مَسائل حديثية (36):
عَمَلٌ قليلٌ وثوابٌ جزيلٌ، من
علاماتِ وَضْعِ الحديث!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
طلب أحد الإخوة الأصدقاء تخريج
حديثِ أنسٍ الآتي، منذ أيّام، ولم يتيسّر لي إلّا الآن، فأعتذر من ذاك الأخ
الفاضل!
بإسنادي إلى الإمام الترمذيّ
في الجامع المختصر - كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل التكبيرة الأولى (241) قال
رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ
الْجَهْضَمِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ
طُعْمَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ
صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً فِي جَمَاعَةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ
الْأُولَى؛ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ
مِنْ النِّفَاقِ).
وقد ورد هذا الحديثُ عن أنسٍ
بألفاظٍ متعدّدة، جمعها الإمام السيوطي في كتابه جمع الجوامع، فقال:
«مَنْ أَدْرَكَ التَّكْبيَرةَ الأُولى مَعَ
الإِمَامِ أَرْبَعِين صَبَاحًا بصَلاةٍ كُتِبَتْ لَه بَرَاءَتَان: بَرَاءةٌ مِنَ
النَّار، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» رواه أَبو
الشيخ في كتاب الثواب عن أَنس.
-
مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا صَلاةَ الفَجْرِ وَعِشَاءَ الآخِرَةِ فِي
جَمَاعَةٍ، أَعْطَاهُ اللهُ بَرَاءَتَينِ: بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةً
مِنَ النِّفَاق» رواه الخطيب، وابن عساكر،
وابن النجار عن أَنس.
- مَنْ لَمْ تَفُتْهُ الرَّكَّعَةُ الأُولى مِنَ
الصَّلاةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ. بَرَاءَةٌ مِنَ
النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» رواه عبد
الرزاق عن أَنس» انتهى.
فأيّ لفظٍ من هذه الألفاظ
وجدتَه أخي القارئ؛ فحكمه واحدٌ، هو ما ستقرؤه في آخر هذا المنشور.
وقد أخرجه من الطريق التي
أخرجها الترمذيُّ ذاتِها «طُعمةُ بن عمرو عن حبيبٍ، عن أنسٍ» البزّارُ في مسنده (7570) وقال: «هَذَا الْحَدِيثُ، لاَ
نعلمُهُ يُرْوَى عَن أَنَسٍ، إلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ولاَ نَعلمُ رَوَى عَن
حَبيبٍ، إلاَّ طعمةُ بنُ عَمْرو الجَعفريُّ.
وأخرجه أبو سعيدِ ابنُ
الأعرابيّ في معجمه (1206) وابن عديٍّ في الكامل (3: 311) وابن شاهين في الترغيب
(61) والبيهقيُّ في شعب الإيمان (2612) وقال: «فِي كِتَابِي: حَبِيبُ
بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَهُوَ خَطَأٌ، إِنَّمَا هُوَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ
الْحَذَّاءُ، أَبُو عُمَيْرَةَ».
وأعاده البيهقي بعده (2613)
وقال: «
رَفَعَهُ طُعْمَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَوَاهُ خَالِدُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو
الْعَلَاءِ، عَنْ حَبِيبٍ، فَوَقَفَهُ مَرَّةً، وَرَفَعَهُ أُخْرَى» .
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذيّ: وَقَدْ رُوِيَ
هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسٍ مَوْقُوفاً.
وَلَا أَعْلَمُ أَحَداً
رَفَعَهُ، إِلَّا مَا رَوَى سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ طُعْمَةَ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ.
وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا
الْحَدِيثُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَوْلَهُ.
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ هَنَّادٌ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ خَالِدِ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ
الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
وَرَوَى إِسْمَعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ
مَحْفُوظٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ؛ لَمْ يُدْرِكْ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَعِيلَ «البخاريّ» حَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، يُكْنَى أَبَا الْكَشُوثَى
وَيُقَالُ أَبُو عُمَيْرَةَ» انتهى كلام الترمذيّ.
وتكلّم الدارقطنيّ في العلل
(12: 77) بنحو كلام الترمذيّ.
وأخرج ابن الجوزيّ في العلل
المتناهية (1: 435) هذا الحديث من هذه الطريق، وساق كلام الترمذيّ بتمامه.
وأخرجه في الصفحة ذاتها، من
طريق بَكْرِ
بْنِ أَحْمَدَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ تَحِيَّةَ
بإسناده إلى أنسٍ، ثم قال: «هَذَا حَدِيثٌ لا يَصِحُّ، وَلا يُعْلَمُ
رَوَاهُ غَيْرُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ تَحِيَّةَ، وَكِلاهُمَا
مَجْهُولُ الْحَالِ» وهو عند الخطيب في تاريخ
بغداد (7: 583) وعند ابن عساكر في تاريخ دمشق (52: 338).
وقد ترجم الذهبيّ يعقوبَ بن إسحاق بن تحيّة في ميزان
الاعتدال (4: 448) وقال: «ليس بثقة، قد اتُّهِمَ بالوضع» ومثله قال في
المغني (2: 775) وفي ذيل ديوان الضعفاء (545).
وفي علل ابن أبي حاتم (387) قال: سألتُ أَبِي
عَنْ حديثٍ رَوَاهُ طُعْمةُ بن عَمْرو حَبِيب،
عَنْ أنسٍ، عَنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ
يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ، كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ،
وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ).
قلتُ
لأَبِي: حبيبٌ هَذَا مَنْ هُوَ؟ قَالَ: لا أَدْرِي!
وترجم ابن عديٍّ في كامله (3:
311) حبيب بن أبي حبيبٍ وأخرج حديثَه ثمّة، ثمّ قال: «لا أَدْرِي
حَبِيبَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ هَذَا، هُوَ صَاحِبُ الأنماط، أو حبيب آخر»؟ يعني هو مجهولٌ لدى ابن عديٍّ، مثلما كان مجهولاً
لدى أبي حاتمٍ الرازي وابنِه.
خلاصة الحكم على هذا الحديث:
هو حديثٌ واهي الإسنادِ مرفوعاً وموقوفاً، مُنكر المتن!
أمّا ضعف الإسناد؛ فقد وضح بين
يديك!
وأمّا نكارةُ متن الحديث؛ فمن
جهة ادّعاء ثوابٍ عظيمٍ على عملٍ قليل، وهذه إحدى أماراتُ وضع الحديث!
وكم شاهدنا أناساً يحافظون على
الجماعةِ سنينَ طويلةً، وليس لديهم استقامةٌ في أمور حياتهم وتعاملهم مع الناس،
ومنهم من يتعامل بالربا، فكيف تكتب لهؤلاء براءة من النّار؟
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق