مَسائل حديثية (31):
هل ضاع مِن السنّة النبويّة شيءٌ
!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
كتب إليّ اثنان من طلابي -
رجلٌ وامرأة - كلاهما يحمل درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلاميّة، يقولان ما
معناه:
لا نشكُّ في أنّك قرأت كتابَ
«المدخل إلى كتابِ الإكليلِ» للإمام أبي عبدالله النيسابويّ الملقّب بالحاكم (ت:
405 هـ).
ولا بدّ من أنّك قرأت فيه (ص:
35 - 37) ما نصّه:
(1)«قَدْ كَانَ الْوَاحِدُ
مِنَ الْحُفَّاظِ يَحْفَظُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ !؟
(2) سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ
مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا
عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ وَارهْ قال: كُنْتُ عِنْدَ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بَنْيَسابُورَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: سَمِعْتُ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ
حَدِيثٍ وَكَسْرٍ، وَهَذَا الْفَتَى يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيَّ قَدْ
حَفِظَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ!؟
(3) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ
مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ
بْنَ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ خَشْرَمٍ يَقُولُ: كَانَ إِسْحَاقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ «رَاهَوَيْهِ» يُمْلِي سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ حِفْظًا!
(4) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ
بْنِ أَبِي دَارِمٍ الْحَافِظَ بالكوفة يقول: سمعت أبا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ «بن عقدة»الْحَافِظَ يَقُولُ: أَحْفَظُ لِأَهْلِ البيت
ثلاثمائة أَلْفِ حَدِيثٍ!
(5) سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ
الْحَافِظَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سَعِيدٍ «بن عقدة» يَقُولُ: ظَهَرَ لِأَبِي كريب
بالكوفة ثلاثمائة أَلْفِ حَدِيثٍ!
(6) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ
بْنَ أَبِي دَارِمٍ يَقُولُ: كَتَبْتُ بأصابعي عن أبى جعفر الخضرمي «مُطَيِّنٍ» مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ!
(7) سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بن يحيى يقول: سمعت محمد بن الْمُسَيَّبِ
الْأَرْغِيَانِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّي مِائَةُ جُزْءٍ
فِي كُلِّ جُزْءٍ أَلْفُ حَدِيثٍ!
(8) قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ
اللَّهُ: «وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِنَا جَمَاعَةٌ بَلَغَ الْمُسْنَدُ الْمُصَنَّفُ
لَهُ عَلَى تَرَاجِمِ الرِّجَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ جُزْءٍ مِنْهُمْ
أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ الْأَصْفَهَانِيُّ
وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَاسَرْجِيُّ» يريد:
في كلّ جزءٍ ألف حديثٍ، كما تقدّم في الخبر الذي قبله!!؟
قلت لهما وأنا أضحك: عندنا في
مدينةِ حماة مثلٌ يقول: «مجنون يحكي وعاقل يسمع»!
ومثلٌ آخر يقول: «أنا والله لا
أكذّبك، لكنّ كلامك لا يخشّ بعقلي»!
هذا الحافظ الجِهبذُ محمد بن
المسيّب الأرغيانيّ، الذي كان يمشي في مصر، وفي كُمِّ ثوبه مائة جزءٍ حديثيّ
والجزء الحديثيّ بين (16 - 20) صفحة!
كيف كان يحمل (2000) صفحة في
كُمّ ثوبه أيها العقلاء؟
هل يُتصوّر من بشرٍ أن يحمل
خمسةَ مواعين من الورق، وهو يطلب العلم؟
هذا على فَرَضِ أنّ ورقهم كان
مصقولاً مرتّباً مثلَ أوراقنا اليوم!
وهل يتصوّر عاقلٌ أن تتسع
عشرون صفحةً لألف حديث؟
لنفترض أنّ الصفحة تتسع
لثلاثين سطراً، في كلّ سطرين حديث واحد!
فهذا يعني أن في كل صفحةٍ
خمسةَ عشر حديثاً!
فلو نحن ضربنا (20) صفحة في
(15) حديثاً؛ يكون الجزء الحديثيّ يحتمل (300) حديثاً في الحدّ الأقصى، وليس ألفَ
حديث!
يبدو أنّ الذهبيّ استغرب كلام
الأرغيانيّ لهذا، فقال في ترجمته من النبلاء (14: 425): «هَذَا يَدُلُّ عَلَى دِقَّةِ خَطِّه، وَإِلاَّ فَأَلفُ حَدِيْثٍ
بِخَطٍّ مُفَسَّرٍ تَكُونُ فِي مُجَلَّدٍ، وَالكُمُّ إِذَا حُمِلَ فِيْهِ أَرْبَعُ
مُجَلَّدَاتٍ فَبِالجَهْدِ».
أرجو وآمل أن نفكّر بعقولنا
عندما نقرأ بعيوننا، وإلّا فسنظلّ نعيش في عالم الأحلام والأوهام!
أقول وبالله التوفيق:
لو أننا عددنا جميعَ مئاتِ
الآلافِ التي أوردها الحاكم مسندةً إلى أصحابها؛ تدخل تحت قولِ الإمام أحمد «صَحَّ
مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُ مائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ».
وأحمدُ نفسه يقول عن مسنده: «هذا
الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبع مائة وخمسين ألفَ حديثٍ، فما اختلف
المسلمون فيه من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فارجعوا إليه، فإن كان الحديثُ
في المسند، وإلّا؛ فليس بحجّة».
أخرجه أبو موسى المديني بإسناده في
كتابه «خصائص المسند» (ص: 13).
فنحن لو سلّمنا - جدلاً - بصحّة نسبة
هذا الكلام إلى أحمد: إنّه صنّف مسنده وأتقنه من (750) ألف حديث!
وسلّمنا بصحة صدور هذا الكلام عنه «صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُ مِائَةِ
أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ».
وجملة أحاديث مسند الإمام أحمد
بالمكررات الكثيرة، حسب أفضل طبعة للمسند حقّقها الشيخ شعيب الأرناؤوط وفريقه
(27647) فإليك هذا الأسئلة:
- هل يجوز للإمام أحمد أن يتجاوَز
(700000) وكسراً، نسبوا إليه أنّها أحاديث صحيحة، ثمّ يخرّج لنا كتاباً فيه
(27647) حديثاً مكرّرة، وهي بدون تكرار (9339) حديثاً، الصحيح منها لا يتجاوز
خمسةَ آلاف حديثٍ بحالٍ؟
يا سيّدنا يا أحمدُ ابنَ
حنبلٍ، قدّس الله سرّكَ العزيز:
كيف تقول: إنّ الأحاديثَ
الصحيحةَ (700000) حديث، ثم تستغني عن (695000) حديثٍ صحيح، لا تخرّجها في مسندك،
ثمّ تحذّر المسلمين من الأخذ بأيِّ حديث ليس في مسندك المقدّسِ هذا؟
قال أحمد!
قال البخاري!
قال الحاكم!
أعيروني عقولكم ساعةً وافهموا،
ولا تؤوّلوا، فقد كان من مذهب أحمد إبطال التأويلات!
قال عداب: الإمام أحمد يرى أنّ
كلّ حديث صحّ إسناده؛ فهو سنّة، حتى لو لم يعمل به أحد من الفقهاء!
وأبوابُ كتبنا الفقهيّة مبنية
اليوم على القياس والاستحسان والمصلحة وعمل أهل المدينة ومقاصد الشريعة!
وممّا لا ارتياب فيه أنْ لو
كان عندنا (700000) حديثٍ صحيح عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ما احتجنا
إلى مصادر التشريع هذه كلّها !؟
وبناءً على قول الإمام أحمدَ
هذا؛ يكون جوابُ سؤالِ المنشور: هل ضاع من السنة النبوية شيء؟
نعم ضيّع الإمامُ أحمدُ
والمحدّثون مِن قَبله ومن بعده (695000) حديثاً صحيحاً.
هل يسعنا كلامٌ سوى هذا؟
وإذا قدّسنا كلام الإمام أحمد
هذا - بعد تصحيح نسبته إليه جدلاً- فيجب علينا أن نضعّف أكثرَ من ألفٍ وخمس مائةِ
حديثٍ في الصحيحين، ليست في مسند أحمد!
بيان ذلك بصورة وجيزة؛ أنّ عدد
أحاديث صحيح البخاريّ بالمكرر (7563) حديثاً، وافقه أحمد على (6209) أحاديث منها،
فيكون البخاريّ قد أخرج (1354) حديثاً ليست في مسند أحمد، وهي ليست بحجّة عنده!
وأنّ عدد أحاديث صحيح مسلم (5362)
حديثاً، حسب ترقيم العالميّة، وافقه أحمد على
(4974) حديثاً منها.
فيكون مسلمُ قد أخرج (388)
حديثاً ليست في مسند أحمد، وهي ليست بحجّة عنده!
ألا يسعُ المشككين بصحيح
البخاريّ ومسلمٍ أن يقولوا: إنّ الإمام أحمدَ ضعّف (1742) حديثاً من أحاديثِ
الصحيحين، فلماذا تتّهموننا بديننا ؟
ولو نحن طبّقنا نظريّةَ أحمد
هذه؛ لصنعنا في كتب السنّة الأصول الأعاجيب!
إذ ما من كتابٍ من كتبِ السنن
الخمسةِ، إلّا وقد انفرد بمئات الأحاديث عن مسند الإمام أحمد، فهل جميع هذه
الأحاديث ضعيفة؟!
- عدد أحاديث سنن الدارميّ (ت:
255 هـ) [3503] أحاديث، وافقه الإمام أحمد على تخريج (1656) حديثاً منها، فيكون الدارميّ
قد انفرد بـ ( 1837) حديثاً وأثراً، هي
ليست بحجّة عند أحمد!
- عدد أحاديث سنن ابن ماجه (ت:
273 هـ) [4341] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (2552) حديثاً منها، فيكون ابن
ماجه قد انفرد بــ(1789) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!
- عدد أحاديث سنن أبي داود (ت:
275 هـ) [5274] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (3105) أحاديثَ منها، فيكون أبو
داود قد انفرد بــ(2269) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!
- عدد أحاديث جامع الترمذيّ
(ت: 279 هـ) [3956] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (2466) حديثاًمنها، فيكون
الترمذيّ قد انفرد بــ (1480) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد، مع أنّ الترمذيّ
صحّح وحسّن مئاتٍ منها (145، 184، 233، 360، 391)!
- عدد أحاديث السنن المجتبى
للنسائيّ (ت: 303 هـ) [5758] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (4418) حديثاً منها،
فيكون النسائيّ قد انفرد بــ(1340) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!
والسؤال الآخر: إذا كانت جميعُ
هذه الآلاف من الأحاديث التي أخرجها أصحاب الكتب الأصول ضعيفةً عند أحمد؛ فلماذا
نَشغلُ أنفسنا بدراستها وتعليمها، وإمامُ أهل السنة وشيخ المحدّثين يضعّف أكثر من
سبعةِ آلافِ حديثٍ منها ؟!
ختاماً: إذا كنّا نقصدُ
بالسنّةِ النبويّةِ ما يُمكنُ إدراجُه تحت مسمّى (أدلّة الأحكام الفقهيّة) فأستبعدُ
ضياعَ شيءٍ منها، مجرّد استبعادٍ نظريّ.
وإذا كنّا نقصد بالسنّة
الأحاديثَ الإرشاديةَ والتربويّةَ والسيرةَ النبويّة وتاريخ الراشدين؛ فقد ضاع من
ذلك كثيرٌ كثير، وفي القرآن الكريم، وفيما صحّ من الرواياتِ كفاية وغنىً!
تقريب ذلك بمثال:
بقي الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم في مكّةَ المكرمة، يعلّم أصحابَه العقيدةَ والفكر والعباداتِ ثلاثَ
عشرةَ سنةً، وليس في كتب السنّة (100) حديثٍ مكيٍّ صحيح!
وخطبَ الرسولُ صلّى الله عليه
وآله وسلّم في المدينة أكثرَ من (500) خطبةِ جمعة!
ليس بين أيدينا منها ثلاثون
خطبةً صحيحةُ الأسانيد، والموجودُ أطرافُ خُطَبٍ وليس خُطباً.
كلّ ذلك بفضل عبقريّةِ
واجتهادِ جيل الصحابة الذي لم، ولن يخلقَ الله أذكى منهم ولا أعقل ولا أحفظ ولا
أتقى ولا أعلم «جيلٌ قرآنيٌّ فريد» كما
يقول السيّد قطب!
ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليّ العظيم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق