مَسائل حديثية (34):
أبو الحَسنِ الكَرَجيُّ من هو
؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ أحدُ طلّاب العلم يقول: «قرأتُ لأحدِ علماء
الوهّابيةِ الكلامَ الآتي:
«قال الإمامُ أبو الحسن الكرَجيّ - من علماء القرن
الخامس الهجريّ - ما نصّه:
«لم يزل الأئمة الشافعيّةُ يأنفون أن يُنسبوا إلى الأشعريِّ، ويتبرّؤون مما بنى
الأشعريّ مذهبَه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحَوْمِ حوالَيْه».
فردّ عليه عالم أشعريّ بقوله: «من
اعتمد على الشيخ الحرّاني - ابن تيمية - وتلميذه ابن القيّم في نقل أقوال الناس
ومذاهبهم؛ فقد بنى بناءَه على جُرُفٍ هارٍ!
وذلك لأنّ هذا الكلامَ مكذوبٌ
على الكَرَجيّ، كما نصّ على ذلك الحافظُ عبدالوهّاب السبكيّ، رحمه الله تعالى، في
طبقات الشافعية (6: 140 - 146).
والكَرَجيّ هذا؛ شِبهُ مَجهولٍ
عند الشافعيّةِ، وليس هو من أئمّتهم البتّة»!
وقد رجعتُ إلى الموضوعِ الذي
أشار إليه العالمُ الأشعريُّ، وقرأته غيرَ مرّةٍ، فلم أفهم أنّ الرجل مجهولٌ!
فأرجو أن توضّح لنا الحقيقةَ
في حال هذا الكَرَجيّ، وفي نسبة هذا الكلام إليه، فأنت من أهل الاختصاص بالجرح
والتعديل والتراجم، وشكراً لكم».
أقول وبالله التوفيق:
لم يذكر السائلُ مَن هذا
الوهّابي الناقلُ عن ذاك الكَرَجيّ، كما لم يذكر اسمَ العالم الأشعريّ، ولم أتذكّر
شيئاً من هذا الموضوع!
بيد أنّ ما لفتَ نظري من الوهلةِ
الأولى في سؤاله؛ أن السبكيّ ترجم الرجلَ في صفحاتٍ عديدة (6: 140 - 146) فإنْ كان
النقلُ صحيحاً؛ فمن المستبعد جدّاً أن يترجم السبكيّ لمجهول في طبقات علماءِ
الشافعيّة، ومن غير المتصوَّر أن يُترجم له في ستّ صفحات!
فلنذهب معاً إلى طبقات
الشافعيّة (6: 140 - 146) لنقف على حقيقة الأمر.
رجعتُ إلى الموضِع ذاته، ثمّ رجعتُ إلى بدايةِ الترجمة في
الطبقات (6: 137) فوجدت ابن السبكيّ قال: «مُحَمَّد بن عبد الْملك بن
مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد الكَرَجيّ - بِالْجِيم - أَبُو الْحسن بن أبي طَالب، ولد
سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.
وَسمع
الحَدِيث من مكي بن عَلان الكرجي وَأبي الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد بن بَيَان
الرزاز وَأبي عَليّ مُحَمَّد بن سعيد بن نَبهَان الْكَاتِب وَأبي الْحسن بن العلاف
وَغَيرهم.
روى
عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَجَمَاعَة»
أقول:
قول ابن السبكيّ: «روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ
وَجَمَاعَة» يزيل عنه جهالةَ العين اتّفاقاً!
تابع
ابن السبكي كلامه (6: 138) قائلاً: «صنّفَ تَصانيفَ فِي الْمَذْهَب وَالتَّفْسِير،
ووقفت لَهُ على كتاب «الذرائع فِي علم الشَّرَائِع» سأذكر مِنْهُ مسَائِل إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ
«تلميذه» ابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ: «أَبُو الْحسن من أهل الكَرَج، رَأَيْته بها.
إِمَامٌ،
ورعٌ، عَالمٌ، عَاقلٌ، فَقِيهٌ، مُفْتٍ، مُحدّث، شَاعِرٌ، أديبٌ، لَهُ مَجْمُوع
حسن!
أفنى
طول عمره فِي جمع الْعلم ونشره، وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب إِلَّا أَنه كَانَ
لَا يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، وَكَانَ يَقُول إمامنا الشَّافِعِي رَحمَه الله
قَالَ: «إِذا صَحَّ الحَدِيثُ؛ فاتركوا قولي، وخذوا بِالْحَدِيثِ، وَقد صَحَّ
عِنْدِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح».
وتابعَ
ابن السبكيّ ترجمته حتى (ص: 146) فيكون ترجمه في عشر صفحاتٍ، فكيف يكون مجهولاً مَن
هذه حاله، وتلك صفاته؟
ثمّ
تفكّرت بما يمكن أن يكون شبهةً لدى ذاكَ العالم الأشعريّ في تجهيلِه، فوجدت ابن
السبكيّ قال في (6: 140): «حَكَى لي وَالِدي - تقيّ الدين السبكيّ رَحمَه الله - عَن
شَيْخه الدمياطي هَذَا، فَقلت لَهُ: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَلم يكن وَالِدي يَعرفُ
تَرْجَمَةَ هَذَا الكرجيِّ، فَكتب عني هَذَا فِي كِتَابه «معنى قَول الإِمَام
المطلبي: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي» قَالَ: «قَالَ لي ابْني عبد
الْوَهَّاب: إِنَّه لَيْسَ من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق، وَلَكنّه من
أَصْحَاب أَصْحَابه، وَكَانَ يُدَرّسُ
كِتَابَه «المهذّب».
فكأنّ
هذا العالمَ الأشعريَّ - حين رأى الشيخَ تقيَّ الدين السبكيَّ لا يعرف الكَرَجيَّ
- قال: إنّه شبه المجهول، وليس ذلك بصحيح، بل هو عالم مكينٌ ذو فنونٍ، بيد أنّه
ليس أشعريّاً!
ثم
قال ابنُ السبكيّ: «ثمَّ قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَله قصيدة بائية فِي السّنّة،
شرح فِيهَا اعْتِقَادَه واعتقادَ السّلف، تزيد على مِائَتي بَيتٍ، قرأتها عَلَيْهِ
فِي دَارِه بالكَرَج»!
وبدأ
ابن السبكيّ (6: 141) ينقل أبياتاً من هذه القصيدةِ، ويرفضها حتى شكّك في نسبة هذه
القصيدةِ إلى الكَرَجيّ.
ونقل
ابن السبكي منها:
وخُبْثُ
مقَال الْأَشْعَرِيّ تخنّث ... يُضاهي تلَوّيه تَلوّي الشغازب
يُزيّن
هَذَا الْأَشْعَرِيُّ مقالَه ... ويَقْشِبه بالسُمّ، يا شرَّ قاشب
فينفي
تفاصيلاً، وَيُثبت جملَة ... كناقضةٍ، من بَعد شدّ الذوائب
يُؤوّل
آيَاتِ الصِّفَات بِرَأْيهِ ... فجرأتُه فِي الدّين جرْأَةُ خارب
ويَجزم
بالتأويل مِن سنَن الْهدى ... ويَخلب أَغْمَاراً، فأشْئِم بخالِب.
قال
السبكي عقب هذه الأبيات:
«هَذَا
كَلَامُ مَن لَا يَستحيي من الله، وَالْغَرَض على كَلَامه لائحٌ، فَإِن أهل الْبدع
الَّذين هم أهل الْبدع حَقًا بِلَا خلاف بَين الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء؛ هم
المجسمة والمعتزلة والقدرية والجهمية والرافضة والمرجئة، لم يشْتَغل بهم إِلَّا
فِي بَيْتَيْنِ، وَأطَال فِي الأشاعرة!
وَلَا
يخفى أَنّ الأشاعرةَ؛ إِنَّمَا هم نفس أهل السّنة، أَو هم أقرب النَّاس إِلَى أهل
السّنة!
ثمَّ
إِن قَوْله: «مقَال الْأَشْعَرِيّ تخنث» من رديء الْكَلَام، وَمن أعظم الافتراء».
وختم
ابن السبكيّ ترجمةَ هذا الكرجيّ (6: 146) بقوله: «هَذَا مَا أردْت حكايتَه مِنْها،
وَلَو أمكن إعدامُها من الْوُجُودِ؛ كَانَ أولى، والأغلب على الظَّن أَنَّهَا مُلفّقةٌ
مَوْضُوعَة، وَضع مَا فِيهَا من الخرافات مَن لَا يستحيي!
ثمَّ
أَقُول: قبّح الله قَائِلهَا كَائِنا مَن كَانَ، وَإِن يكن هُوَ هَذَا الكرجيَّ،
فَنحْن نبرأ إِلَى الله مِنْهُ.
إِلَّا
أَنِّي على قَطْعٍ بِأَن ابْن السَّمْعَانِيّ لَا يقْرَأ هَذِه الأبيات، وَلَا
يسْتَحلُّ رِوَايَتها، وَقد بيّنت لَك من الْقَرَائِن الدَّالَّة على أَنَّهَا
مَوْضُوعَة مَا فِيهِ كِفَايَة، توفّي الكرجي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَخَمْسمِائة» انتهى.
قال
الفقير عداب: ترجم ابنُ السمعانيّ شيخَه هذا في مادّة «كَرجي» (11: 67) فقال:
«كتبت
بالكرج عن الإمام أبي الحسن محمد ابن أبى طالب عبدِالملك بن محمد الكرجي، وكان
إماماً مُتقناً مُكثراً من الحديث.
وسمعت
من ابنه أبي مَعْمَر وهبِ اللهِ بالكَرَج، ومن ابنه الآخر أبي معشر رِزقِ الله بن
أبي الحسن الكرجيّ».
لكنّني
لم أقف على ترجمته في «كتاب التحبير في المعجم الكبير» فأغلب الظنّ أنّ أحدَ
النساخ حذف الترجمةَ منه، لما فيها من هجومٍ على الأشاعرة.
فالكَرجيّ
إذنْ إمام متقن، ولديه ولدان عالمان، وهو من أئمّة الفقه الشافعيّ!
وترجمه
الذهبي في تاريخ الإسلام (11: 578) ونقل كلامَ تلميذه ابن السمعاني، كما نقل عدداً
من أبيات قصيدته.
وأرّخ
وفاته في كتابه العِبَر (2: 443) ونقل كلام السمعاني وزاد: «شيخ الكَرَجِ وعالمها
ومفتيها».
وذكر
اسم قصيدته «عقيدة أصحاب الحديث» في كتاب العرش (1: 409) وقال في موضع آخر منه (2:
438): «وموجود منها الآن «عقيدة أصحاب الحديث» نُسَخٌ، من بعضها نُسخةٌ بخطّ الشيخِ
تقيّ الدين ابن الصلاحِ، على أولّها مكتوب: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث،
بخطّه رحمه الله.
ختاماً:
أنا الفقير لست وهّابيّاً، ولست سلفيّاً، ولست حنبليّاً، ويشهد الله على لساني
وقلبي أنني كتبتُ إلى شيخي عبدالعزيز ابن باز، وقلتُ له مواجهة: يا سماحةَ الشيخ: «أنا لست
حنبليّاً في الصفاتِ ولا في الفقه»!
بل
أنا الفقير لست معجباً بسلف الحنابلةِ جميعهم، مهما كبرت أسماؤهم لديهم، ولا أرى نفسي
محتاجاً إلى أحدٍ منهم بشيءٍ!
كما
أنني لستُ في الصفاتِ أشعريّاً أيضاً، بل أنا مؤوّل مطلقاً أؤوّل الوجه واليدَ واليدين
والعين والأعين، وسائر تلك الإضافات التي يسمّونها صفاتٍ!
والله
لا يضحك، ولا يتبشبش، ولا يهرول، ولا ينزل ولا يصعد، ولا يئطّ به العرش، ولا يجلس
عليه، ولا يَفضل منه مقدار أربع أصابع، أو أكثر، واستواؤه على العرش؛ معناه تمامُ
ملكه وملكوته، تعالى الله عن هذه المعتقداتِ علوّاً كبيراً.
سواء
اعتقدها السلف، أم اعتقدها الخلف، فلست أنا ملزماً باعتقاداتٍ أراها تشبيها
وتجسيماً صارخين!
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد
لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق