مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (11):
لا إنكارَ في مسائلِ الخِلافِ !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ يقول: «هل القاعدة الفقهيّة (إنكارَ في
مسائل الخِلافِ) صحيحة؟
وهل هي متّفَقٌ عليها بين العلماء؟
وكيف تكون صحيحةً، والصحابةُ ومن بعدهم من المسلمين؛
استحلّوا دماءَ بعضهم لاختلافهم في مسائلَ قابلةٍ للاجتهاد»؟
أقول وبالله التوفيق: إنّ التقعيدَ النظريَّ المثاليَّ
أو الكماليَّ شيءٌ، والتطبيقَ الواقعيَّ شيءٌ آخر!
فقد قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) [الأنبياء] ونحوها في
[المؤمنون: 52].
ومعنى هذه الآيةِ - عندي - أنّ الله تعالى أراد
لأمّةِ الإجابةِ أن تكون أمّةً واحدةً!
وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (10) [الحجرات].
بمعنى أراد الله تعالى للمؤمنين أن يكونوا إخوة !
لكنْ هل أمّة الإسلام اليوم أمّة واحدةٌ، أو نحن
أمم متدابرةٌ متناحرةٌ متقاتلة؟
وهل المؤمنون إخوةٌ في واقع الأمر؟
أو إنّ هناك السنيّ والشيعي والإباضيّ، والجميعُ
يستحلّ دماءَ الجميع عند الاختلاف الدنيويّ «السياسيّ» فضلاً عن
الدينيّ؟
وجملةُ (لا إنكارَ في مسائل الخلاف) هي ذاتُها محلّ
اختلافٍ بين العلماء، وأنا سأسير في توضيحها، وترجيح الراجح في نظري من أقوال
العلماء، في خطوات متتابعةٍ، حتى نضعَ أيدينا على موضعِ الخلافِ، آخذين بعين
الاعتبار؛ أنّ الأمّةَ مقلّدةٌ، منذ عصر الصحابة وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله
الأرضَ ومن عليها.
أعني أنّ اللاحقَ يتابع السابقَ تحسيناً للظنّ به،
واعتقادَ أفضليّته وأعلميّته!
أمّا أنا الفقير؛ فلا أعتقدُ بأفضليّة السلفِ، ولا
بأعقليّتهم، ولا بأعلميتهم!
باستثناء من منحه الله تعالى فضلَ السبقِ بقوله
الكريم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة].
وفضلُ سَبْقِهم؛ لا يعني أبداً أعقليّتَهم ولا
أعلميتَهم، بل إنّ العلماءَ فيهم لا يزيدون على عشرين عالماً، وهم أنفسهم الذين
قتلَ بعضهم بعضاً، لاختلافهم في مسائلَ من العلمِ والحياةِ!
مع أنّهم أو أكثرهم سمعوا الرسولَ صلّى الله عليه
وآله وسلّم في حَجّةِ الوداع يقول لهم: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً،
يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) وهو حديث مشهورٌ، مرويٌّ في الصحاحِ عن عددٍ
من الصحابة!
أوّلاً: إنّ جملةَ (لا إنكارَ في مسائلِ الخلاف) هي
من القواعدِ الأصوليّة، عند مَن يصوّب العملَ بها بها، وليست قاعدةً فقهيّة!
والقاعدة الأصوليّة: هي قاعدةٌ كليّةٌ تنطبق على
جميع جزئياتها، مثل (لا يُنسب إلى ساكتٍ قول) ومثل (لا يُنسخُ المتواتر بخبر
الواحد).
أمّا القاعدةُ الفقهيّة: فهي قاعدةٌ أغلبيّة تختصّ بالأحكام
الفقهيّة لا بأصول الأحكام.
ثانياً: أثراً من آثار التقليدِ القديم الجديد،
وأثراً من تجويز الروايةِ بالمعنى؛ فقد عبّر الأصوليون والفقهاء عن هذه القاعدةِ
بألفاظٍ متعدّةٍ، أبرزها:
(1) لا إنكار في مسائل الخلاف - لا إنكار في
المسائل الخلافية -لا إنكار في المسائل المختلف فيها - لا إنكار في مسائل الاجتهاد
- لا إنكار في المسائل الاجتهاديّة - لا إنكار في الظنيّات.
(2) مسائل الخلاف لا إنكار فيها - المسائل
الاجتهادية لا إنكار فيها - المختلَفُ فيه لا إنكارَ فيه، وهناك ألفاظ مقاربةٌ
ومشابهةٌ لا حاجةَ إلى التطويل بعرضها.
ثالثاً: ما معنى هذه القاعدة عند الأصوليّين ؟
إنّ أوسع
الكلام على هذه المسألةِ؛ تجده لدى ابن قيّم الجوزيّة الدمشقيّ في «إعلامُ
الموقّعين عن ربّ العالمين» (5: 243) إذ خطّا قولَ من قال: (لا إنكار في مسائل
الخلاف) ونصَّ على أنّ أحداً من الأئمّة لم يقل بهذا القول.
وسبب منشأ الخطأ في نظره؛ أنّ من ليس لديه تحقيقٌ
في العلم يظنّ أنّ قول «لا إنكار في مسائل الخلاف» هو ذاته «لا إنكار في المسائل
الاجتهادية» فالأوّل خطأٌ محضٌ، والثاني صحيح بقيود!
قال: «المسائلُ التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد
تيقَّنا صحة أحد القولين فيها؛ كثيرةٌ:
(1) مثل كونِ الحامل تَعتدُّ بوَضعِ الحَملِ.
(2) وأن إصابةَ «جماعَ» الزوج الثاني؛ شرطٌ في
حلِّها للأول.
(3) وأن الغُسل يجب بمجرد الإيلاج، وإن لم يُنْزِل.
(4) وأنّ ربا الفَضْل حَرَام.
(5) وأنّ نكاحَ المتعة حرام.
(4) وأنّ النَّبيذ المُسْكر حرام.
(5) وأنّ المسلم لا يقتل بكافر.
(6) وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفراً» وذكر
مسائلَ أُخَرَ، ثم ختم بقوله: «ولهذا صرّح الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلافِ كثيرٍ
من هذه المسائل، من غيرِ طعنٍ منهم على من قال بها» انتبه إلى دقّة هذا الكلام!
قال: «الصوابُ ما عليه الأئمةُ من أنّ مسائل
الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العملُ به وُجوباً ظاهراً، مثلُ حديثٍ صحيحٍ،
لا معارض له من جنسه؛ فيسوغ فيها لاجتهادُ، إذا عُدمَ فيها الدليل الظاهر الذي يجب
العملُ به؛ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في قول العالم: إنّ هذه المسألة قطعية أو
يقينية، ولا يَسوغ فيها الاجتهاد؛ طَعْنٌ على مَنْ خالفها، ولا نسبةٌ له إلى تعمّد
خلاف الصواب» وانتبه أيضاً.
فابن القيّم يرى أنّ هناك مسائلَ اختلف فيها
العلماءُ لأسبابٍ كثيرةٍ، لكنّ الدليلَ رجحانِ صوابِ أحد وجوه الخلافِ؛ ظاهر.
فمن اطّلعَ على دليلِ رجحان الصوابِ؛ لا يجوزُ له
أن يخالفَ، ثم يقول: (لا إنكارَ في مسائلِ الخلاف).
أمّا المسائلُ التي اختلف فيها العلماءُ، والدليل؛
فيها غير موجبٍ أو ملزمٍ، والمختلفون فيها من أهل العلم والنظر، وليسوا من أهل
التقليدِ والتعصّب؛ فهذه هي المسائل الاجتهاديّة التي يجوز أن يقال فيها: (لا
إنكار في مسائل الاجتهاد).
وللتوسّع
في الجانب النظريّ هذا؛ طالع:
التحقيق والبيان في شرح البرهان؛ للأصوليّ علي بن
إسماعيل الأبياريّ (ت: 616 هـ) (3: 282).
إعلام الموقّعين لأبي بكر بن قيم الجوزيّة (ت: 751
هـ) (1: 62) و(5: 242) فما بعد.
البحر المحيط، للأصوليّ الفقيه بدر الدين الزركشيّ
(ت: 794 هـ) (6: 158).
المنثور في القواعد الفقهية للزركشيّ نفسه (2:
140).
الفوائد الجسام على قواعد ابن عبدالسلام، للأصولي
الفقيه أبي حفصٍ البلقينيّ (ت: 805 هـ) (ص: 354).
إجابة السائل شرح بغية الآمل، للأصوليّ الفقيه محمد
بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ (ت: 1182 هـ) (ص: 416) وغيرها.
رابعاً: التطبيقات:
ينبغي أن لا نُنهي المنشور، من دون لفتِ النظر إلى
عددٍ من المسائلِ الخلافيّة الاجتهاديّة في علوم الحديثِ.
(1) هل يؤخذ بخبر الواحد الصحيح في العقائد؟
(2) هل يؤخذ بخبر الواحد الحسن في العقائد؟
(3) هل يؤخذ بخبر الواحد الجيّد والصالح في
العقائد؟
بجميعِ ذلك أخذ الحنابلةُ وكثيرٌ من أهل الحديثِ،
والأخباريين من الإماميّة.
وقال الأشاعرة والماتريديّة: لا يجوز الأخذ بخبر
الواحد في أصول الاعتقاد بخبر الواحد الصحيح، وجوّزوا الأخذ به في مسائل فروع
الاعتقاد.
وقال المعتزلة: لا يجوز الأخذ بخبر الواحدِ الصحيح،
فضلاً عن عمّا دونه في أصول الاعتقاد وفروعه، والمعتزلة من أهل السنّةِ، وليس كما
يُظَنّ أنهم من الشيعة!؟
وبذلك قال الشريف المرتضى من الإماميّة.
وقال الفقير عداب: خبر الواحد الحسن والجيّد؛ لا
يصلح لأكثر من الأولى وعدم الأولى، فلا أحتجّ به في أصول العقائد ولا فروعها.
وخبر الواحدِ الصحيح: إذا جاء مشهوراً عن صحابيٍّ
مجتهدٍ مثل عليٍّ وعمر وابن عباس وعائشة، رضي الله عنهم؛ أقبله في أصول الاعتقادِ
وفروعه؛ ما لم يخالف ظاهرَ القرآن، أو يختلف هؤلاء الصحابة في المسألة.
(4) هل وجود الحديثِ في صحيح البخاريّ يعني أنّه
صحيح؟
في نظر الفقير؛ لا يُقبَل قول المقلّد مطلقاً، وليس
لخلافه أيُّ قيمة، سوى أنّه وقحٌ يحشر أنفَه فيما لا يعلم!
والذي يعتدّ بخلافه من خرّج صحيح الإمام البخاريّ،
أو خرّج (1000) حديثٍ منه، من جميع كتب صحيح البخاريّ، وكان من أهل العلم المشهود
لهم فيه، من أهل الاختصاص.
وأنا لا أعلم أحداً خرّج صحيح البخاريّ كاملاً، سوى
الحافظِ ابن حجرٍ، والفقير عداب الحمش.
وكان تخريج الحافظ ابن حجر سرديّاً، إلّا فيما نبّه
الحفّاظُ السابقون عليه، على علّة فيه.
وقد أجاد إجادةً بالغةً سامقةٌ في تخريج الرواياتِ
المعلّقةَ التي بلغت (3570) وصل البخاريّ جميعَها في صحيحه، باستثناء (160) رواية،
والضعف يكتنفها من جوانبها.
أمّا تخريج الفقير عداب؛ فهو تخريج استيعابيّ شاملٌ
مصادرَ الرواية أوّلاً.
ثمّ تخريجٌ نقديٌّ لكلِّ حديثٍ حديثٍ إسناداً
ومتناً، نصَّ السابقون على علّةٍ فيه، أم لم ينصّوا.
بيد أنني لا أخرج عن قواعدِ أهل السنّة أبداً، إلّا
في مسائلَ قليلةٍ جدّاً، من النادر أنْ قمتُ بتطبيقها في تخريجي للصحيحين؛ لأنّ
العقولَ لا تحتمل!
فعندما يأتيني معاصرٌ يشوّشُ بالقول: أجمعت الأمّة
على أنّ كلّ ما في صحيح البخاريّ صحيح؛ أقول له: تبّاً لهذا الإجماع المدّعى،
وتبّاً لتلك الأمّة التي أجمعت على ذلك، افتراضاً!
وقد بيّنت في منشورٍ قريبٍ عددَ الأحاديثَ
الموقوفةَ والمقطوعةَ والمرسلةَ
والمنقطعةَ والمعلّقة في صحيح البخاري، وهذه جميعها لا تدخل في التشريعِ من قريبٍ
ولا بعيدٍ!
ناهيك عن الأحاديثِ الكثيرة التي لم يأخذ بها
الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، والأحاديثِ التي لم يأخذ بها الحنفية
والمالكيّة أو أحد المذهبين في الفقه!
والأحاديثِ التي اختلف المحدّثون أنفسهم في تصحيحها
وتضعيفها وتعليلها.
والأحاديث التي أخرجها مسلمٍ عن رواةٍ طعن فيهم
البخاريّ، والأحاديثِ التي أخرجها البخاريّ، وأعرض عنها مسلم!
لا يمكن لمحدّثٍ يفهم بعلوم الحديثِ أن يقول: إنّ
هذه الأحاديثَ جميعَها صحيحةٌ أو مقبولة!
فوجود الحديث في صحيح البخاريّ؛ قد يكون صحيحاً
لذاته، أو صحيحاً لغيره، أو حسناً لذاته، أو حسناً لغيره، وقد يكون ممّا اختلف
نقّاد الحديث فيه، في مسائل:
تعارض الوقفِ والرفع.
تعارض الوصلِ والإرسال.
تعارض الاتصال والانقطاع.
تعارض الانقطاع وزيادة الثقة.
وهذه المسائلُ جميعها عالجها الإمامُ البخاريّ هو
في صحيحه، ولم يتركها لتُنْتَقَد عليه!
(5) مسائل توضيحيّة لما تقدم في البند (4):
(أ) ذكرت في منشور سابق قريب أنّ عددَ الروايات
الموقوفة في صحيح البخاريّ (461) رواية.
منها ما هو موقوفٌ يحمل رأي صحابيٍّ في مسألةٍ من
المسائل، مثال ذلك:
في كتاب الإيمان (32) قال البخاريّ رحمه الله
تعالى: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح قَالَ و
حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ «بن مسعودٍ» قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّنَا لَمْ
يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وفي كتاب التيمّم (345) قال البخاريّ: حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ أَخْبَرَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِاللهِ
بْنِ مَسْعُودٍ:
إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لَا يُصَلِّي؟
قَالَ
عَبْدُاللهِ «بن مسعودٍ»: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ
فِي هَذَا؛ كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ الْبَرْدَ قَالَ هَكَذَا، يَعْنِي
تَيَمَّمَ وَصَلَّى!؟
قَالَ أبو موسى: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ
لِعُمَرَ؟
قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ
عَمَّارٍ».
وفي هذا الحديث من الفوائد ما يأتي:
- كان من
رأي عمر الذي تابعه عليه ابنُ مسعود أنّ المسلمَ إذا أراد الصلاةَ ولم يجد الماءَ؛
لم يصلِّ حتى وإن خرج الوقت، فإذاوجد الماءَ؛ توضّأ، ثم صلّى ما فاته.
- أنّ عمر ماتَ، وهو يفتي بهذا، كما في فتح
الباري والتمهيد لابن عبدالبرّ!
- أنّ عمّاراً تحاورَ مع عمر في هذه المسألة،
ثمّ وعدَ عمر أن لا يحدّثَ بها ما دام عمرُ حيّاً، حتى لا يخالفَ الإمامَ الحاكم!؟
- ابن مسعودٍ لا يرى بعضَ ذلك الجيلَ أصحاب
دينٍ وتقوى، بدليل قوله: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ الْبَرْدَ؛ تَيَمَّمَ
وَصَلَّى» وهذا خلاف التهويل والتفخيم الذي يصوّرون فيه
أجيال السلف!
(ب) ذكرتُ أنّ عددَ المراسيل في صحيح البخاريّ (93)
حديثاً، مثل ذلك:
- في كتاب العلم (64) قال البخاريّ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ
صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ
الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ.
قال عُبَيْدِ الله المسعودي: فَحَسِبْتُ أَنَّ
ابْنَ الْمُسَيَّبِ: قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ).
وهذا حديثٌ مرسلٌ، ابن المسيّب تابعيّ لم يلقَ
الرسول، وهو يحكي قصّةً لم يقل من حدّثه بها، وهذا أيسر المراسيل!
ونحن نعتمد على هذه الروايةِ المرسلة، في أنّ كسرى
فعل ذلك، وأنّ الله تعالى مزّق ملك الأكاسرة بدعوة الرسول.
-وفي كتاب
الأذان (682) قال البخاري: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِاللهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ عبدالله بن عمر قَالَ: لَمَّا
اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قِيلَ
لَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ
عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ
قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ
صَوَاحِبُ يُوسُفَ).
قال البخاريّ: تَابَعَهُ «أي: تابعَ
يونسَ بن يزيدَ على أنّ الحديث موصولٌ» الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ
أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ
عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بن عبدالله، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» يعني مرسلاً،
إذ حمزة بن عبدالله تابعيّ.
والبخاريّ ههنا يحكي علّةَ هذا الحديثِ، وهي تعارض
الوصل والإرسال.
(ج) ذكرت أنّ عددَ المنقطعاتِ في صحيح البخاري (26)
حديثاً، وإليك المثال الآتي:
في كتاب الجنائز (1348) قال البخاريّ:
«أ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ
حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله ِصَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي
ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا
أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ
عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ
وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ).
«ب» «قال محمد
بن مقاتل»: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ
عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ أَيُّ
هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ
قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي
نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.
«ج» قال البخاريّ: وَقَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ
جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ».
فالبخاري أورد ما زادَ به بعضُ الرواة على بعضٍ،
وما اختلف فيه قول بعضهم.
ثمّ ختم بأنّ أحدَ الرواة عن الزهريّ وهو سليمان بن
كثير العبديّ
نقل عن الزهريّ أنّه قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِراً» فيكون الحديثُ
منقطعاً من هذه الطريق.
ويتعيّن على الناقد أن يدرس أحوالَ الرواة عن
الزهريّ؛ ليرجّح ما إذا كان الحديث متّصلاً
صحيحاً،أم منقطعاً ضعيفاً.
وبالنظر في حال سليمانَ هذا؛ وجدنا أنّه دون الإمامين
الليث بن سعد والأوزاعيّ بمراحل.
ولم يعتمده البخاريُّ في أيّ رواية عن الزهريّ،
إنّما علّق له بعضَ المتابعاتِ وبعضَ المخالفاتِ.
فأن يقول قائل: هذا صحيح وهذا صحيح، بناءً على
القاعدة السخيفةِ الهزيلة: «كل ما في البخاريّ صحيح» هذا جنون رسميّ!
أقول: لكلّ كتابٍ من كتب الرواية الحديثيّة عند أهل
السنّة مزايا وفوائد، بيد أن تصنيف صحيح البخاريّ، وتصنيف صحيح ابن حبّان؛
إعجازيٌّ تماماً.
وما قام به الحافظُ ابن حجر لا يتجاوزُ (30%) مما
يحتاجه صحيح البخاريّ من خدمة!
وقد مضى عليّ في خدمة صحيح البخاريّ منذ العام
(2009) وإلى هذه الساعة، وما خدمت البخاريّ بنسبة (25%) فليتّق الله تعالى الذين
يطعنون في صحيح البخاريّ؛ لأنهم جهّالٌ جهلاً مركّباً حقّاً.
وليتقّ الله تعالى الذين يتشنجون عند نقدِ أيّ شيءٌ
في صحيح البخاريّ؛ للسبب نفسه؛ لأنهم جهّالٌ جهلاً مركّباً، والله!
ختاماً: المنشور يحتاج أن يكون في (40) صفحة حتى
يوفّى حقَّه، وفي هذا القدر كفايةٌ لمن يفهم، ومَن لا يفهم؛ فليحاولْ أن يستفيدَ
ويسكت، فقد مَللتُ كلامَ الجاهلين!
والله المستعان.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق