مَسائل حديثية (32):
هل بلال سيّد الأمّة ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
طلب مني أحدُ الإخوةِ شرحَ حديثِ عمر بن الخطّاب
(أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدنا بلالاً)!
قلت له: في ذاكرتي أنني كتبت منشوراً منذ سنواتٍ في
تخريج هذا الحديثِ وشرحه، فابحث عنه!
رجع إليّ يقول: لم أجد لدى أحدٍ علماً عن هذا
الحديثِ، وقال لي أحدهم: إن كان الشيخ كتب شيئاً حول الحديث؛ فقد ضاع في صفحته
السابقة!
فوجدت نفسي مضطراً لأن أبحث عن ذاك المنشور، فوجدته
ضمن منشوراتِ عام (2017م) فلا أدري هو من منشورات تلك السنة، أم من غيرها؟
وإليك المنشور السابق الذي نشرته يومها تحت سلسلة (نصائح
الطالبين):
بلال سيّد الأمّة ؟!
كتب إليّ يقول: «شيخنا... من المسلّمات عند أهل
السنّة أنّ ترتيب الراشدين من الصحابة في الفضل؛ على حسب ترتيبهم السياسيّ، لكنّ
سيّدنا عمر جعل بلالاً الحبشيَّ سيّد الأمة، فهل هذا الحديث صحيح؟
وكيف يستقيم هذا، وأهل السنة لا يذكرون بلالاً حتى
بين العشرة المبشرة بالجنة)؟
أقول وبالله التوفيق:
حديثُ البابِ؛ أخرجه البخاريّ في مناقب بلال بن
رباح (3754) من حديث
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قال: أَخْبَرَنَا
جَابِرُ بْنُ عَبْدِالله الأنصاريّ رَضِيَ الله عنهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ
يَقُولُ: (أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا) يَعْنِي بِلَالًا!
ومن حديث جابر؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
(31966) وابن شبّة في تاريخ المدينة النبوية (3: 838) والخرائطي في المكارم (263)
والحاكم في المستدرك (5239) وقال: صحيح، ولم يخرجاه، وأخرجه البخاري كما ترى.
ومحمد بن المنكدر من أفاضل أهل زمانه عبادة وتقوى
وعلماً، وروايته عن جابر في الكتب الستة وغيرها.
وقد رُوي هذا الحديث متّصلاً ومنقطعاً، ورجّح
الدارقطنيّ في العلل (139) المتّصل.
وروي من حديث عائشةَ عن عمر، أخرجه الترمذي في
جامعه (3656) وقال: حسن صحيح غريب!
وأقول: إنّ إتقانَ فنونِ اللسان العربيّ، وأساليب
القول عند العرب؛ هو الأساس في الفهم الصحيح لدين الإسلام، بعيداً عن التناقض
والاضطراب!
انظُرْ إليّ مثلاً، أخاطب زميلي بقولي: مولانا
الشيخ فلان، سيدنا الشيخ فلان.
وزميلي يخاطبني بمثلِ تلك الصيغ أيضاً!
فإذا لم يكن عقلك يستوعبُ سوى ظاهر اللفظ؛ فلن تفهم
أنّ هذه العباراتِ كناياتٌ عن الاحترام والتواضع وهضم النفس والعرفان والاعتراف
بالفضل لأهله، وليس المقصودُ منها أنّ زميلي الشيخَ فلاناً مولايَ، يعني يملكني،
ولا أنه سيّدي أو سيّدنا؛ وأنه أفضل مني، وأنني رقيق على باب داره!
نعم عمر كان يرى أبا بكرٍ أفضلَ هذه الأمة على
الحقيقة، وحلفَ أنّ القتلَ في غير إثم أحبُّ إليه من أن يكون أميراً على قومٍ فيهم
أبو بكر.
وأبو هريرة كان يرى جعفر بن أبي طالب خيرَ الناس
للفقراء والمساكين، كما في صحيح البخاري (3708).
وعليٌّ عليه السلام يهضم نفسه، فيقول: (خير هذه
الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر ثم عمر) وقال عقب ذلك: ( ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين)
أخرجه البخاري (3671).
فهَضْم عليٍّ نفسَه؛ ظاهرٌ في قوله هذا؛ إذ لا يقول
أحد من المسلمين: إنّ علياً في الفضل مثل معتّب بن قشير، أو الصعب بن جثامة مثلاً!
وبلال: ليس سيّد الأمة، ولا هو من أبرز ساداتها،
إنما هو عبدٌ أكرمه الله تعالى بإيمان عميقٍ، احترمه المسلمون لأجله، وكان مؤذّن
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدة حياته في المدينة، ثم لم يؤذّن لأحدٍ بعدَ
الرسول.
ففي إطارِ برّ عمر ببلالٍ الحبشيّ العَبدِ الذي ليس
له عشيرةٌ ولا مالٌ، والرفق به والرفع من شأن إيمانِه واستقامته؛ يجب أن يُفْهَم
قول عمر.
ومسألة إعتاق أبي بكرٍ بلالاً؛ فيها تضخيم وتهويلٌ
أيضاً، من أجل إثبات منقبة جليلةٍ لأبي بكر، على عادة الطائفيّين، يعظّمون الصغير
الذي في صالحهم ليظهر كثبيراً !
وظاهر الروايات الواردة في هذه المسألة؛ أنّ أبا
بكرٍ أعتقه بالتدبير، يعني يصبح حرّاً بعد وفاته!
فقد أخرج البخاري في فضائل الصحابة (3755) من حديث
قيس بن أبي حازمٍ أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ؛ فَأَمْسِكْنِي!
وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلهِ؛
فَدَعْنِي وَعَمَلَ الله).
لكنّ أبا بكرٍ لم يتركه وعمَل اللهِ أبداً، بل بقي
عبداً له طيلةَ حياةِ أبي بكر!
وحين استأذن بلالٌ أبا بكرٍ في الجهاد؛ قال له:
(أنشدك اللهَ وحقّي)؟
فأقام معه بلال في المدينة حتى توفي، فلما مات أبو
بكر؛ هاجر بلالٌ إلى الشام مجاهداً، فمات في طاعون عمواس (18- 20
هـ) كما في طبقات ابن سعد (3: 236) وفتح الباري (11: 191).
رضي الله عن أبي بكرٍ وعن عمر وعن بلالٍ، وعن سائر
صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الصادقين المجاهدين.
وسلام الله على عليّ وعلى سائر آل بيت الرسول،
فأولئك قوم لا يقاس بهم أحد!
وأختم بجملة مفيدةٍ في مسألة فضائل الصحابة،
والمفاضلة بينهم للإمام الفقيه الحافظ المجتهد أبي عُمَر بن عبدالبرّ في مقدمة
كتابه الاستيعاب (1: 18) قال:
(فضل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ جماعةً من أصحابه بفضائل خَصّ كلّ واحدٍ منهم بفضيلةٍ، وسَمَه بها،
وذكره فيها.
ولم يأت عنه عليه السلام أنه فضّل منهم واحدًا على
صاحبِه بعينِه، من وجهٍ يَصِحّ!
ولكنه ذكر من فضائلهم ما يُستَدَلُّ به على مواضعهم
ومنازلهم من الفضل والدين والعلم!
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أحلمَ
وأكرمَ معاشرة، وأعلمَ بمحاسن الأخلاقِ، من أن يُواجِه فاضلاً منهم بأن غيرَه
أفضلُ منه، فيَجِدُ من ذلك في نفسه!
بل فضّل السابقين منهم وأهلَ الاختصاص به؛ على من
لم يَنَلْ منازلهَم.
فقال لهم: (لو أنفق أحدُكم مثلَ أحدٍ ذَهَبًا؛ مَا
بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) انتهى.
والحديث الأخير هذا؛ أخرجه البخاري (3673) ومسلم
(4611) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق