أحاديثَ مسندةٍ مرفوعة، وآثارٍ مُسندةٍ عن
الصحابة موقوفة، وأخبارٍ عن التابعين، وفتاوى عن علماءِ المسلمين.
قبل ظهور المكتبة الشاملة؛ كنت أستغرب من نُدرةِ
روايات أبي حنيفةَ، وأقول في نفسي: عالمٌ كبيرٌ مثل أبي حنيفةَ، ترجمه المزيّ في
تهذيبه (29: 417 - 445) ونصّ على أنّه روى عن ثمانين شيخاً، وأنّ الرواة عنه أكثر
من (150) راوياً ، وقام باحثٌ جادٌّ، وكتب رسالته للحصول على درجة الماجستير، فلم
يجد له في الكتب سوى أقلَّ من ثمانين حديثاً؟!
أمّا اليوم؛ فيمكن للباحث أن يجد لأبي حنيفة في كتب
متون السنة والحديث والأثر أكثر من (2500)
روايةٍ، منها المرفوع، ومنها الموقوف، ومنها المقطوع.
ومن المرفوعات؛ يجد المسند المتّصل، والمنقطع،
والمعضل، والمرسل، والمعلّق أيضاً.
وجمع هذه الروايات وغيرها؛ تمييزها يحتاج إلى باحثٍ
شابٍّ حريصٍ، يقوم بعمله تحت إشراف محدّثٍ متخصّص، حتى إذا استوى ترتيب العمل على
الموضوعاتِ أو على المسانيد؛ قام بصناعة عددٍ من الفهارس العلميّة، أحدها لرواة
الأحاديث المسندة المرفوعة إلى الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلم، ثم يقوم بتخريجها قدر الإمكان، ثم يعرض عملَه على
ناقدٍ محايدٍ.
وعقب الانتهاء من هذا الجهد الكبير الضخم؛ يمكن
تصويبُ المحدّثين أو تخطئتهم فيما رموا به أبا حنيفة من الضعف في الحديث.
ختاماً: أنا الفقير لا تخفى عليّ الجهودُ العلمية
والمنقبية، التي قامت بجهودٍ في بعض ما ذكرتُه، لكنها بين جهودٍ ناقصةٍ وقاصرة،
وبين جهودٍ مذهبية هدفها تفخيم أبي حنيفة للحفاظ على قداسة المذهبيّة التي أمقتها
تماماً!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق