مَسائل من التفسير وعلوم القرآن (3):
اختلافُ القرّاء في عدِّ
الآيِ القرآنيّة !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ أحد الإخوة يقول: ذكرتَ في إحدى تعليقاتك
أنّ الاختلافَ في عدّ رؤوس الآي القرآنيّة لا يتجاوز (2%) ألا يشكّك هذا في أنّ
القرآن في بعض القراءات أنقصُ أو أزيدُ من بعض القراءات الأخرى؟
أقول وبالله التوفيق: إذْ لم أكملْ القراءاتِ السبع
على أحدٍ من شيوخي الذين قرأت عليهم القرآن الكريم كاملاً، أو قرأت بعضَه؛ فأنا
الفقير لست بمقرئٍ ولا قارئ!
وما دمتُ لست مقرئاً ولا قارئاً؛ فلا بدّ لي من
متابعةِ أهل الاختصاص، في كلّ ما من شأنه التخصّص الدقيق.
ومن المعلوم لدى المجازينَ أنّ الإجازةَ بروايةٍ
حفصٍ الكبرى؛ يستلزم إتقان التجويد والتلاوة والوقف والابتداء ورسم المصاحف، وعدِّ
آي القرآن الكريم.
وقد كانت عمدةَ شيخنا الشريف محمد بن سليمان بن
أحمد الحسنيّ الشندويليّ في عدّ آي القرآن الكريم قصيدةُ «ناظمة الزُهرِ» للإمام
الشاطبيّ رحمهما الله تعالى، صاحب القصيدة العصماء «حرز الأماني ووجه التهاني»
المشهور بالشاطبيّة في القراءات السبع.
ومطلع ناظمة الزهر:
بدأْتُ بحمدِ اللهِ ناظمةَ الزُهْرِ
لتَجني بعونِ الله عيناً من الزَهرِ
وعُذْتُ بربي من شرور قضائِهِ
ولُذْتُ به في السرِّ والجهرِ من أمري
وخواتمها تبدأ بقول الشاطبيّ:
(295) وأبياتها تسعون معْ مائتينِ قُلْ
وزِدْ سبعةً تحكي اللُجَينَ معَ الدُرِّ
(296) وأُهدي صلاةَ اللهِ ثمّ سلامَه
على المصطفى والآلِ، معْ صحبِه الغُرِّ
(297) والَاتْباعِ أهلِ العلمِ والزُهْدِ والتُقى
معَ الفضلِ والإحسانِ والعَفْوِ والصَبْرِ
وقد سبقَ الإمامَ الشاطبيَّ إلى عدّ آي القرآن
الكريم الإمامُ أبو عَمرٍو الدانيُّ (ت: 444 هـ) في كتابِه «البيانُ في عدّ آي
القرآن» بل هو عمدة الشاطبيِّ في ذلك!
وقد نصّ في طليعة قصيدته ناظمة الزهر على ذلك،
فقال:
(32) ولكنني لم أَسْرِ ألّا مُظاهِراً
بجَمْعِ ابن عمّار، وجَمْعِ أبي عَمرِو
وابن عمّار: هو هشام بن عمّارِ بنِ نُصيرٍ السلمي
الدمشقيّ المقرئ.
وأبو عمرو: هو عثمان بن سعيد الداني.
وسببُ اختلافِ القرّاءِ في عدّ آيِ القرآن الكريم؛
يرجع أمرين:
الأوّل: إلى وُقوفِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله
وسلّم، فقد كان يقفُ على رؤوس الآي متى كان المعنى تامّاً، لكنّه قد لا يقف على
رؤوس الآي أحياناً.
وكلُّ واحدٍ من الصحابة القرّاءِ نقلَ إلى تلامذته
ما قرأ على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
والسبب الثاني: أنّ أكثرَ القرّاءِ يَعُدّون (بسم
الله الرحمن الرحيم) آيةً في أوّل كلّ سورةٍ، ما عدا سورةَ براءة، بينما بعضهم
يعُدّها آية واحدةً من سورة النمل (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) وحسب!
قال
المقرئُ الشيخ عبدالفتّاح القاضي، رحمه الله تعالى في كتابه «الفرائد الحسان في
عدّ آي القرآن»:
«علماءُ
العَدَدِ: هم سبعةٌ على المشهور:
(1)
المدني الأول (2) المدني الأخير (3) المكيّ (4) البصري (5) الدمشقي (6) الحمصي (7)
الكوفي.
قال الفقير عداب: سأرتّب الأعداد بَدْءاً بالعدِّ
الأدنى صعوداً إلى الأعلى.
(1) العدُّ البصري: هو ما يرويه عطاء بن يسار وعاصم
الجحدريُّ، وهو ما ينسب بعد إلى أيوب بن المتوكل. وعدد آي القرآن عنده (6204).
(2) العدُّ المكي: هو ما رواه الإمام الداني بسنده
إلى عبد الله بن كثير القارئ عن مجاهد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، وعدد الآي عنده (6210).
(3) العدُّ المدني الأخير: هو ما يرويه إسماعيل بن
جعفر عن يزيد وشيبة بواسطة نقله عن سليمان بن جماز. فيكون المدني الأخير هو المروي
عن إسماعيل بن جعفر عن سليمان بن جماز عن شيبة ويزيد، وعدد آي القرآن عنده (6214)
(4) العدُّ المدنيُّ الأوّل، رواية الكوفيين عن أهل
المدينة، وعدد آي القرآن فيها (6217).
(5) العدُّ الدمشقي: هو ما رواه يحيى الذماري عن
عبد الله بن عامر، اليحصبي عن أبي الدرداء وينسب هذا العدد إلى عثمان بن عفان، رضي
الله عنه، وعدد الآي فيه (6226) وقيل: (6227).
(6) العدُّ الحمصي: هو ما أضيف إلى شريح بن يزيد
الحمصي الحضرميّ، وعدد الآي فيه (6232).
(7) العدد الكوفي: هو ما يروونَه عن علي بن أبي
طالبٍ، رضي الله عنه، بواسطة ذوي علم وخبرة، وهذا العدُّ اشتهر بالعدد الكوفي، وعَدَدُ
آي القرآن فيه (6236) آية.
ولزيادةِ البيان والاطمئنان؛ انظر معجم علوم القرآن
للدكتور إبراهيم بن محمد الجرميّ (ص: 190 - 192) وإتقان البرهان للدكتور فضل حسن
عباس (1: 429 - 433).
وإليكَ أخي القارئ بعضَ الأمثلةِ من كتاب البيان
لأبي عمرٍو الدانيِّ:
قال رحمه الله تعالى (ص: 139): «سورة الحمدُ: عددُ
كَلِمِاتها خمسٌ وَعِشْرُونَ كلمةً، وحُروفها مئة وَعِشْرُونَ حَرفاً، وَهِي سبع
آيَات فِي جَمِيع الْعدَد» يقصد عند جميع القرّاء، واختلافُ أهل العدد في آيتين
منها:
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) عَدّهَا
الْمَكِّيّ والكوفيّ آيةً، وَلم يعدّها الْبَاقُونَ.
(أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) لم يَعُدّها الْمَكِّيّ
والكوفي رأسَ آية، وعَدّها الْبَاقُونَ».
مثال
آخر (ص: 169): «سورة الرعد، كَلِماتُها ثَمَانِي مئة وَخمْس وَخَمْسُونَ كلمةً، وحروفها
ثَلَاثَة آلَاف وَخمْس مئة وَسِتَّة أحرف.
وَهِي ثَلَاثٌ وأَرْبَعُونَ آيَةً فِي العدِّالْكُوفِي،
وَأَرْبع وأَرْبَعُونَ فِي العدّين الْمَدَنِيّينِ وفي العدّالمكي، وَخمْس وأَرْبَعُونَ
في العدّ البَصرِيّ، وَسبع وأَرْبَعُونَ في العدّ الشَاميّ.
اختلافُها في خمسِ آيَات:
قوله تعالى في سورة الرعد:
-(لفي خلق جَدِيد (5) لم يَعدَّها الْكُوفِيُّ رأسَ
آيةٍ، وعدها الْبَاقُونَ.
- (قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير (16) عدّهَا
الشَّامي رأسَ آيةٍ، وَلم يَعدّها الْبَاقُونَ.
- (أم هَل تستوي الظُّلُمَات والنور (16) لم يعدها
الْكُوفِي رأسَ آية، وعدّها الْبَاقُونَ.
- (أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب (18) عدّهَا
الشَّامي رأسَ آيةٍ، وَلم يعدها الْبَاقُونَ.
- (من كل بَاب (23) لم يَعّدَوها في العدّين
المدنيّين وفي العدِّ المكيِّ رأس آية، وعدّها الْبَاقُونَ» انتهى.
أخيراً: وضحَ لديكَ أخي القارئ الكريم؛ أنّ علماءَ
عدِّ القرآن الكريم؛ لم يختلفوا في عَددِ كلماتِ القرآن الكريم، ولا في عدد حروفه،
إنما اختلفوا في تعيين رؤوس بعضِ الآيات.
وعدد آياتِ القرآن الكريم، حسب عدّ الكوفيين «رواية
حفص» الذي طبعت عليه مصاحفُ المشارقةِ من المسلمين (6236).
فتكون الآيات التي اختلف عليها أهلّ العَدّ بين عدّ
البصريين (2204) وعدّ الكوفيين (6236) هو (32) آيةً فحسب!
ومن المعلوم لدى طلّاب علم القراءاتِ؛ أنّ الصحابةَ
الذين تدورُ عليهم أسانيدُ القراءات؛ هم سبعةٌ من الصحابة، فحسب، وهم:
- الإمام عليٌّ عليه السلام.
- الخليفة عثمان بن عفّان.
- عبدالله بن مسعودٍ الهذليّ.
- أُبيُّ بن كعبٍ الأنصاريُّ.
- زيدُ بن ثابتٍ الأنصاريّ.
- عُويمر بن زيدٍ أبو الدرداء الأنصاريّ.
- أبو موسى الأشعريّ.
قال
الإمام الذهبيّ في طبقات القرّاء (1: 20): «هؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن
في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأُخِذَ عنهم عَرضاً، وعليهم دارتْ
أسانيدُ قِراءاتِ الأئمّة العشرةِ.
وقد جَمع القرآنَ غيرُهم من الصحابةِ، كمعاذِ بن
جبلٍ وأبي زَيدٍ وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعبدِالله بن عمر، وعتبةَ بنِ عامر، ولكن
لم تَتّصل بنا قِراءتُهم، فلهذا اقتصرت على هؤلاء السبعةِ، رضي الله عنهم، واختصرت
أخبارهم».
خِتاماً: لا ريبَ عندي في أنّ الراجح هو العدُّ
الكوفيّ، المُسنَد إلى الإمامِ عليٍّ عليه السلام، وليس في قرّاء الصحابةِ السبعةِ
من يوزن علمه بعلم عليّ عليه السلام!
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق