مَسائلُ حديثيّةٌ (5):
الإجماعُ على صِحّة
أحاديثِ الصَحيحينِ (2)!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
ذكرت في المنشور السابق
(4) أنّ الإجماعَ الأصوليّ، الذي يعني «اتّفاق مجتهدي عصرٍ من عصور الإسلام على
حكم واحدٍ في مسألةٍ مطروحةٍ للاجتهاد، بأن يبدي كلّ واحدٍ منهم رأيَه صراحةً في
تلك المسألة، ثمّ تتفق آراؤهم جميعاً على حكم واحدٍ فيها».
هذا الإجماع لا وجودَ له
إطلاقاً بين الصحابةِ الذين كانوا محصورين في المدينة، وعدد علمائهم لا يزيد على
عشرين صحابيّاً عالماً، بحالٍ من الأحوال.
أمّا الإجماع السكوتيّ،
الذي يعني «أن يحكم بعضُ مجتهدي عصرٍ من العصور على واقعةٍ حدثت في عصره بحكمٍ ما،
وينتشر هذا الحكم بين المجتهدين في ذلك العصر، فيسكتون، ولا يظهر من أحدهم اعتراضٌ
ولا إنكارٌ على ذلك الحكم».
وفي عصرنا هذا «القرن
الخامس عشر الهجريّ» يكون اتّفاق علماء الفرق الإسلاميّة: من مدرسة أهل السنة،
ومدرسة الشيعة، ومدرسة الإباضيّة، على حكمٍ في واقعةٍ معيّنةٍ إجماعاً توافقيّاً،
أو إجماعاً ضمنيّاً، وهو إجماعٌ ظنيّ بالتأكيد؛ لأنّ إحصاءَ فتازى كلّ علماء الأمة
في حكم واقعةٍ؛ متعذّر، والذين يظهرون ويبرزون؛ هم العلماء الرسميّون، وقد يكون في
الأمة من هو أعلم منهم بمرّاتٍ وكرّات!
ونحن في هذا المنشور؛
سنذكر عدداً من العلماءِ الذين رفضوا دعوى الإجماع هذه، صراحةً، وليس ضمنيّاً؛
لأنّ الرفضَ الضمنيّ، الذي يعني تضعيفَ حديثٍ أو أحاديثَ في الصحيحين؛ أكثرُ من أن
يحصى!
(1) الإمام أبو
الفضل الشهيد، محمد بن أبي الحسين الجاروديّ (ت: 317 هـ).
وقد صنّف جزءاً
حديثيّاً، استدرك به (36) حديثاً على الإمام مسلم، وهو جزءٌ مهمّ، لا يسع طالبَ
علمٍ تجاهله.
(2) الإمام أبو
الحسن علي بن عمر الدارقطنيّ (ت: 385 هـ).
قال في مقدمة
كتابه التتبع (ص: 120): «ابتداءُ ذِكر أحاديثَ مَعلولةٍ اشتملَ عليها كتابا
البخاريِّ ومُسلمٍ، أو أحدهما، بيّنتُ عِلَلَها والصواب منها».
ثمّ ساق (218)
حديثاً، حسب النسخة المطبوعةِ (ص: 378).
لكنّ
في ختام الطبعة (ص: 378) ما نصّه (قال أبو بكر الخوارزمي: هذا آخر ما وجدته من هذا
التَعليق بِخطِّ أبي الحسن الدارقطني».
وقال ابن القَمّاح:
نُقل مِن خَطّ الحافظ السِلَفيِّ على حواشي نسخته: «مائتان وسبعةُ مواضعَ، تَتبّعها
الدارقطنيُّ على أبي عبدالله البخاريّ، وعلى أبي الحسين مسلم بن الحجاج».
قال الحافظ ابن
حجر في فتح الباري (1: 346): «الْفَصْل الثَّامِن فِي سِيَاق الْأَحَادِيث الَّتِي
انتقدها عَلَيْهِ حَافظ عصره أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره من النقاد
وإيرادها حَدِيثا حَدِيثا» على سِيَاق الْكتاب وَسِيَاق مَا حضر من الْجَواب عَن
ذَلِك.
وَقبل الْخَوْض
فِيهِ يَنْبَغِي لكل منصف أَن يعلم أَن هَذِه الْأَحَادِيث وَإِن كَانَ أَكْثَرهَا
لَا يقْدَح فِي أصل مَوْضُوع الْكتاب، فَإِن جَمِيعهَا وَارِدٌ من جِهَة أُخْرَى،
وَهِي مَا ادَّعَاهُ الإِمَام أَبُو عَمْرو بن الصّلاح وَغَيره من الْإِجْمَاع على
تلقي هَذَا الْكتاب بِالْقبُولِ وَالتَّسْلِيم لصِحَّة جَمِيع مَا فِيهِ فَإِن
هَذِه الْمَوَاضِع متنازع فِي صِحَّتهَا فَلم يحصل لَهَا من التلقي مَا حصل لمعظم
الْكتاب وَقد تعرض لذَلِك بن الصّلاح فِي قَوْله: «إِلَّا مَوَاضِعَ يسيرَةً
انتقدها عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره».
وَقَالَ فِي
مُقَدّمَة شرح مُسلم لَهُ: «مَا أَخذ عَلَيْهِمَا يَعْنِي على البُخَارِيّ وَمُسلم
وقدح فِيهِ مُعْتَمد من الْحفاظ؛ فَهُوَ مُسْتَثْنى مِمَّا ذَكرْنَاهُ لعدم
الْإِجْمَاع على تلقيه بِالْقبُولِ انْتهى، وَهُوَ احْتِرَاز حسن.
وَاخْتلف كَلَام الشَّيْخ مُحي الدّين فِي هَذِه
الْمَوَاضِع فَقَالَ فِي مُقَدّمَة شرح مُسلم مَا نَصه:
فصل: قد استدرك
جمَاعَة على البُخَارِيّ وَمُسلم أَحَادِيث أخلّا فِيهَا بشرطيهما وَنزلت عَن
دَرَجَة مَا التزماه، وَقد ألّف الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِك، وَلأبي مَسْعُود
الدِّمَشْقِي أَيْضا عَلَيْهِمَا اسْتِدْرَاك، وَلأبي عَليّ الغساني فِي جُزء
الْعِلَلِ من «التَّقْيِيد» اسْتِدْرَاك عَلَيْهِمَا، وَقد أُجِيب عَن ذَلِك، أَو
أَكْثَره» ويحسن قراءة مقدمة ذلك الفصل كاملة.
وقد بيّن
الدكتور ربيع بن هادي في كتابه القيّم «بين مسلمٍ والدارقطنيّ» (ص: 29) أنّ العددَ
الصحيح من الأحاديثِ التي انتقدها الدارقطنيّ، من مسند الإمام مسلم، هي (95)
حديثاً، والباقي كانت منتقدةً على البخاريّ.
وقد أوضح في
خاتمة كتابه هذا (ص: 438) أنواع الانتقادات التي وجّهها الدارقطنيّ إلى صحيح مسلم،
وأوضح رأيَه فيها، فانظرها فإنها مفيدةٌ للغاية!
أقول: بمعزلٍ
عن صوابِ الدارقطنيّ في نقده جميعَ هذه الأحاديثِ، أو خطئه في بعضها، فليس ثمّة
إجماع أصوليٌّ ولا سكوتيٌّ حتى عصر الدارقطنيّ، إذن!
(3) الإمام أبو
الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت: 464 هـ).
في كتابه
التعديل والتجريح، لمن خرّج له البخاريّ في جامعه الصحيح (1: 310): أسند إلى
البخاريّ أنه قال: « مَا أدخلت فِي هَذَا الْكتاب - يَعْنِي جَامعَه الصَّحِيحَ -
إِلَّا مَا صَحَّ، وَتركت من الصِّحَاح حَتَّى لَا يطول الْكتاب»
قال الباجيُّ: «وَإِنَّمَا
أدخلت هَذِه الْحِكَايَة؛ لِئَلَّا يعْتَقد من لَا يحسن هَذَا الْبَاب أَنّ مَا
لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ لَيْسَ بِصَحِيح!
بل قد تَصحُّ
أَحَادِيثُ لَيست فِي صحيحي البُخَارِيّ وَمُسلمٍ، وَلذَلِك قد خرج الشَّيْخ أَبُو
الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَالشَّيْخ أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ فِي كتاب «الإلزاماتُ
من الصَّحِيح» مَا ألزماهما إِخْرَاجه كما أَنه قد وجد فِي الْكِتَابَيْنِ مَا فِيهِ
الْوَهمُ.
وَأخرج ذَلِك
الشَّيْخ أَبُو الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ، وَجمعه فِي جُزْءٍ، وَإِنَّمَا ذَلِك
بِحَسب الِاجْتِهَاد.
فَمن كَانَ من
أهل الِاجْتِهَاد وَالْعلم، بِهَذَا الشَّأْنِ؛ لزمَه أَن ينظر فِي صِحَة الحَدِيث
وسقمه، بِمثل مَا نظرا.
وَمن لم تَكن
تِلْكَ حَاله لزمَه تقليدُهما فِيما ادّعَيَا صِحَّته، والتوقّف فِيمَا لم يُخرجَاهُ
فِي الصَّحِيح.
وَقد أخرج
البُخَارِيُّ أَحَادِيثَ، اعْتقد صِحَّتها؛ تَركهَا مُسلم لما اعْتقد فِيهَا غيرَ
ذَلِك.
وَأخرج مُسلم
أَحَادِيث اعْتقد صِحَّتهَا؛ تَركهَا البُخَارِيّ لما اعْتقد فِيهَا غير معتقده.
وَهُوَ يَدل
على أَن الْأَمرَ طَرِيقُه الِاجْتِهَادُ، لمن كَانَ من أهل الْعلم بِهَذَا
الشَّأْنِ، وَقَلِيل مَا هم»!
وتفريعاً على
هذه القاعدةِ التي قرّرها الإمام الباجيّ؛ فهناك عشراتٌ من رواة صحيح البخاريّ،
نقل هو عن الأئمة أقوالهم فيهم، ومنها (منكر الحديث) وعشراتٌ أخرى (ضعيف) وعشرة
رواة (لا يحتجّ به) وهؤلاء الرواة وغيرهم لا يسع الباحثَ غيرُ النظر في أحوالهم،
وفي كيفية تخريج البخاري ومسلم لهم.
(4) الإمام أبو
عليّ الحسين بن محمّد الغسّاني الجيّاني (ت: 498).
قال في كتابه
الماتع القيّم تقييد المهمل وتمييز المشكل (2: 565) ما نصّه:
«هذا كتابٌ
يتضمن التنبيهَ على الأوهامِ الواقعةِ في المسندين الصحيحين، وذلك في ما يخصُّ
الأسانيدَ وأسماءَ الرواة، والحملُ فيها على نقلة الكتابين عن البخاري ومسلم،
وبيان الصواب في ذلك.
واعلم، وفقك
الله؛ أنه قد يندر للإمامين مواضعُ يسيرةٌ من هذه الأوهام، أو لمن فوقهما من
الرواة، لم تقع في جملة ما استدركه الشيخ الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني
عليهما.
ونبّه على بعض
هذه المواضع أبو مسعود الدمشقي الحافظ، وغيره من أئمتنا، فرأينا أن نذكرها في هذا
الباب لتتم الفائدة بذلك، والله الموفق للصواب.
فمن ذلك ما جاء
في كتاب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري».
ثمّ تتّبع
الأوهامَ الواقعةَ في الصحيحين، من الصفحة (565) حتى الصفحة (759) ثمّ قال: «انتهى
ما نَبّهنا عليه ممّا وقعَ في كتاب البخاري مِن الأوهامِ، مِن قِبَل رُواةِ الكتاب،
ومِن عِللِ أسانيدَ لم تقع في الاستدراكات، التي لأبي الحسن الدارقطني.
إلا مواضعَ
يسيرةً، احتجنا إلى الاستشهاد بقوله في بعض ما سنح من هذا الباب».
ثمّ
قال (3: 763): «وهذا كتابٌ يَتضمّنُ التَنبيهَ على ما في كتاب مسلم بن الحجاج، من
الأوهامِ لرواةِ الكتابِ عنه، أو لمَنْ فوقهم من شيوخِ مسلمٍ وغيرهم، ممّا لم
يذكره أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتابِ الاستدراكات.
ومن الرواة
الذين نقلوا إلينا الكتاب عن مسلم:
1- أبو إسحاق
إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه.
2- وأبو محمد
أحمد بن علي بن الحسن القلانسي رحمهما الله».
وفي ختام
تنبيهه على الأوهام الواقعة في صحيح مسلم (3: 937) قال:
«انتهى ما ذَكرنا
من العِلل، ومِن إصلاحِ الأوهامِ الواقعةِ في الكتابين، التي جاءت من قبل الرواة
عن البخاري ومسلم، رحمهما الله تعالى.
ومَن جَمع إلى
كتابنا هذا كتابَ الاستدراكات، التي أملاها أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني عليهما،
في كتابيهما الصحيحين؛ فقد جمع عِلماً كثيراً، مما يتعلق بالكتابين، ومتناً صالحاً
مِن العِلل وعِلم الحديث».
أقول: سطر
الغسانيّ أكثر من (400) صفحةٍ في نقد الصحيحين، فهل كان يلعب؟
وسواءٌ كانت
الأوهامُ والعلل من قِبلِ الإمام مسلمٍ، أم كانت من قِبل شيوخِه، أو من قِبل رواة
كتابه؛ فالنتيجة واحدة، إذ نحن نجلُّ الإمامين البخاريّ ومسلماً، ونَعلم أنهما
محدّثان ناقدان كبيران، لكنّ هذا لا يمنع من طروء الوهم عليهما، وعلى شيوخهما،
وعلى الرواة عنهما، وتتبّع الغسانيّ يشمل ذلك كلّه.
(5) الإمام
عبدالحقّ بن عبدالرحمن الإشبيليّ (ت: 581 هـ).
أخرج الإمام
مسلم من حديث أبي الزبير محمد بن مسلمٍ المكيّ عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ (214)
حديثاً، ومعلومٌ لدى طلبة العلم أنّ أبا الزبير مدلّس!
فقال الإمام
عبدالحقّ في الأحكام الوسطى (3: 180): « إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير ما يَذكُر
فيه السَماع، أو كان من رواية الليثِ بن سعدٍ عن أبي الزبير، وليس هذا الحديث من
رواية الليث فيما أعلم».
وقال في موضع
آخر (3: 226): « إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير عن جابر ما ذَكَر فيه السماعَ، أو
كان عن الليث عن أبي الزبير» وأعاد الكلام نفسه في (4: 117).
أقول: الأحاديث
التي رواها الليثُ بن سعدٍ عن أبي الزبير (26) حديثاً، فحسب!
وقد بيّن أبو
الزبير السماعَ، عند مسلمٍ في (122) موضعاً، فهذه (148) موضعاً مقبولةٌ عند
عبدالحقّ، إذا كانت العلّة الوحيدة فيها هي تدليس أبي الزبير، فيبقى عندنا (56)
حديثاً غير مقبولةٍ عند عبدالحقّ وابن القطّان وغيرهما!
ومع تصريح أبي
الزبير بهذا الكمّ الكبير من الأحاديث؛ فإنّ البخاريّ لم يخرّج له حديثاً واحداً
مسنداً في صحيحه، وعدّه ممّن لا يحتجّ به إذا انفرد!
واستشهد به في
سبعة مواضع من صحيحه (705، 1320، 2189، 2718، 4130، 4137، 7442).
فلو أنّ باحثاً
رجّح منهج البخاريّ على منهج مسلمٍ في جميع أحاديث أبي الزبير، فلم يَقبلْ منها،
إلّا ما صرّح فيه بالتحديث، هل يكون طاعناً في صحيح مسلم؟
(6) الإمام
الناقد أبو الحسن علي بن محمد الكُتاميّ القطّان (ت: 628 هـ).
قال
في كتابه الوهم والإيهام (2: 164): «وَحَدِيث أبي جُهَيم هَذَا، سأذكره إِن شَاءَ
الله تَعَالَى، فِي بَاب الْأَحَادِيث التِي أوردهَا على أَنَّهَا مُتَّصِلَة،
وَهِي مُنْقَطِعَة، فَإِنَّ الحديثَ فِي كتاب مُسلم بَيّنُ الِانْقِطَاع، وَهُوَ «عبدالحقّ» مُعرِضٌ
فِيمَا يُورد من مُسلم أَو البُخَارِيّ، عَن النّظر فِي الْأَسَانِيد، وَقد علم
أَن فيهمَا أَحَادِيثَ مُنْقَطِعَة، ويُظَنُّ أَنَّهَا تخطئه، فَيَقَع فِيهَا
وَلَا يشْعر، وسترى من ذَلِك جملَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى».
وقال فيه أيضاً
(5: 303): «وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُحذَرَ فِي كِتَاب «الأحكام الوسطى لعبدالحقّ»
سُكوتُه عَن مُصحّحات التِّرْمِذِيّ، وَمَا أخرجه البُخَارِيّ أَو مُسلم، فَإِنَّهُ
قد يكون الحَدِيث مِنْها مِن رِوَايَة مَن هُوَ عِنْده ضَعِيفٌ، أَو مَوضِعٌ
للنَّظَر، إِذا كَانَ مَا يرويهِ من عِنْد غير هَؤُلَاءِ!
وَكَأَنَّهُ
إِذا كَانَ مَا رَوَاهُ «موجوداً» عِنْد هَؤُلَاءِ؛ دخل الْحمى، فَسلم من
اعْتِبَار أَحْوَاله، فَإِذا كَانَ مَا يَرويهِ من عِنْد غير هَؤُلَاءِ؛ وضعَ
فِيهِ النّظر.
فَمِنْهَا
أَحَادِيث أبي الزبير عَن جَابر، من غير رِوَايَة اللَّيْث، وَمِمَّا لم يذكر
فِيهِ سَمَاعه، أورد مِنْهَا من عِنْد مُسلم جملَة كَبِيرَة، لم يبين أَنَّهَا من
رِوَايَته، وَهُوَ إِذا روى عِنْد غير مُسلم، نبه عَلَيْهِ، وَبَين أَنَّهَا من
رِوَايَته، وَقد قدمنَا ذكر ذَلِك بِمَا يُغني عَن رده.
وَكَذَلِكَ
سماك بن حَرْب، لم يعرض لَهُ فِي شَيْء مِمَّا أخرج من حَدِيثه من عِنْد مُسلم، وَقد
تقدم أَيْضا بَيَان ذَلِك.
وَكَذَلِكَ
أَحَادِيث أبي سُفْيَان عَن جَابر، وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قُلْنَا الْآن صحيفَة.
وقال
في موضع آخر (2: 168): « والدرك الثَّالِث: هُوَ إِيرَاده حَدِيث ابْن عمر
الْمَذْكُور، وَهُوَ من رِوَايَة حَرْمَلَة وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَمِمَّنْ عيب
على مُسلم إِخْرَاجه».
وقال
في موضع آخر (3: 324): « وَيحيى بن أَيُّوب مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مِمَّن عيب على
مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه».
وقال
في يحيى أيضاً (4: 69): «وَأما يحيى بن أَيُّوب، فَهُوَ أَبُو الْعَبَّاس الغافقي،
الْمصْرِيّ، وَهُوَ مَن قد عُلِمَتْ حَالُه، وَأَنه لَا يُحْتَج بِهِ لسوء حفظه،
وَقد عيب على مُسلم إِخْرَاجه، وَمِمَّنْ ضعفه أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو
حَاتِم: لَا يحْتَج بِه».
وقال
أيضاً في (3: 394): «ومطر الْوراق كَانَ يشبه فِي سوء الْحِفْظ مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَقد عيب على مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه».
فكلام
ابن القطّان واضحٌ في أنّ وجود الحديث في الصحيحين؛ لا يعني تركَ البحثِ عن علله!
وقال
في موضع آخر (4: 37): «هُوَ حَدِيث فِي إِسْنَاده فُليح بن سُلَيْمَان، وَهُوَ ضَعِيف،
وَإِن كَانَ البُخَارِيّ قد أخرج لَهُ، مِمَّن عيب عَلَى البخاريِّ الْإِخْرَاجُ
عَنهُ، وَأرَاهُ كَانَ حسن الرَّأْي فِيهِ، فَإِنَّهُ قد تجنب الدارورديَّ، فَلم
يخرج عَنهُ إِلَّا مَقْرُوناً بِغَيْرِهِ، وَهُوَ أثبت عِنْدهم من فليح.
قَالَ
ابْن معِين فِي فليح: لَا يحْتَج بِهِ، هُوَ دون الدَّرَاورْدِي.
وَقَالَ
أَبُو دَاوُد: لَيْسَ بِشَيْءٍ، روى ذَلِك عَنهُ الرَّمْلِيّ.
وَقَالَ
السَّاجِي: إِنَّه يَهِم، وَإِن كَانَ من أهل الصدْق».
أقول:
هذا النصّ واضحٌ بأنّ وجود الحديثِ في صحيح البخاريّ؛ لا يستلزم تركَ البحثِ عن
علله!
وقد
أخرج البخاريّ لفليحِ بن سليمان هذا (53) حديثاً، منها ما توبع عليه، ومنها ما
تفرّد به، ومذهب هؤلاء الأئمّة أنّه لا يحتجّ بما يتفرّد به!
وهذا
ما فعله الإمام مسلم، فلم يحتجّ بحديثٍ واحدٍ لفليح، إنما أخرج له خمس رواياتٍ
متابعةً، فانظرها (240، 839، 891، 2382، 2770).
وهذا
ما فعله مسلمُ بأحاديث عكرمة مولى ابن عبّاس؛ فإنه لم يخرّج له في صحيحه، سوى حديثٍ
(1208) من طريقين، كان في كلٍّ منهما مقروناً.
بينما
أخرج البخاريّ لعكرمة (139) رواية بالمكرر، منها ما توبع عليه عكرمة، ومنها ما
انفرد به.
فماذا
عليَّ أو على غيري من الباحثين، إذا رجّح مذهب ابن معين ومسلم وأبي داود والساجي
في أحاديث فُليح، ورجّح مذهب مسلمٍ على مذهب البخاريّ في عكرمة، فلم يقبل منه إلّا
ما توبع عليه؟
وأيّ
إجماعٍ سخيفٍ يدّعى، مع ما تقدّم ذكره، عن هؤلاء الأئمة الكبار؟
إنّ
الجهل والعصبيّة الحمقاء؛ هي التي تقود أولئك اللئامِ إلى التشويه والتشويش!
وسنتابع
الكلام في هذه المسألةِ، حتى لا نبقي عذراً لعالمٍ أو جاهل!
إن شاء الله تعالى.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد
لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق