مَسائلُ حديثيّةٌ (6):
أَيْنَ اللهُ ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
على الفيسبوك جدالٌ دائرٌ
بين أحد السلفيين، وبين تلامذة السيّد حسن السقّاف، تجاه حديثِ الجاريةِ (أين
الله).
فتواصل معي عددٍ من
الإخوة، يسألونني عن الصوابِ في الحكمِ على حديثِ الجاريةِ هذا؟!
أقول وبالله التوفيق:
مرّ عليَّ الشهرُ من أوّله
إلى هذا اليوم، وأنا مريضٌ غير قادرٍ على الإنتاج الفكريّ، والحمد لله على كلّ
حال.
قرأت ما كتبه هذا السلفيّ
الذي يجادلُ؛ فرأيته لم يأتِ بشيءٍ جديدٍ، ولا قرأت له جديداً قطّ، إنما هو يتابع
الشيخ الألبانيَّ رحمه الله تعالى، مثلما يتابعه سائرُ الحنابلةِ والسلفيين
والوهابيين!
والإشكالُ الأكبر في حديثِ
الجارية هذا؛ ليس في قولها: «في السماء» إنما فيما نسبوا إلى الرسول صلّى الله
عليه وآله وسلّم أنه قال لها: (أين الله)!
ولا أغضّ الطرفَ عن أنّ
الذين خرّجوا هذا الحديثَ كثيرون جدّاً!
يحسن أن أذكر أصحابَ
الصحاح، دون غيرهم؛ لأن تخريجَ الباقين تكرارٌ لا يستفاد منه تصحيحٌ، ولو كانوا
ألفاً!
فمن حديثِ يحيى بن أبي
كثيرٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، من حديث طويلٍ فيه:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ
أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟
قَالَ صلّى الله عليه وآله
وسلّم: «ائْتِنِي بِهَا» فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللهُ)؟
قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ!
قَالَ صلّى الله عليه وآله
وسلّم: (مَنْ أَنَا)؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا،
فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ).
أخرجه الإمام مسلم في كتاب
المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة (537) وابن الجارود في المنتقى
(212) وابن خزيمة في التوحيد (1: 278) وأبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم (1769،
1770، 9840) وابن حبّان في صحيحه (165) وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (1183).
وهذا يعني أنّ جميع أصحاب
الصحاح خرّجوه، سوى البخاريّ وتلميذه الترمذيّ!
فتخطئة هؤلاء الحفّاظ
جميعاً؛ يستدعي أدلّةً قويّةً موجبةً، أحدها عدم تصحيح البخاريّ للحديث، فأين
نذهب؟
ذهبنا إلى الإمامِ مسلمٍ
رحمه الله تعالى؛ فوجدناه أخرج حديثَ معاوية بن الحكم السلميّ في كتاب السلام، باب
تحريم الكَهانةِ وإتيانِ الكهّانِ، عقب حديث رقم (2227) قال:
1- حَدَّثَنِي أَبُو
الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا: أَخْبَرَنَا عبدالله بنُ وَهْبٍ:
أَخْبَرَنِي يُونُسُ بنُ يزيدَ الأيليُّ عَنْ محمد بن مسلمِ ابْنِ شِهَابٍ الزهريّ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ
الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أُموراً كُنَّا نَصْنَعُهَا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ قَالَ الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلم: (فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ).
قَالَ معاويةُ: قُلْتُ: (كُنَّا
نَتَطَيَّرُ)؟ قَالَ صلّى الله عليه وآله وسلم: (ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ
فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ).
2- وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنِي حُجَيْنٌ، يَعْنِي ابْنَ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ (ح).
3- وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح).
4- وحَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ: حَدَّثَنَا محمد
بن عبدالرحمن ابنُ أَبِي ذِئْبٍ ( ح).
5- وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ
بْنُ رَافِعٍ: أَخْبَرَنَا إِسْحَقُ بْنُ عِيسَى: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ...
كُلُّهُمْ عَنْ
الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ.
غَيْرَ أَنَّ مَالِكاً فِي
حَدِيثِهِ ذَكَرَ الطِّيَرَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْكُهَّانِ.
- وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الصَّبَّاحِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا
إِسْمَعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ (ح).
- وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ.
كِلاهُما عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَزَادَ فِي حَدِيثِ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ؟
قَالَ صلّى الله عليه وآله
وسلم: (كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ؛
فَذَاكَ).
وحديث الزهريِّ عن أبي
سلمةَ بن عبدالرحمن، عن معاويةَ بن الحكم؛ أخرجه مسلم كما رأيت، وأخرجه عبدالله بن
وهبٍ في جامعه (622) وابن أبي شيبة في مسنده (826) وأحمد في مواضع عديدة من مسنده،
منها (23763، 23764) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1401) وأبو عوانة في
مستخرجه على صحيح مسلم (9833، 9835) وغيرهم.
أقول: أمامنا إسنادان
كلاهما في صحيح مسلمٍ، وفي مستخرج أبي عوانةَ عليه.
أسند الإمام أبو بكر بن
أبي خيثمة في ترجمة الصحابيّ معاوية بن الحكم السلميّ من تاريخه الكبير (1: 5485)
عن عطاء بن يسار قال: حدثني معاوية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاثةَ
أحاديثَ.
لكنّ ابن عبدالبرّ جعلها
حديثاً واحداً، قطعه بعض الرواة عنه، فجعله ثلاثة أحاديث، كما في الاستيعاب (3:
1414).
ومعاوية بن الحكم السلميّ؛
معروفُ العين، ترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام، وأرّخ وفاته (51 - 60 هـ) وترجمه
المزي في تهذيبه (28: 170) وقال: روى عنه ثلاثة رواة: عطاءُ بن يسار، وولده كثيرُ
بن معاوية بن الحكم، وأبو سلمة بن عبدالرحمن.
وحديثُه هذا رواه عنه
راويان:
عطاء بن يسار (ت: 103 هـ)
وأبو سلمة بن عبدالرحمن (ت: 94 هـ).
وعطاءُ بن يسار: ترجمه
المزي في تهذيبه (20: 125) ونقل عن جمع من العلماء أنه توفي سنة ثلاث ومئة، وهو
ابن أربع وثمانين سنة، وهذا يعني أنه ولد في خلافة عمر بن الخطاب سنة (19 هـ).
وهلال بن أبي ميمونة:
ترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (30: 343) ونقل عن أبي حاتم فيه: شيخ يكتب حديثه،
وعن النسائيّ: ليس به بأس.
فيكون هذا الحديث على
قسمين:
ما اتّفق عليه عطاء بن
يسارٍ وأبو سلمة بن عبدالرحمن صحيحاً، وما انفرد به هلال بن أبي ميمونة يكون
ضعيفاً؛ لأنّ جملة «يكتب حديثُه» وجملة «لا بأس به» إنما يقبل حديثُ صاحبِها في
المتابعات، أمّا ما ينفرد به من اتّصف بذلك؛ فحديثه منكر!
قال الذهبيّ في الميزان
(3: 140): «إنّ تفرُّدَ الثِقةِ المُتْقِن؛ يُعَدُّ صَحيحاً غريباً، وإنّ تَفرّد
الصَدوقِ ومَنْ دونَه؛ يُعَدُّ مُنكَراً».
وقال
ابن حجر في النكت على علوم ابن الصلاح (2: 690): «حاصلُ كلامِ هؤلاء الأئمة أنّ
الزيادةَ إنّما تُقبل ممّن يكن حافظاً مُتقناً، حيث يَستوي مَع مَن زاد عليهم في
ذلك.
فإن
كانوا أكثرَ عدداً منه، أو كان فيهم مَن هو أحفظُ منه، أو كان غيرَ حافظٍ، ولو كان
في الأصلِ صَدوقاً؛ فإنّ زيادتَه لا تُقبَلُ».
وهلال بن أبي ميمونة ليس
من الثقات المتقنين، إنما هو ممن يكتب حديثه، ولا يحتجّ بما ينفرد به، وبذلك يكون ما
انفرد به هلالٌ من حديث الجارية التي زعم أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قالَ
لَهَا: (أَيْنَ اللهُ)؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ!
قَالَ صلّى الله عليه وآله
وسلّم: (مَنْ أَنَا)؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا،
فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) يكون هذا القسم من الحديثِ منكراً.
ويَكون جميعُ من صحّح
الحديثَ؛ أخذ بظاهر الإسناد، واعتمد على تخريجِ مسلمٍ للحديثِ، بمعزلٍ عن طريقِ
أبي سلمةَ التي تُبرز وهمَ هلالِ بن أبي ميمونة، وعدم حفظِه للحديث.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا
محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق