مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (2):
ما دَليلُ استحقاقِ عائِشَةَ وصفَ الصِدّيقَةِ ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحد الإخوة مقطعاً صوتيّاً للسيّد كمال
الحيدريّ الشيعيّ الإماميّ، وقال: أنتم معاشرَ اهل السنّة تلهجون بأنّ عائشة أمّ
المؤمنين صدّيقة، وهذا السيّد كمال الحيدريّ يتحدّاكم أن تأتوا بدليلٍ يثبت لها
هذه الصفةَ الدينيّة الساميةَ!
استمعتُ إلى المقطع الصوتي الصغير، فوجدت السيّد
كمال الحيدريّ يطلب الدليلَ المثبتَ منزلةَ «الصدّيقيّة» لأمّ المؤمنين عائشة رضي
الله عنها، ويتحدّى من يأتيه بذلك الدليل!
أقول وبالله التوفيق: قبل الإجابةِ على تحدّيه؛ لا
بدّ من الجوابِ على السؤال الآتي:
هل الصدّيقيّة مرتبة دينيّة خاصّة تلي مرتبةَ
النبوّةِ، أو هي منزلة دينيّة عامّة، مبالغة من التصديق أو الصداقة، كوصفنا كلّ
مسلمٍ بأنّه مسلم، ومؤمن؟
أوضح القرآن الكريمُ المفهومَ العامَّ للصدّيقيّة،
فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ؛ أُولَئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ!
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا؛
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) [الحديد].
فالذين يؤمنون بالله ورسولِه، وبسائر مقتضِياتِ ذلك
الإيمان؛ هم الصدّيقون!
وبناء على هذا الفَهم؛ فكلّ مؤمنٍ بالله ورسوله،
صحيح الإيمان؛ هو صدّيق!
هذا هو المعنى العامّ للصدّيقيّة!
فهل ثمّةَ معنى أخصَُّ لها؟
وصف الله تعالى عدداً من أنبيائه بالصدّيقيّة، فقال:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) [مريم].
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ
كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) [مريم].
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي
سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ (46) [يوسف].
صحيحٌ أنّ الذي وصف يوسف بالصدّيق هو رفيقه في
السجن، لكنّ الله تعالى حكى كلامه مقرّاً له، فجاز قولنا: إنّ الله وصف يوسف
بالصدّيق!
ووصف الله امرأةً واحدةً في القرآن الكريم بالصدّيقَةِ،
فقال جلّ شأنه:
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ
الطَّعَامَ، انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ (75) [المائدة].
وقال الله تعالى أخيراً:
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ؛ فَأُولَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ
الْفَضْلُ مِنَ اللهِ، وَكَفَى بِالله عَلِيمًا (70) [النساء].
عُلِمَ ممّا سبق أنّ الصديقيّة؛ مرتبةٌ دينيّةٌ، لا
يجوز منحُها لأحدٍ إلا بدليل صحيح عن الله تعالى، أو عن رسولِه صلّى الله عليه
وآله وسلّم.
أمّا الدليل الوارد عن الله تعالى في القرآن
الكريم، في وصفِ أيّ إنسانٍ من هذه الأمّة؛ فغير موجود جزماً، لا في وصف عليٍّ،
ولا أبي بكرٍ، ولا عائشة، رضي اللهُ عنهم!
وأمّا في الأحاديث النبويّة الشريفة؛ فقد ورد في
الصحيحين حديثان استنبط منهما أهل السنّة وصفَ أبي بكرٍ بالصدّيقيّة.
الحديثُ الأوّل: أخرج الإمام مسلم في الفضائل
(2417) من حديث سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى جبلِ حِرَاءٍ، فَتَحَرَّكَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْكُنْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ
إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ)
وَعَلَى الجبلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ» انتهى.
وفي إسناد هذا الحديث علّتان:
-الأولى: أنّه فردٌ مطلقٌ غريب، لم يروه عن الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم سوى أبي هريرة، ولا عن أبي هريرة إلّا ذكوان أبو صالح
السمّان - من بين مائتي راوٍ أخذ عن أبي هريرة - ولا عنه سوى ابنه سهيل.
- العلّة الثانيّة: أنّ أبا هريرة لم يصرّح بسماعه
الحديثَ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من واحدٍ من أولئك الصحابةِ
الذين كانوا على الجبل، كما تقول الرواية.
وأبو هريرة أسلم في السنة العشرين من بعثة، وفي
السنة السابعة من الهجرة.
وهذا النوع من مراسيل الصحابة يسمّيه ابن حزمٍ وابن
القطّان الفاسي: المرسل الذي لا يمكن لراويه من الصحابة أن يكون شهده، فلا يقبَل
منه هذا المرسل!
فبمعزلٍ عن الكلام في سهيلٍ وتفرّده هنا؛ فأبو
هريرة يحدّثنا عن حدثٍ جرى قبل سبع أو ثمان، أو عشرين سنةً من إسلامه، إنّ صحّ
صدوره عن أبي هريرة.
وأهل السنّة يعدّون عمر وعثمان وعليّاً وطلحةَ
والزبيرَ من الشهداء.
لكن يبقى أبو بكرٍ، وهو الصدّيق الوحيد عندهم، ويبقى
سعدٌ أيضاً، وأهل السنّة لا يقولون: إنّ سعداً شهيدٌ ولا صدّيق، وهذه علّة أخرى من
علل الحديث!؟
- الحديث الثاني: أخرج البخاري في المناقب (3675، 3686،
3699) من حديث قتادةَ بن دعامةَ السدوسيّ عن أنس بن مالك قال: صَعِدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وقَالَ: (اثْبُتْ أُحُدُ،
فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدَانِ) انتهى.
وهذا حديث تفرّد به أنسٌ عن الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم، ولم يصرّح أنسٌ بسماعه هذا الحديثَ من الرسول، ولم يوضح ما إذا كان هو
مع الرسول على الجبل، وظاهر الحديث أنّه لم يكن معهم، وتفرّد به عنه قتادةُ، فهو
من الفرد المطلق أيضاً!
وهناك علّة عامّةٌ في حديثِ أنس كلّه، قالتها
السيدة عائشة.
فقد أخرج الطبرانيّ في المعجم الكبير (1: (711)
وابن عبدالبرّ في جامع بيان العلم (2: 2146) من حديث عليّ بن مسهر عن هشام بن
عروةَ، عن أبيه عن عائشة قالت: «مَا عَلِمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيُّ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا
كَانَا غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ»!؟
وقد روى البخاريّ بهذا الإسنادِ عشرين حديثاً، منها
(1390، 1665، 2138).
وروى مسلم بهذا الإسناد اثني عشر حديثاً، منها (216،
724، 941).
وهذا إسنادٌ فردٌ مطلقٌ غريب صحيح على شرط البخاري
ومسلم، لكنّ الفقيرَ عداباً لا يصحح الأفرادَ المطلقةَ الصحيحةَ الإسناد، إنما
يعطيها درجة حسن!
فإذا كانت «الصديقيّةُ» منزلةً دينيّة تلي درجةَ
النبوّةِ؛ فلا تثبت لأبي بكرٍ بحديثٍ مُدلَّس تفرّد بروايتِه غلام صغير، لم يشهد
الواقعةَ ولم يصرّح بسماعه الحديثَ من غيره، أيّاً كان هذا الغير!
وإنْ كانت «الصديقيّةُ» منزلةً عامّة؛ فجميع
المؤمنين من الصدّيقين، فلا يبقى لأبي بكرٍ ولا لعليّ، ولا لعائشة أيّ مزيّةٍ بها!
أمّا الرواياتُ الخاصّةُ بعائشة رضي الله عنها؛ فلا
يوجد عن الرسولِ حديثٌ صحيح ولا حسنٌ، يُثبتُ لها صفةَ الصديقيّة أبداً!
لكنْ لمّا عانَت عائشةُ من فِريةِ الإفك ما عانت، وعانت
من بغض الرافضةِ والناصبة لها على حدٍّ سواء، إلى درجة أنّ بعضَ الرافضةِ - عليهم
غضب الله - حتى اليوم يَتّهمونها بالفاحشة؛ تعاطف المسلمون معها كثيراً، فوصفوها
بالصدّيقة بنت الصدّيق، وهذا شأن المسلمين دائماً، يتعاطفون مع المظلوم.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف (2: (7354) وإسحاق بن
راهويه في مسنده (1452) وأحمد في المسند (26045) من حديث أبي الضّحى مسلم بن صبيح
عن مسروق بن الأجدع قال: «حدّثتني الصدّيقةُ بنت الصدّيق، حبية حبيب الله».
وأخرج الطبرانيّ في المعجم الكبير (23: 181) من
حديث الأعمش عن مسلم بن صبيح قال: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي الْمُبَرَّأَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ
الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ».
ويبدو لي أنّ مسروقاً هذا؛ هو أوّلُ من أطلق عليها
لقبَ الصدّيقة.
وقد أَعجب هذا اللقبُ المحدّثين، فصاروا يكتبون في
مصنّفاتهم:
مسند الصديقة بنت الصدّيق، عائشة بنت أبي بكر!
أو مسند الصديقة عائشة بنت الصدّيق أبي بكر!
وقد يزيد بعضهم: الحبيبةُ بنتُ الحبيب!
وقد يزيد بعضهم: المبرّأةُ من كلّ عيب!
وقد يقول بعضهم: الصدّيقة الكبرى بنت الصدّيق
الأكبر!
وقد وقفتَ على أكثرَ من مائتي نصٍّ، وُصفت فيه
عائشة بالصدّيقة بنت الصديّق!
لكنّني لم أقف على دليلٍ لاستحقاقها هذه الصفة، لدى
أحدٍ من المتقدّمين.
بيد أنّ الشيخ محمد الصالح العثيمين فسّر ذلك في
شرح العقيدة الواسطيّة (2: 280) بقوله: «أما
كونها صديقة؛ فلكمال تَصديقِها لرسول الله، صَلَّى الله عليه وسلم، ولكمال صِدقها
في مُعاملتِه، وصبرِها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك.
ويَدلك على صِدقها وصِدقِ إيمانها
باللهِ؛ أنَّه لما نَزلت براءتها؛ قالت: «إنِّي لا أحمد غيرَ الله» وهذا يدل على
كمال إيمانها وصدقها.
وأمَّا
كونها بنت الصِّديق؛ فكذلك أيضًا؛ فإن أباها رضي الله
عنه هو الصِّديق في هذه الأمة، بل صِدّيق الأمم كلّها؛ لأنَّ هذه الأمة أفضل
الأمم؛ فإذا كان صِدّيقَ هذه الأمة؛ فهو صديق غيرها من الأمم» اقرأ واعجب واسكت!!
لا أريدُ مناقشةَ ما تقدّم
كلّه؛ لأنّ إساءات العلمانيين والرافضة إلى أمّ المؤمنين رضي الله عنها؛ تجعل أيَّ
نقدٍ لشيءٍ ممّا تقدّم تهمةً لدى أهل السنّة.
ختاماً: لم يصحّ عندي وصفُ
الإمام عليّ عليه السلام، ولا وَصفُ أبي بكرٍ، ولا وصف عائشة رضي الله عنهما
بالصدّيقيّة، بأيّ وجهٍ علميٍّ.
وإنّ الفرقاءَ المتناحرين؛
يثبتون وينفون بعواطفهم أحياناً، وبأزماتهم النفسيّة أحياناً، وبردود الفعلِ
العنيفةِ أحياناً أخرى.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق