اجتماعيات [2023] (1):
غَدوتَ قليلَ العَطاء !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتبت إليّ إحدى بناتي «طالباتي» تقول: نحن نعلم يا
والدي أنْ لا ينتابُك كسلُ ولا مللٌ...لكنْ!
عندما تغيبُ عن المدوّنة والفيس؛ ينتابنا خوفٌ شديدٌ،
ونخشى عليك من طوارقِ الحِدْثانِ، لا قدّر الله تعالى.
فأرجو منك أنا وأخواتي أنْ لا تنقطع عن النت يوماً
واحداً، ولو تكتب منشورَ اجتماعيات: السلام عليكم، فنطمئنّ عليك.
أقول وبالله التوفيق:
في العام (1971) علّمتُ في إحدى مدارس مدينة حماة
شهراً واحداً في إحدى إعداديّات مدينة حماة للبنات، بديلاً عن أحدِ الأساتذة، الذي
اضطرّ إلى إجراء عمليّة جراحيّة!
ومنذ ذلك التاريخ؛ أخاطب طالباتي «بناتي» وطالبتي
«بنتي» وأفهمهنّ بطريق التلميح؛ أنّ من يخاطبُ تلميذاته ببناته؛ لا يحقّ له
تربويّاً أن يكون زوجاً لواحدةٍ منهنّ، ولا يحقّ لواحدةٍ منهنّ أن تفكّر به، أو
تشغِلَ قبلها بإمكانِ الزواج منه!
بل كنت أقول لهنّ: لا يجوز للتلميذةِ أن تملأ
عينَها من أستاذها، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (31)
[النور].
وعلى هذا مضى عمري كلّه، لم أرتبط بواحدةٍ من
تلميذاتي، ولا قبلت من إحداهنّ رغبتها الارتباطَ بي: في سوريا والأردنّ والعراق
والسعوديّة.
وقد وجدتُ في هذا القرار الحاسمِ راحةَ ضميرٍ وصفاء
قلب.
ومع هذا؛ فأنا
لم أتسمّح بلقائهنّ والجلوس معهنّ في ليلٍ أو نهارٍ، حتى بعد أنْ صرن في الستينات من
العمر، أو قريباً منها.
بل لا أتذكّر أنني ضحكتُ معهنّ، أو تظرّفتُ، أو
ألقيت نكاتٍ، معاذ الله من ذلك كلّه!
فأنا أتفهّم خوفهنّ عليّ، تماماً مثلَ خوف «بناتِ
عداب» اللواتي يلهجن بالدعاء لي بطول العمر، مع العافية والعمل الصالح، ويخفن عليّ
كثيراً من فاجعةِ الموت!
ومهما اختلفتُ معهنّ في بعض الأفكار السلفيّة أو
الصوفيّة أو المذهبيّة، لكننا لم نخرج أبداً من دائرة الإخاء والتفاهم والإعذار!
إحدى طالباتي تقول لي: أُحسُّ بانّك يا والدي تخاف
من النار كثيراً، بينما أنا لا أشعر بأدنى خوفٍ من النار، وأحسُّ بفيضٍ من حبّي
لله تعالى، ومن حبّ الله تعالى إيّاي، فأنا مطمئنّة تماماً أنني من أهل الجنّة!
وإحدى طالباتي تقول: أنا لا أستطيع أن أتفهّم
وجوداً (لا داخل العالم ولا خارجه) وما دام الله تعالى قال: إنّ له وجهاً، ويداً، وأنه
ذو سمع وبصر، وأنه يجيء، وأنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إنّ الله في
السماء، وأنّه ينزل عن عرشه إلى السماء الدنيا، وأنه يضحك ويرضى ويغضب؛ فلا أستطيع
إلّا الاعتقادَ بظاهر قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إنّ الله خلق آدم على
صورته) متّفق عليه.
وكلّ واحدةٍ منهنّ لديَّ إشكالٌ في بعض معتقدها،
وفي بعض فهومها حيالَ المرأة وقوامية الرجل، وتبعيّة المرأة له.
أجيب هذه، وأجيب تلك، وأقنعهنّ في لحظة الحوار بما
أعتقد وأذهب، لكنّ بعضهنّ يرجعن إلى معتقداتهنّ الأولى، ويرفضن قولي بأدبٍ وتوقير!
وهكذا هم طلّابي أيضاً، أختلف معهم كثيراً وقليلاً،
لكنّ رابطتنا لم تنقطع، إلّا مع عددٍ يسير لا يتجاوز ثلاثةَ طلّابٍ، فقد آثروا
تغليبَ جانب الحقد الطائفيّ، والتقليدَ المذهبيّ، ونكرانَ الجميلِ، على روح
الإخوّة والتسامحِ والتناصح، الذي لا قيام لأمة الإسلام إلّا بها!
وأقول لبناتي كلّهن معاً: قال الله تبارك وتعالى:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ (185) [آل عمران].
(قُلْ: إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ؛
فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [الجمعة].
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ
فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا
قَلِيلًا (16) [الأحزاب].
( قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛ لَبَرَزَ الَّذِينَ
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ (154) [آل عمران].
الموتُ قادمٌ لا محالةَ عليّ وعلى أسرتي، وعليكنّ
وعلى أهليكنّ وذراريكنّ، فهذا واردٌ لا بدّ منه، وعلينا أن نفكّر بما بعدَه!
والذي أطلبه وأرجوه من بناتيّ كلهنّ - بناتٍ
وطالباتٍ - أن يساهمن مع أولادي وطلّابي في تكميل وإخراج كتبي التي درسنها عليّ في
الجامعة، وأنْ يصوّبن بعض أفكاري النسائيّة، فهنّ أدرى بدخائل المرأة منّي، حتى نقدّم
للأمة علماً أقرب ما يكون إلى الحقيقةِ والنفع العامّ، ولا مانع لديّ أن تذكرَ
أسماءُ المساهماتِ في تقويم تلك الكتبُ والأبحاث منهنّ.
وأرجو منهنّ أن لا ينسينني من تلاوةِ ربع حزبٍ من
القرآن يوميّاً، مع سورة الفاتحة والصمد والمعوّذتين، فأنا أعتقد بوصول ثواب
تلاوةِ القرآن العظيم إلى الموتى!
كما أرجو منهنّ أن يجعلنني في دعائهنّ، فأنا أحوج
ما أكون إلى ذلك، في الحياةِ وبعد الممات.
بقيت مسألة «قلّة العطاءِ»
العلميّ والفكريّ والاجتماعيّ، وهي واقع صحيح، من دون شكٍّ، لكني أحسب أنْ لا يدَ
لي بها؛ لأمرين:
الأمر الأوّل: أنّ أمراضي كثيرةٌ حقّاً،
والأدوية التي أتناولها في كلّ يومٍ كثيرةٌ أيضاً، وعندما يزورني الرشح المحترم؛
لا يفارقني بيسر وسهولة، إنما يطيب له معايشتي ومساكنتي شهراً أو شهرين أو أكثر!
وهو مع هذه المساكنة؛ يدعو أصدقاءه المقرّبين:
التهاب الحلق، والبلغم، والتهاب الشعب التنفسيّة، ويساهمُ في زيادةِ الاكتئابِ
والخمولِ والسآمة!
والأمر الثاني - وهو الأهم - أنّ التوفيق من
الله تبارك وتعالى، وإذ أنا أراقب تحرّكاتي وتصرّفاتي؛ أجدني أعمل أكثرَ من عشر
ساعاتٍ في بعض الأيّام، بينما لا أستطيع حتى تلاوة حزبي من القرآن في كثيرٍ من
الأيّام، فماذا أصنع؟
ختاماً: أسألُ الله تبارك وتعالى أن يمدّني وجميع
مرضى المسلمين بالعافية التامّة، وأن يأخذ بناصيتي إلى طاعته ومرضاته، والتفاني
بعبادته وذكره وتمجيده، وأن يختم لي بالوفاة على الإسلام والإيمان والإحسان.
وأتوجّه إليه بأسمائه الحسنى، وبكلماته التامّات،
وبرسوله الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يغفر لي ما اجتهدتُ فيه، من دون
استقصاءٍ وبذلِ غايةِ الوسع، فأنا لا أرتاب في أنّ بعضَ العوائقِ قد اعترضت بعض
أقوالي وأفعالي؛ لأنّ التجرّد التامّ على الهوى والانحيازِ؛ أمرٌ عسير المنال في
بعض الأحيان.
وأرجو من قرّائي وإخواني وطلّابي وطالباتي - وفيهم
أبنائي وبناتي - أن يستغفروا لي العزيز الحكيم، فهم إن فعلوا؛ فالله الرحمن الرحيم
أرحم منهم وأكرم وألطف!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق