مَسائل من التفسير وعلوم القرآن (2):
الوَقفُ على رؤوسِ الآيِ
القرآنيّة؛ ليس بسنّةٍ !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحد الإخوة مقطعاً صوتيّاً لأحد علماء
الوهابيّة، غير المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن، يؤكّد فيه على ضرورة الوقف على
رؤوس الآي، سواء تمّ المعنى، أم كان تمامه في الآية التالية، محتجّاً بحديث أمّ
سلمة الذي أخرجه أصحاب السنن، وفي إحدى رواياته، قَالَتْ أمّ سلمة: (كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ، يَقْرَأُ:
(الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثُمَّ يَقِفُ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
ثُمَّ يَقِفُ». أخرجه جمع غفيرٌ من المصنّفين، منهم الحاكم في
المستدرك (2910) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ
يُخَرِّجَاهُ».
وأخرجه الترمذيّ في جامعه (2927) وقال: «هذا حديثٌ
غريبٌ، وليس إسناده بمتّصل».
أقول وبالله التوفيق:
بإسنادي
إلى الإمام أحمد في مسنده الكبير (26451) قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ - وَهُوَ الْجُمَحِيُّ - عَنِ «عبدالله»
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَلَا أَعْلَمُهَا إِلَّا حَفْصَةَ - سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّكُمْ لَا تُطِيقُونَهَا».
قَالَتْ:
(الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تَعْنِي التَّرْتِيلَ».
وأعاده
الإمام أحمد في المسند (26470) من طريق وكيعِ بن الجرّاح وأبي عامر العَقَديّ
كلاهما عن نَافِعِ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، به.
قال
الفقير عداب: مدار حديث الباب على عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة التيميّ، رواه
عنه:
(1)
نافع بن عمر الجمحيّ، عند أحمد في المسند، فجعله عن ابن أبي مليكةَ، عن بعض أزواج
الرسول، وظنّ نافعٌ أنها حفصة.
إسناد
هذا الحديث رواته ثقات، بيد أنّ ظنّ نافع بن عمر؛ ليس بصحيح، فإنّ جميع الرواة سوى
نافعٍ، رووه من حديث أمّ سلمة، وليس من حديث حفصة!
ولم
يذكر المزي في ترجمة ابن أبي مليكةَ أنّه يروي عن حفصة أمّ المؤمنين، كما لم أجد
أيَّ روايةٍ له عنها، سوى هذه الرواية المظنونة.
وإذ
هو يروي هذا الحديثَ عن ابن أبي مليكة؛ فنجعل نافعاً أحدَ رواة حديثِ أمّ سلمة
عنه، وقد أحسن ابن سعدٍ، عندما قال في ترجمة نافع هذا (5: 494) وهو في تهذيب
الكمال (29: 289): «كَانَ ثقةً قليلَ الحديثِ، فِيهِ شيء».
(2)
وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، وجعله عن ابن أبي مليكةَ عن أمّ سلمة، قالت: (كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ: (الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثُمَّ يَقِفُ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ يَقِفُ،
وَكَانَ يَقْرَؤُهَا (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)
وهذه
الرواية أخرجها كثيرون أيضاً، منهم الترمذيّ في الجامع (2927) وضعّفها بقوله: «هَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَهَكَذَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ
عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَلَيْسَ
إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ، عَنْ أُمِّ سَلمَةَ؛
أَنَّهَا وَصَفَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَرْفًا حَرْفًا، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ».
(3)
والليث بن سعدٍ المصريّ، فجعله عن ابن أبي مليكةَ، عن يَعلى بن مَمْلَك، عن أمّ
سلمة.
وأخرجه
جماعة من المصنّفين هكذا، منهم الترمذيّ في جامعه (2923) مختصراً، مقتصراً على لفظ
(وَصَفَتْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا
حَرْفًا) ثم قال الترمذيّ «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ
إِلَّا مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَطِّعُ
قِرَاءَتَهُ، وَحَدِيثُ لَيْثٍ أَصَحُّ».
قال
الفقير عداب: حكم الإمامُ الترمذيّ على رواية ابن أبي مليكة عن أمّ سلمةَ أنها
ضعيفةٌ «غريبة» منقطعة؛ فلا نطوّل بالكلام عليها، لكنْ لا بدّ من الإشارةِ إلى
رواية ابن جريجٍ لها بالعنعنة، من جميع طرقها عنه، فصار في الحديث علّتان:
الانقطاع والتدليس.
أمّا
تصحيحُ الترمذيّ رواية ابن أبي مليكةَ عن يعلى بن مملك، عن أمّ سلمةَ؛ فمشكلٌ
أيضاً؛ لأنّ يعلى بن مملك ترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (32: 401) وذكر أنه لم يرو
عنه سوى عبدالله بن أبي مليكةَ، ولم يوثّقه أحدٌ من الحفّاظ المتقدّمين.
وترجمه
الذهبي في الميزان (4: 458) وقال: «ما حدّث عنه سوى ابن أبي مُلَيكةَ» فهو مجهول
إذن!
ولو
صحّ حديثُه هذا جدلاً؛ فليس فيه ما في حديثِ ابن جريج عن أمّ سلمة «يَقِفُ - يقطّع
قراءته».
فالحديثُ
الوحيد الذي يحتجّ به مَن يقول: إنّ الوقفَ على رؤوس الآي سنّةٌ؛ هو حديثٌ لا يصحّ
من أيٍّ من طرقه الثلاثة، فأيّ سنة هذه؟
وأين
في لفظ الحديثِ ما يدلّ على التزام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالوقف على
رؤوس الآي؟
ليس
في لفظ الرواية التي ضعّفها الترمذيّ، ولا في لفظ الرواية التي صحّحها - وهي ضعيفة
- مثلُ هذا الالتزام المُفضي إلى السنيّة أبداً!
إنما
تصف أمّ سلمةَ قراءةَ الرسولِ في بيتها، فهي واقعة حالٍ، لا عموم لها بذاتها!
هذا
كلّه على افتراض أنّ الحديثَ صحيح، وهو ليس بصحيح!؟
وإليك
بعض الأمثلةِ التي توضّح أنّ علماء الوقف والابتداء؛ لم يكونوا يتّخذون الوقفَ على
رؤوس الآي منهجاً لهم، إنما يراعون الوقفَ التامَّ، والوقف الكافي، والوقف الحسن،
ويبتعدون عن الوقف القبيح، وينبهون عليه، حتى لو كان هذا الوقف على رؤوس الآي!
قال
الإمام أبو عمرو الداني، شيخ قرّاء عصره: «ومن هذا النوع من القبح أيضاً؛ الوقف
على الأسماءِ التي تُبيّن نُعوتُها حقوقَها، نحو قوله تعالى: (فويلٌ للمصلين)
وشبهه لأن (المُصلّين) اسمٌ ممدوحٌ مَحمودٌ، لا يليق به كلمة (وَيلٌ) وإنما خرج من
جملة الممدوحين بنعته المتصل به وهو قوله (الذين هم عن صلاتهم ساهون)».
وكقوله
تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ
يَعْرُجُونَ) فلو وقف القارئ على يعرجون؛ لكان الكلام غيرُ مفيدٍ مقصود الآية
الكريمة، إنما يتمّ المعنى بعد جواب «لو» في قوله تعالى: (لَقَالُوا إِنَّمَا
سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).
ومن
ذلك قوله تعالى: (قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وتمام
المعنى بعد قوله تعالى: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إذ العمومُ في
قوله تعالى (أَجْمَعِينَ) غير مقصودٍ أبداً.
ومن
ذلك قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) واضح أنّ الله تعالى وصف
القرآن بأنه مصدق لما بين يديه، بينما بقيت التوراة والإنجيل، من دون وصف، فيبقى
المعنى ناقصاً، حتى تقرأَ قوله تعالى في الآية التالية (مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ).
بل
إنّ الآية الواحدة، يعسُر فهمها أحياناً، ما لم تقطّعها إلى مقاطع توضيحية، من مثل
قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) [سورة الحديد].
كيف
سيفهم القارئ غيرُ المتخصّص هذه الآيةَ الكريمةَ، إلّا إذا وضعنا له علاقاتِ وقف
تساعده في ذلك، على النحو الآتي:
(ثُمَّ
قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا [وقف كاف] وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ [وقف كاف] وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ [وقف تام].
(وَجَعَلْنَا
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [وقف تام] لا يصح وصلها
بما بعدها بتاتاً، إذ الرهبانية سلوك ظاهر، وليست شيئاً قلبياً باطنيّاً.
(وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا، مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) [وقف تام].
«هم
لم يبتدعوها» (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله [وقف كافٍ] فَمَا رَعَوْهَا
حَقَّ رِعَايَتِهَا [وقف تامّ].
(فَآتَيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وقف كافٍ] وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)
[وقف تامّ].
ختاماً:
جميع مشايخي الذين قرأت عليهم القرآن العظيم، وأبرزهم المقرئ الشريف عارف النوشيّ
السبسبيّ الحمويّ، والمقرئ الشريف محمد بن سليمان بن أحمد الحسنيّ الشندويليّ، والمقرئ
الشيخ سعيد بن عبدالله الخالديّ الحمويّ، والمقرئ الشيخ سليمان الصغير، ووالدتي،
رحمة الله عليهم أجمعين، قرأت على جميعهم بالوقف الذي يراعي تمام المعنى وكفايته،
وليس على رؤوس الآي.
والله
تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق